الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الكتابة.. من وحى الحبر والرصاص

حرف

تعد الحرب وسيلة، وليست غاية فى حد ذاتها، قد تلجأ إليها الأمم والشعوب دفاعًا عن نفسها، ومقدراتها، ولا شك أن حرب السادس من أكتوبر ١٩٧٣ تمثل أشرف الحروب وأنبلها فى عصرنا الحديث، حيث خاض الجيش المصرى العظيم معركته المصيرية ضد العدو الإسرائيلى، دفاعًا عن الكرامة الوطنية، واستعادة للأرض، وتعزيزًا لإمكانية المجاوزة للعثرات والتحديات، والقدرة الفريدة للجيش المصرى وعقيدته القتالية الراسخة، وتلاحمه مع شعبه، فى تشكيل ملحمة النصر بدأب، وصبر، وتخطيط علمى مدروس، وتوظيف دقيق لجميع الإمكانات المتاحة من أجل معانقة الانتصار، والظفر به، وهذا ما تحقق ببسالة الشجعان، ودماء الشهداء التى روت كل حبة رمل فى سيناء الغالية.

ثمة علاقة جدلية بين سردية الحرب والفن، فالحرب لحظة يقرر فيها المصير الإنسانى بامتياز، بدءًا من المستوى الفردى للجندى فى ساحة المعركة، ووصولًا إلى المصير الجمعى للشعوب، والمآلات التى تستقر عليها.

ولطالما شكَّل الأدب ميدانًا وسيعًا للحروب، وخلق سرديته الخاصة التى يمكن أن نسميها بـ«سردية الحرب»، حيث تشظى الإنسان المعاصر فى مواجهة آلة المحو والفناء. وإذا كان سؤال الأدب الأساسى الذى سيظل يبحث عنه دائمًا متمثلًا فى جملة «جورج لوكاتش» الأثيرة «ما الإنسان؟»، فإن سردية الحرب قد شكلت ثيمة مركزية فى الأدب العالمى، ليس بوصفها استجابة جمالية للحظات قاسية ومخيفة، أو بطولية وشجاعة فى حياة الإنسان الفرد فحسب، ولكن بوصفها- أيضًا- تعبيرًا متماهيًا، أحيانًا، مع استكشاف الجوهر المخبوء للإنسان الفرد.

وربما عبر الأدب أيضًا عما لم تذكره مدونات الحروب، وفلسفاتها، واستراتيجياتها القتالية، وخططها العسكرية، وآثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، حيث كشف الأدب عن المسكوت عنه، أو ما لم يقله المؤرخون العسكريون، مبرزًا الظلال النفسية داخل سيكولوجية الشخوص على نحو ما نرى مثلًا فى رواية إريك ريمارك «كل شىء هادئ على الجبهة الغربية». فـ«باول» ورفاقه متقدون بالحماسة، والعاطفة الجياشة للقتال، بفعل الخطابات العاطفية لمعلمهم الذى يرى حتمية انتصار ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى. لكن الأمور لم تسر كما أرادوا؛ فالمعارك تدور حول مساحات مقتطعة بالكاد، وجغرافيا قابلة للتغير بين عشية وضحاها، فلا هم انتصروا، وليس ثمة هزيمة بالمعنى المطلق. وهكذا هى الحرب التى أدرك الكاتب الألمانى «ريمارك» سرها الدفين. غير أن «باول» نفسه قد تغير، وصار أكثر تأملًا فى المصاير العبثية التى يراها كل يوم، والمآلات المقبضة التى يشاهدها لرفاقه أو حتى للآخرين. فعندما يجد نفسه فجأة فى مواجهة جندى فرنسى، يكون أمامه خياران: إما القتل، أو القتل، فيقرر أن يكون القاتل وليس القتيل، لكنه يزداد تعاسة بعدها، فلا شىء يهم، ربما النجاة وحدها هى ما حفزته على البقاء.

ويصبح «باول» فريسة لصراع الإقدام/ الإحجام حيث التردد اللا نهائى، لكن ليس ثمة طريق للعودة، وخاصة أن الحاضنة الاجتماعية الممثلة فى قريته قد افتقد أنسها المعهود، وصار غريبًا فى زياراته القليلة لبلدته، وعاجزًا عن الإجابة عن التساؤلات الدرامية لأبيه الطامح إلى انتصار تاريخى للألمان، حتى لو على جثث المزيد من الجنود الذين من بينهم «باول» نفسه فى مفارقة روائية تعد إحدى آليات السرد داخل النص هنا.

تتسع جغرافيا السرد فى الرواية ما بين الجبهة، والبلدة، وتحتل ميادين القتال المسكونة بالجثث والمصابين، والناجين من جحيم أرضى سببته الحرب. المتن الكمى الأبرز فى السرد، هستيريا أطلق عليها «هستيريا القذائف» تحاصر الجميع.

ثمة لحظات حميمية تتمترس حول الأم بشكل محدد. ففى الزيارات العابرة للبلدة التى قرر «باول» ألا يعود إليها فى أى إجازة مقبلة، تصبح الأم هى آلية التواصل الوحيدة مع هذا العالم. ومن ثم يتسع الاغتراب النفسى بوفاتها، حيث انفصال «باول» عن البنية الاجتماعية المحيطة به، بل شعوره العارم بالإخفاق، جراء فشله فى تحقيق ما يريده، واعتقاده بعد عامين من الحرب أنه ليس ثمة جدوى فى العالم والحياة. ومن ثم يأخذ الاغتراب النفسى بُعدًا وجوديًّا يكشف مأزق الإنسان المعاصر أمام اللحظات المأساوية الكبرى التى يواجهها، فى ظل عالم شديد القسوة والقتامة.

قد حظيت موضوعة الحرب فى أدبنا العربى بحضور واعد داخل المدونة الإبداعية، حيث يمكن لك أن تستعير تاريخًا من الحروب سطرها الشعر الجاهلى، وفى الأدب الحديث ستجد حضورًا للحرب بوصفها إطارًا سرديًّا، من قبيل ما نراه فى روايتى «خان الخليلى»، و«زقاق المدق»، للروائى الفذ نجيب محفوظ. حيث دارت فضاءات الرواية زمنيًّا على خلفية من أحداث الحرب العالمية الثانية، والتأثيرات البعيدة/ القريبة من عموم المصريين. وهناك أيضًا ما اصطلح على تسميته بـ«أدب أكتوبر»، حيث الروايات والمجموعات القصصية التى عززت معنى الفداء والتضحية، والشعور الوطنى بعد الانتصار المصرى فى حرب السادس من أكتوبر ١٩٧٣م. وقد اتخذ معظم الأعمال هنا طابعًا تسجيليًّا، يرصد بطولات الجنود، وصناع الانتصار المجيد. غير أن ثمة أعمالًا إبداعية لم تخلُ من متعة فنية على نحو ما نرى فى رواية «الرفاعى» للروائى جمال الغيطانى، التى تجعل من القائد المصرى إبراهيم الرفاعى، قائد ومؤسس المجموعة ٣٩ قتال، مركزًا لها. وهناك أيضًا رواية «الحرب فى بر مصر» للروائى يوسف القعيد، وقد اتخذت منحى مغايرًا فى الطرح الروائى عبر تعاطيها مع الداخل المعبأ بالوجع، والتناقضات.

إن دراسة النصوص الإبداعية التى تعاين موضوعة الحرب بحاجة إلى درس منهجى مستقل، يتم فيه تناول الأعمال التى كتبها جنود مشاركون على الجبهة، وكثير منها منشور، وبعضها لم ينل حظه من الذيوع والانتشار على الرغم من الجودة الفنية التى تمتع بها. 

إن خلخلة السائد والمستقر، وجعل الحرب موضوعة مركزية داخل النص، واستعارتها بحسبها عنوانًا على عالم ممتد هو عين ما تعنيه «سردية الحرب»، وما تمثله من تبيان للمآلات والمصائر، والكشف عن مأزق النفس البشرية، واحتمالها توترات اللحظات الدرامية المعقدة، حيث جدل الحياة والموت، والقوة والوهن، والوجود والعدم، فى ظل عالم يتحول إلى آلة جهنمية تغاير آلة جان كوكتو، وتصبح أكثر توحشًا، وتدميرًا.