إدوارد سعيـد.. الحاضر دائمًا
يعد إدوارد سعيد أحد أهم النقاد والمفكرين فى تاريخ الثقافة المعاصرة، ويصل البعض إلى الجزم بأنه واحد من أبرز عشرة مفكرين فى العالم فى القرن الماضى، وبعيدًا عن الصيغ المدرسية التى تضع كاتبًا، أو ناقدًا، أو مفكرًا ضمن مجموعة محددة من بين الأكثر تأثيرًا فى مجريات الفكر الحديث فى العالم، فهى صيغة ممجوجة، ولا تمت للتفكير المنهجى بأية صلة، على غرار أفعل التفضيل التى يستخدمها الكثيرون فى سبيل امتداح جهد إبداعى أو فكرى لأحد المثقفين. وإن ظل إدوارد سعيد أحد أهم الذين طوروا الفكر المعاصر، خاصة الدرس النقدى والمعرفى فيما يتصل بدراسات أدب ما بعد الاستعمار، وكانت أطروحته للدكتوراه عن الرواية الملهمة لجوزيف كونراد «قلب الظلام»، دراسة مؤسسة فى هذا الإطار، وقد حواها كتابه «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية»، ومن اللافت أن سعيد قد عاد فى كتابه العمدة «الاستشراق» لقراءة كونراد من جديد، وفق معطيات علمية حملت زخما معرفيا متصلا بتخليص موضوعته المركزية «الاستشراق» من الآثار غير العلمية، والنظر إليها بوصفها موضوعة كلية الطابع، تتباين داخلها الخطابات. وتتعدد، من كونراد فى الأدب إلى اللورد كرومر فى السياسة، وهكذا.
يبدو كتاب إدوارد بعنوانيه الرئيسى «الاستشراق». والفرعى «المعرفة.. السلطة.. الإنشاء»، عملًا علميًا ذا طبيعة خاصة، حيث يمثل مساءلة منهجية لتاريخ الاستشراق، وتمثلاته الفكرية المختلفة، خاصة فيما يتعلق بتعميم النظرة إلى العرب، والتعاطى معهم باعتبارهم خطرًا داهمًا على الغرب.
وكانت أطروحة إدوارد سعيد المهمة حول ما سماه «شرقنة الشرق» قراءة علمية للذهنية الغربية التى تعاملت مع الشرق بوصفه موضوعًا مصمتا للبحث والنظر، وبوصفه كيانا جامدا أيضا، فلا تكتفى بتثبيت صورة ذهنية عنه، ولكن تسعى لتعميمها أيضا، وتكريسها فى ذهنية الشرقيين أنفسهم، لكى يعتقد الشرقيون أنفسهم بالصورة ذاتها التى يروجها الغرب عنهم!.
وقد قدم إدوارد سعيد دفاعا رصينًا وممنهجًا عن الحضارة العربية والإسلامية يعجز عن صنعه الكثيرون. وربما كانت السجالات التى دارت بينه وبين المفكر الاستعمارى برنارد لويس شاهدة على هذا الإطار، وقد نال إدوارد سعيد ما نال من العنت، والتعسف، والنبرة الاستعلائية التى اتسم بها خطاب خصمه الفكرى اللدود برنارد لويس، والذى وصف كتاب الاستشراق فى أكثر من موضع، حاملًا الفحوى ذاته الذى تجلى فى تعليقه الأولى العابر، والمقتضب حين نشر سعيد كتابه: «عدا عن سوء نية سعيد، فإن جهله راعنى».
وبعيدًا عن التجهيل لإدوارد من قبل لويس، وتطور الخطاب إلى شكل من أشكال الاستعداء والتحريض للمؤسسة الأكاديمية ضد مؤلف الاستشراق، فإن برنارد لويس صاحب مؤلف «الساميون وأعداء الساميين» انطلق من موقف عقائدى محض، مشفوعًا ببعض التصورات العلمية، ولذا كان حديثه عن النقد السعيدى «نسبة إلى إدوارد سعيد»، مبتورًا، ولم يكن فى عمق ما طرحه إعجاز أحمد على سبيل المثال فى كتابه «الاستشراق وما بعده.. إدوارد سعيد من منظور النقد الماركسى»، حين أشار إلى عدم قدرة إدوارد سعيد على تمثيل ميشيل فوكو على نحو كامل، وهى فرضية دقيقة، فالصلة بين صنيع إدارد سعيد فى الربط يين الحلقات أو الدوائر الثلاث التى وضعها فى العنوان الفرعى لكتابه المثير للجدل «الاستشراق»، وأعنى دوائر «السلطة.. المعرفة..الإنشاء»، تعتمد فى جانب مركزى منها على أطروحة ميشيل فوكو «المعرفة قوة».
غير أن خطورة الهجمة الفكرية والأكاديمية الشرسة التى شنها برنارد لويس على إدوارد سعيد، أحد أهم المنافحين عن القضية الفلسطينية، والذى وصفه روبرت فيسك بأنه الصوت الأكثر فاعلية فى الدفاع عن الفلسطينيين، تكمن فى كون برنارد أحد موظفى الأيديولوجيا بامتياز، عبر علاقته الوطيدة بالمحافظين الجدد فى الولايات المتحدة الأمريكية، واضطلاعه بدور حيوى فى رسم خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط تضمن التفوق النوعى لإسرائيل، وتعزز من فرص الانقسام فى عالمنا العربى.
كان برنارد لويس، وباختصار، يتخلى عن الاستشراق العلمى لصالح السياسى داخله، ولمصلحة الأيديولوجيا التى يعمل فى إطارها أيضًا.
إن تأملًا جديدًا للواقع العالمى الراهن، ربما يفتح الباب لنظرات جديدة تكمل صنيع المفكر إدوارد سعيد، فالواقع الدولى صار أكثر تعقيدًا، وهناك محاولة لتمرير خطاب الاستشراق الجديد، والمتكئ فى جانب منه على بعض آليات الاستشراق القديم، بدءا من التفكير بدلا من الشرقيين أنفسهم، والانطلاق من ذلك إلى التكريس لصورة نمطية يأخذها الشرقى عن نفسه، متجاوزًا النزعة الأكاديمية الاستشراقية الاستعمارية المحضة التى دشن لها كثيرون من أبرزهم برنارد لويس،
وإذا كان للويس كتابات مختلفة بشأن تفتيت العالم العربى وتقسيمه والتكريس لصيغة/ مشروع الشرق الأوسط الجديد، فإن الآليات هذه المرة تبدو أكثر سفورًا، حيث تحتضن بعض الإدارات الغربية التنظيمات المتطرفة، وتتعامل مغها بوصفها مخلب قط فى تصدير الأزمات للعالم العربى، المشارك فى الكارثة من خلال أسلفة المجال العام. نحن الآن أمام الموجة الأسوأ من موجات التحالف المشبوه بين الرجعية والاستعمار، يعتمد فيها الاستعمار الجديد على القوة الغشوم عبر دعم التنظيمات المتطرفة من جهة، والخطاب المراوغ من جهة ثانية، وبينهما عشرات الأسئلة المطروحة على واقعنا العربى الذى يجب أن يلتفت ساسته الوطنيون ومثقفوه الحقيقيون لما يحاك لبلدانهم، وثقافاتهم الوطنية من مخاطر.
كان كتاب إدوارد سعيد «العالم والنص والناقد» ملهمًا للكثير من النقاد والباحثين، حيث يمثل نظرة وسيعة ومعمقة للفكر النقدى، وللنظرية الأدبية المعاصرة.
ولا يمكن ذكر إدوارد سعيد من دون الإشارة إلى مؤلفه المهم «صور المثقف»، وقد بدا إدوارد سعيد مشغولًا دائمًا بمعنى المثقف، وتعبيره عن محيطه الاجتماعى، والمثقف لديه يجب أن يكون أعلى تمثيلات الحقيقة، وهو أيضا عينة ممثلة لجمهوره، فلا يجب أن يخذلهم.
وتتعدد صور المثقف وتتنوع، وكم من كتابات ومؤلفات عديدة سيقت فى هذا الاتجاه، كان إدوارد سعيد حاضرًا فى متنها بكتابه اللافت المشار اليه «صور المثقف»، وكانت ثمة كتب أخرى عن آخر المثقفين ودور المثقف وغيرها، وكان هناك راسل جاكوبى وكتابه «نهاية اليوتوبيا»، وكان هناك كتاب جوليان بيندا «خيانة المثقفين»، وكان الرطان ممتدا ولا يزال بفعل سطوة الأيديولوجيا، وتحولات النخبة، وصعود الاتجاهات الأصولية، وتنامى نزعات التطرف، والعنف بتنويعاته اللفظية والمادية، والانتقال من عالم الحداثة إلى ما بعدها، وسقوط المقولات الكبرى، أو هكذا تم تسويق الأمر، كل شىء كان معدًا لاستقبال خطاب جديد، عدا المثقف نفسه الذى صار بعض ممثليه تابعين للاتجاهات الرجعية فى العقل العام، وهذا يوجب أن يكون العقل العام جزءًا من بناء جديد، يعد المثقف أحد صناعه وممثليه والمعبرين عنه بالأساس.
ويفصل إدوارد سعيد بين أنماط عدة للمثقفين، فهناك المثقف الذى يضع نفسه ضمن أدوات السيطرة، وهناك المثقف التقليدى، وهناك المثقف النخبوى. وتبدو تصورات إدوارد ذاته عن المثقف غير منفصلة عن حركته فى الفضاء العام ووفائه لكل القيم الإنسانية الكبرى، حيث الحق، والخير، والجمال، وفى تأثيره الملهم والممتد حتى الآن.