الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إلياس خورى.. روائى السرديات الكبرى

إلياس خورى
إلياس خورى

- لبنان وفلسطين يمثلان عالمًا أثيرًا لدى خورى ويشغلان الحيز السردى الأهم داخل مدونة نصوصه السردية

فى خضم المأساة الفلسطينية، وحرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل على قطاع غزة، يرحل الروائى والناقد والأكاديمى اللبنانى إلياس خورى، وقد أطلق صيحته الشهيرة «النكبة المستمرة»، وهو عنوان كتابه الصادر فى العام ٢٠٢٣ عن دار الآداب البيروتية، وربما تعين الصيحة ذاتها على فهم دلالات الحاضر، حتى وإن استعانت بالماضى فى تفسير ما حدث، ويأتى عنوان الكتاب متمترسًا بـ«ال» التعريفية فى الصفة «المستمرة»، والموصوف «النكبة»، وكأنها لبيان راهن غير منقطع، ففى الكتاب تبدو النكبة فعلًا متصلًا، تصادف أن كانت لحظة بدايته الرسمية فى العام ١٩٤٨، لكنه لم ينته، إذ إن الحاضر الفلسطينى مسكون بهذا المنحى النكبوى، ومن هذه التيمة الفكرية ينطلق إلياس خورى، ليفكك الذهنية الصهيونية عبر قراءة الأدب الإسرائيلى، وفى الآن نفسه يصنع بعضًا من الوقفات الممنهجة مع الأدب العربى المقاوم، انطلاقًا من القضية ورصدًا لتداعياتها، وتجلياتها، ومن ثم سيحضر فى الكتاب كلًا من غسان كنفانى، وإميل حبيبى، وغيرهما، مثلما سينتهى الكتاب بسردية حميمة عن محمود درويش، تحمل عنوانًا مكثفَا «موت الشاعر»، وهى سردية شجنية بامتياز، والكتاب فى مجمله يحيى فكرة المقاومة، ويراها أساسًا لدحض تلك «النكبة المستمرة».

يمتلك إلياس خورى مشروعًا روائيًا يخصه، يعاين فيه المقولات الكبرى، وينطلق منها، فالذاتى يتجادل لديه مع الموضوعى، والخاص يتقاطع مع العام، هكذا بدا إلياس فى رواياته المختلفة، من قبيل «عن علاقات الدائرة، رحلة غاندى الصغير، أبواب المدينة، الجبل الصغير، باب الشمس، الوجوه البيضاء، أبواب المدينة، أولاد الغيتو - اسمى آدم، أولاد الغيتو ٢: نجمة البحر»، وغيرها.

لبنان، وفلسطين يمثلان عالمًا أثيرًا لدى خورى، يشغلان الحيز السردى الأهم داخل مدونة نصوصه السردية، هما يتقاطعان، ويتجادلان كثيرًا فى بعض نصوصه، خاصة فى الحكى عن المخيمات، والحرب الأهلية فى لبنان، والموت المتقاطع مع الحياة، والنضال، والاحتلال الصهيونى.

من الفقد الذى يصاحب الفتى منصور فى رواية إلياس الأولى «عن علاقات الدائرة»، إلى الترحال القلق لبطله عبدالكريم الملقب بغاندى الصغير فى «رحلة غاندى الصغير»، وصولاً إلى عمله الأثير «باب الشمس»، حيث إحدى التماعات الرواية العربية المعاصرة، والتى تحولت إلى فيلم سينمائى للمخرج المصرى المبدع يسرى نصرالله.

باب الشمس والأثر المفتوح 

لن يجهد القارئ المثالى بتوصيف المفكر والناقد والروائى الإيطالى إمبرتو إيكو فى أن يجد أكثر من مفتاح للنفاذ إلى جوهر النصوص التى تندرج تحت ما يسمى الأثر المفتوح، فهذا النسق من النصوص ينفتح على قراءات وتأويلات متعددة، وهكذا تأتى رواية باب الشمس لإلياس خورى، لا فى موضوعها العام المبنى على جدل الواقع والمتخيل، اعتمادًا على مرويات من الماضى القريب للنكبة الفلسطينية، والحرب الأهلية اللبنانية، وقسوة الواقع وتحولاته، ولكن فى تكنيكاتها الروائية، ولغاتها المتعددة التى حملت أكثر من مستوى، عبر كل منها عن صيغة حكائية بعينها، فالمونولوج الطويل الذى يشبه التداعى الحر للطبيب خليل، تهيمن عليه صيغة الارتباك والتردد، واللغة تتراوح بين المحو، والإثبات، فليس من غاية أمام خليل سوى أن يستنهض قدرات الفدائى القديم يونس الأسدى من الإفاقة من غيبوبته فى مستشفى الجليل سوى بالحكى.

إن الحكاية هنا تنشيط للذاكرة الخاملة ليونس الأسدى شبه الميت، من لدن خليل نصف الحى، وهى فى الدلالة السردية الكلية للرواية تحفيز للا وعى الجمعى، والذاكرة العربية على استذكار المأساة، وعدم الرضوخ لمآلاتها: «يا أنت. كيف أحكى لك أو معك أو عنك؟ هل أخبرك حكايات تعرفها، أم أسكت وأتركك تمضى إلى حيث تمضى؟ أقترب منك، أمشى على رءوس أصابعى كى لا أوقظك، ثم أضحك على حالى، فأنا لا أريد من هذه الدنيا سوى إيقاظك، شىء واحد ينقصنى، شىء واحد يا الله، أن ينهض هذا الرجل السابح فى عينيه، أن يفتح عينيه ويقول شيئًا.

لكنى أكذب.

هل تعرف أنك جعلتنى كذّابًا؟

أقول لا أريد سوى شىء واحد، وأنا أريد آلاف الأشياء. أكذب لعل الله يشفق علىَّ وعليك وعلى أمك المسكينة. صحيح، نسينا أمك، حكيت لى كل الحكايات ولم تخبرنى كيف ماتت أمك. أخبرتنى عن موت أبيك الأعمى، وكيف تسلّلت إلى الجليل وشاركت فى مأتمه. وقفت فوق التلة المشرفة على قرية دير الأسد، ترى ولا تُرى، تبكى ولا تبكى.

يومها صدّقتك، وصدّقت أن حدسك قادك إلى بيتكم هناك، قبل موته بساعات، أما الآن فلا.

يومها كنت مسحورًا بقصتك، زال السحر ولم أعد أصدّق».

وتتخذ اللغة بعدًا آخر حين يستذكر خليل مأساته الفردية، حيث حبيبته «شمس»، التى قتلتها أياد كثيرة، فى تقاطع مع المأساة الكلية، ويبدو خليل فى ارتباطه بشمس متحررًا من القيود الاجتماعية، متجاهلًا كل إخفاقاتها العاطفية، وتنحو اللغة فى وصف علاقتهما الجسدية وصفًا حسيًا، يعتمد على البوح أكثر من المداراة.

تتخذ اللغة أبعادًا مشهدية تعتمد على خلق الصورة الروائية فى وصف المخيمات الزاخرة بالفقر، والمأساة اليومية المركبة.

تبدأ الرواية الملحمية بصفحاتها التى تتجاوز ٥٢٨ صفحة تقريبًا، بواقعة وفاة أم حسن «ماتت أم حسن»، وهى الواقعة التى تنزع فتيل الحكايات، فنبيلة أو أم حسن ليست امرأة عادية، إنها القابلة التى استقبلت الجميع، وشهدت أولى لحظات عناقهم لهذا العالم، أو لهذه المأساة، وتبدو أم حسن جامعة بين النثار الممتد لشخصيات الرواية من جهة، وللعالم الكابوسى الذى يحيونه من جهة ثانية، وهى تشبه زرقاء اليمامة، ظلت فى بيتها طيلة الأيام الستة فى حرب الصيف السابع والستين، وبعدها خرجت لتمسح الجراح عن المكلومين.

يتجادل زمنان فى السرد، ويتقاطع خطان مركزيان، تشكلهما شخصيتا الرواية المركزيتين «يونس الأسدى وخليل»، ومعهما نهيلة، وشمس، وكلتا المرأتين تحملان طرفًا من العنوان «باب الشمس»، فنهيلة تلتقى زوجها يونس الأسدى فى مغارة أطلق عليها باب الشمس، ويصبح لقاؤهما مغامرة كبرى، تضع يونس على حافة الخطر المستمر فى ذهابه وإيابه، وتضعها موضع الإرباك المستمر، أما شمس حبيبة خليل فهى ككل الشموس الغاربة، تنتهى حياتها بالقتل.

وتبدأ الرواية زمنيًا حسب دلالة نصية داخلها من منتصف التسعينيات، وتبدأ بعدها فى الاسترجاعات الزمانية للحظات فارقة تحددها المأساة الفردية للشخوص، وتعمقها المأساة الجماعية للوطن، سواء أكانت فلسطين أو لبنان.

تتعدد وظائف السرد داخل الرواية من السرد الخبرى المعتمد على المرويات المحكية، سواء عبر خليل أو غيره ممن يحكى عنهم خليل، أو يحكى على لسانهم، إلى السرد التحليلى الذى يسائل الأشياء جميعها، وينزع إلى تفكيك السائد بوعى وجسارة لافتين، من قبيل: «والله لم نحارب، الآن نقول إننا حاربنا، وإن فلسطين ضاعت لأن الدول العربية خانتنا، هذا غير صحيح، فلسطين ضاعت لأننا لم نحارب، كنا كالمجاذيب نحمل بنادقنا وننتظرهم فى قرانا، وعندما يأتون بآلياتهم ورشاشاتهم الثقيلة وطائراتهم، ننهزم دون قتال».

ثمة سردية من الشجن لدى إلياس خورى، تظهر فى معاينته السرديات الكبرى، ومن بينها سردية الوطن الضائع، ويتجلى هذا فى أكثر من موضع سردى، وتبدو اللغة هنا حاملة نزوعًا خطابيًا، سرعان ما يتجه لثنائية المحو والإثبات: «الوطن ليس البرتقال ولا الزيتون، ولا جامع الجزار فى عكا. الوطن هو أن تسقط فى الهاوية، تشعر بأنك جزء من كل، وتموت لأنه مات. ففى تلك القرى المنحدرة إلى البحر، من شمالى الجليل إلى غربه، لم يتصوّر أحد معنى سقوط كل شىء. كانت القرى تتساقط، وكنا نركض من قرية إلى قرية كأننا فى البحر، نقفز من زورق إلى زورق، والزوارق تغرق ونحن نغرق».

وعلى الرغم من وحشية الواقع المحكى عنه، وشراسته يظل للحلم المقاوم حضور ممتد هنا، إنه آخر حبات الأمل لدى إلياس الذى رحل مثلما عاش بلا صخب أو ضجيج «١٩٤٨- ٢٠٢٤»، فاقترن ميلاده ورحيله بالقضية الفلسطينية. وإن ظل لأبطاله وشخوصه وهجًا متصلًا بإمكانية أن يرى الكاتب العالم وفق وجهة نظر لا تهرب ولا تغادر موقعها الاجتماعى، ولا انحيازها الفكرى، والجمالى، والإنسانى.