الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سؤال المعيار.. نظرات فى معاينة النص الأدبي

النص الادبى
النص الادبى

كنت قد أوجبت على نفسى فى المحور الرئيسى الذى صنعناه بشأن «راهن الرواية العربية ومستقبلها» فى منتدى «أوراق» بمؤسسة «الدستور»، هذا المنتدى الذى أطلقته جريدة «حرف» الثقافية التى أعادت الاعتبار للصحافة الثقافية فى مزيج مدهش يُحسب للقائمين عليها، الإجابة عن التساؤل المطروح عن «غياب سؤال المعيار فى معاينة النص الأدبى والنظر إليه»، وهل ثمة معيار بالأساس؟ وما هو؟ وكان هذا التساؤل الدافع للتأمل ضمن الاقتراحات المعدة فى الحلقات النقاشية الخمس التى تشكل منها المحور المركزى فى النقاش.

بداية؛ فإن الكتابة لا تعرف الوصفات الجاهزة، ولا الرؤى المعدة سلفًا، وكان جاك ديريدا يعلن دائمًا عن أن شرط الكتابة ألا تكون بلا شرط أصلًا، غير أن ثمة تصورات جمالية أمكن للمنظرين والباحثين الوقوف أمامها، تبدو معينة على خلق مقاربة موضوعية لهذا التساؤل الخلاق. ومن اللافت فى هذا السياق جميعه، أن سعى النقد الجديد إلى خلق حالة علمية خالصة، جعلته يلجأ إلى التوصيف المنهجى أكثر من إطلاق أحكام القيمة. وهنا لا نتحدث عن أحكام القيمة؛ لأن هذا قد صار من الماضى، لكننا نتحدث عن محاولة فهم أعمق لواقع النص الأدبى وتحولاته، وواقع النظرية النقدية وتحولاتها أيضًا، معتقدين أن كل نص أدبى يطرح منطق التعامل النقدى معه، مثلما يحمل منطقه الجمالى الخاص. 

وفى تراثنا «إن الرائد لا يكذب أهله»، وربما يبدو الناقد هكذا أيضًا؛ ولذا كانت النزاهة سلاحًا مركزيًا للناقد الحقيقى فى تعامله مع النصوص الأدبية، مثلما كانت الجدارة أداته الرئيسية فى معاينة النص الإبداعى.

ويبدو النقد الجديد مشغولًا بالتوصيف المنهجى إذن، وغارقًا فى الإجراءات التقنية، والنزعة النظرية، وهذا ما يجعله أكثر علمية، غير أن تتبع سؤال المعيار فى النقد الأدبى ربما يصل بنا إلى مدى أبعد، عبر مقاربة المناهج النقدية وتصوراتها المتباينة حول جدارة النص الأدبى. 

يبدأ النقد من كونه تمييزًا بين الجيد والردىء، فيحتفظ بجانب معيارى، تم ضربه فيما بعد، لكنه ظل وفق هذا الفهم الأولى مستوى منقوصًا يعتمد الذائقة وحدها، والحكم وحده، دون أن يتطرق للتفسير، والتعليل، والتأويل حول: لماذا هذا جيد؟ ولماذا هذا ردىء؟. فكان النابغة الذبيانى على سبيل المثال يجلس فى سوق عكاظ ليعلن: إن هذا شعر جيد، وهذا ردىء، مكتفيًا بذلك. 

ولم يكن النقد علمًا آنذاك، كانت فحسب ثمة جهود بلاغية تتعاظم باستمرار، وأفادت فيما بعد من التلاقح الثقافى والتأثر النسبى بالفلسفة اليونانية؛ بدءا من قدامة بن جعفر، ولكن ظل هذا المحصول ضعيفًا.

ولم يكن النقد علمًا، إلا مع حركة البعث العلمى فى أوروبا التى ظهرت فى أعقابها الكلاسيكية مذهبًا أدبيًا مؤسسًا، ظل حاضرًا ومطروقًا حتى الآن. وقد اهتمت الكلاسيكية ببعث الآداب القديمة، فبدت مثل عود على بدء، ولكن فى ثياب جديدة، وكان ناموسها وقانونها الأساسى يكمن فى مؤلف فن الشعر لأرسطو، ويكتسى أرسطو بأهمية حقيقية فى الفكر الإنسانى برمته، باعتباره عتبة أساسية.

كانت الكلاسيكية نظامية للغاية، تحتفى بالبناء الصارم، وتتعامل مع الفن من منطق الوحدة العضوية، ومن منظور الوحدات الثلاث، وحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة الموضوع، وكان تجليها الأكثر زخمًا فى المسرح، ونماذجها الباذخة تتعاطى مع الملاحم بوصفها أقنومًا هائلًا، وكان البطل فى الملاحم فى صراع قدرى لا يدرك كنهه، ويدفع ثمنًا لشىء لم يفعله، تحاصره نبوءات العرافين.

كانت الكلاسيكية تستقى تصوراتها من المنطق الأرسطى الصارم، العالم لديها كان سادة أو عبيدًا، حكامًا أو محكومين. حكام تصورهم المأساة «التراجيديا»، ومحكومون تكفيهم الملهاة «الكوميديا»، فليس مسموحًا الضحك على النبلاء مثلًا. وقد حمل هذا التقسيم روحًا طبقية، حاولت الكلاسيكية الجديدة فى أوروبا بعد نشأة الكلاسيكية واستوائها على سوقها التخلص منها.

كان كل شىء يحاول أن يبدو صارمًا، لكن أفلتت الكلاسيكية فكرة التغير نفسها، وتجاهلت الداخل الشعورى واللا شعورى أيضًا للإنسان، وبدأت الرومانسية على استحياء، مشوبة بحذر وقلق، وفى ظروف شديدة التركيب والشجن والرومانتيكية أيضًا، وهى ظروف تختص بسقوط الحلم الإمبراطورى النابليونى الذى انتهى بنابليون نفسه كسيرًا، منفيًا، وهذا التحول فى المزاج العام الذى صار شجنيًا مكسوًا بالهزيمة والإحساس العارم بالخديعة والانكسار.

كانت الرومانسية ابنة لتصور مثالى عن العالم، فالحياة إما ملائكة أو شياطين إما أخيار أو أشرار، وهذا التصور الرومانتيكى الذى أغفل كل المناطق الرمادية والبينية أوقع الرومانتيكية ذاتها فى فلك الاجترار للماضى، والنوستالجيا المستمرة والأسى.

اتخذ سؤال المعيار بعدًا أكثر اتساعًا مع المنهج الواقعى، ربما باتساع الواقعية ذاتها، التى توزعت على أكثر من منحى فى فهم العالم والتعاطى معه، حيث تتعدد دلالات الواقعية وتأويلاتها فى النقد المعاصر، وحسب أرنست فيشر فإن: «مفهوم الواقعية غامض ومطاط. فهى تعرض أحيانًا على أنها موقف، أى على أنها الاعتراف بالواقع الموضوعى، على حين تعرض أحيانا أخرى على أنها أسلوب أو منهج. وكثيرا ما يتلاشى الحد الفاصل بين هذين التعريفين»؛ ولذا يمكننا القول بوجود واقعيات مختلفة، لا تجعلنا أمام مفهوم محدد فى تعريف الواقعية، خاصة مع تعدد زوايا النظر للواقع ذاته وتنوعها، ومن ثم أمكن للباحثين والنقاد تلمس مسارين أساسيين داخل «الواقعية»، وأعنى بهما: الواقعية الانتقادية، والواقعية الاشتراكية.

وتتجه الواقعية النقدية إلى تلمس عناصر الخلل الموجودة فى الواقع، تسائلها حينًا، وتطرح الأسئلة حينًا آخر، لكنها لا تقدم الإجابات الجاهزة فى كل الأحيان. أما الواقعية الاشتراكية فتنطلق من تصور أيديولوجى مسبق ينحاز إلى الطبقات العاملة؛ وقد يتحول معها العمل الأدبى إلى مانفيستو سياسى؛ ما يخرجه من حيز الفن وجمالياته. 

ويورد شكرى عياد تعريفًا محددًا للمذهب الواقعى، يكشف عن جانب أصيل من جوانبه المتعددة، حيث يراه «يعتمد حقيقة خارجة عن الذات، وهى حقيقة العالم المحيط بنا، بكل ما فيه من قوى مادية وروحية، والذى نحاول أن نحيط به بكل ما نملك من أدوات المعرفة». 

ويرى جورج لوكاتش أن الواقعية ليست أسلوبًا، فضلًا عن أنها ليست تكنيكًا للتعبير الأدبى، هى فى الحقيقة نزوع إلى تصوير المشكلات الرئيسية للوجود الاجتماعى والبشرى، فى صورة مخلصة للحقيقة وصادقة مع الواقع الاجتماعى والإنسانى بشكل نموذجى وفنى موحٍ، ومن ثم تصبح الواقعية موقفًا من العالم ومنهجًا فى التعاطى معه.

وفضلًا عن الواقعية الانتقادية، والواقعية الاشتراكية، فإن ثمة واقعية ثالثة، وأعنى بها الواقعية السحرية، وربما تكشف علاقة الفن بالواقع جانبًا جوهريًا فى الواقعية السحرية، فالفن الحقيقى لا يصوغ الواقع صوغًا آليًا أو ميكانيكيًا، وإنما يصوغه وفق زوايا نظر مختلفة ومتعددة، محافظًا على تلك القدرة على الإدهاش اللازمة للفن، والدافعة إلى إثارة ذهن المتلقين، ومداعبة الوجدان الجمعى لهم، عبر رفد النص الأدبى بحكايات أسطورية وعجائبية، تعد فى جوهرها ابنة الخيال الشعبى، وبما يجعل المتلقى أيضًا شريكًا فاعلًا فى إنتاج المعنى، حتى الفن الساعى صوب تغيير العالم، لا يمكنه أن يغادر منطقة «السحر». وتنهض الواقعية السحرية على مزج دال بين الواقعى والأسطورى، ويتواشج داخلها الحقيقى والفانتازى، ويصبح مردها «ليس الواقع العجائبى وإنما الواقع المراوغ»، فيتسع مفهوم الواقع نفسه داخلها، ليستوعب الخيال ذاته، ويندمجان معًا فى بنية سردية متجانسة.

وتبدو الاشتراطات الجمالية هنا غير محددة، وتتسم بالعمومية، كما تظل لازمة لأى نص حقيقى، ومن ثم يبقى التواشج بين الواقع والأسطورة، وحضور العجائبى، والسيريالى، والعبثى سمات جوهرية فى الواقعية السحرية التى تفسح مزيدًا من طاقات التخييل أمام المتلقى من جهة، وتجعل للنص الأدبى منطقًا فريدًا من جهة ثانية، وهذا المنطق الفريد هو فى ذاته يعد تعبيرًا عن جوهرها الثرى الذى يندمج فيه الواقع مع الفانتازيا، ويشكلان معًا جدلًا خلاقًا، يمنح النص مزيدًا من حيوية الاختلاف.

وقد انتعش سؤال المعيار أكثر لدى جورج لوكاتش الذى جعل من الشمول معيارًا حيويًا للأدب الواقعى، حيث يصبح النص لوحة كلية لعصره، تتسم بالإحاطة، ثم غاب سؤال المعيار أو خفت فى أطروحات الحداثة وما بعدها، غير أنه قد تجدد عبر زوايا نظر مختلفة، ومفاهيم أكثر خلقًا وابتكارًا مع صنيع لوسيان جولدمان فى البنيوية التوليدية، حيث لا يمكننا أن نفهم العمل الأدبى بمعزل عن محيطه الاجتماعى، مثلما لا يمكننا قراءته على نحو منهجى إذا أغفلنا السياقات السياسية والثقافية التى أحاطت به، وشكلت عالمه الخارجى. 

فثمة علاقة وثيقة إذن بين السياق الاجتماعى والنص الأدبى، وكل مقولة فى العمل الأدبى إنما تشير إلى خارجها فى الحقيقة، شأنها شأن الشخوص الذين لا يمثلون ذواتهم الفردية فحسب، بل يعبرون أيضًا عن ذات جماعية مأزومة ومعقدة.

ويعد مصطلح رؤية العالم من المصطلحات المركزية عند لوسيان جولدمان فى البنيوية التوليدية، وعبرها تجلت نظرته للنص الأدبى، وتحدد رؤية العالم موقف الكاتب من العالم، وتبرز وجهة نظره، غير أن هذه الرؤية على الرغم من انطلاقها من وعى الفنان/ الفرد؛ إلا أنها تسعى دوما لتخليق موقف جمالى ورؤيوى يعبر عن تصور كلى للعالم، ويسعى صوب استجلاء مجمل الواقع باتساعه الثرى، وتنوعه الخلاق. 

لقد بدا مفهوم «رؤية العالم» حاكمًا للطرح البنيوى، الذى اتخذ بعدًا آخر إجرائيًا باعتداده بالثنائيات المتعارضة التى ينهض عليها النص الأدبى، وإحالة الذات الفردية إلى ذات جماعية، وتعبير البنية الإبداعية عن الأخرى الاجتماعية، وصارت هذه السمات جميعها محددات لفكرة المعيار فى البنيوية التوليدية. 

ويتخذ المعيار وجهة مغايرة لدى أحد أهم مفكرى ما بعد الحداثة فرانسوا ليوتار، الذى تحدث عن طليعية الأدب، ليس عبر الصخب الأيديولوجى الذى أسقطته طروحات ما بعد الحداثة، حيث يبدو الأدب أدبًا حين يتسم بالطليعية التى اكتسبت أفقًا مختلفًا عن فكرة المنظور الطليعى الذى يصبغ النص من زاوية الدلالة فحسب؛ دون أن يتوقف كثيرًا أمام الوعى الجمالى الذى يبقى مزيجًا بين الأصيل والفريد فى توصيف ليوتار.

والأصيل هنا لا يعنى محاكاة النماذج السابقة، ولكن أن يتأسس النص على نفسه، حتى وهو يتناص مع نصوص أخرى ويحيل إلى أفكار أخرى، فإنه يصنع ذلك من أجل المجاوزة والتخطى، وليس المراكمة، والسكونية، والثبات. وبعد.. إن ثمة عملًا كبيرًا ينتظرنا جميعًا إذا أردنا أن نحقق شيئًا ذا بال فى مدونة الفكر والأدب العالميين، يجب أن نكون طموحين للغاية، مشغولين بالمستقبل، طاردين ذهنية الاستنامة والكسل العقلى؛ موقنين بأن الطريق عماده الجدارة والنزاهة، ولا شىء سواهما.