ملتقى الروايـة.. معركة استرداد النفوذ الثقافى
اكتسى ملتقى الرواية منذ بداياته بطابع خاص، على الرغم من كل الصخب والجدل الذى أحاط به؛ فقد ظل هو النافذة الأكثر صدقية فى معادلة الرواية العربية ونقدها، فضلًا عن التعدد المثمر الذى حظي به كثير من جلساته؛ صحيح أنه كان بالإمكان أن يتطور أكثر فى كل دورة، لكنه ظل متماسكًا خلاقًا فى معظم الأحيان، والدورة المزمع عقدها تزامنًا مع معرض القاهرة الدولى للكتاب 2025، يجب أن تتأمل جيدًا الواقع الثقافى المحيط فى مصر والعالم العربى، وتدرك حتمية إقامة دورة استثنائية على جميع المسارات، مستفيدة من تحولات الإعلام الرقمى؛ وتعدد منافذ التلقى، للوصول إلى قطاعات أوسع من الجمهور المستهدف، عبر محاور منهجية، تنظيرًا وتطبيقًا، تتصل براهن الرواية العربية ومستقبلها من جهة، وتحولات الواقع وتجلياته، وانعكاساته على المستقبل واستشرافه من جهة ثانية.
ومنذ أكثر من عامين تقريبًا، ويعلن عن قرب انعقاد ملتقى الرواية فى المجلس الأعلى للثقافة، وتكون المحصلة لا شىء، واللاشىء هذا يعنى كل شىء فى مدونة الفراغ الثقافى؛ ومغادرة التأثير فى المجال العام.
ومن المفارقات الساخرة أن تجد همسًا لدى البعض حول هذه الرسائل التى بعثتها (حرف)، عبر مقال رئيس تحريرها، أو كتابات خمسين روائيًا تعزز من ضرورة تدارك التخبط الإدارى، واستئناف العمل على تحديد موعد ثابت للمؤتمر؛ ولذا فإن ما يجب أن تصنعه الوزارة الآن، ممثلة فى المجلس الأعلى للثقافة، النظر فى المحاور المعدة منذ أكثر من عامين عبر اللجنة التحضيرية لأعمال المؤتمر، ثم الانطلاق إلى تحديد كل شىء بدقة، اتكاء على معايير الجدارة والنزاهة الحاكمة لأى فعل ثقافى جاد، وحقيقى، ومستنير.
إن كل من يتساءل علنًا أو خفية، فى القاعات المغلقة، أو فى جلسات الموظفين الثقافيين؛ عن هذا الاهتمام، «علمًا بأن آخر دورة عقدت لملتقى القاهرة للإبداع الروائى كانت فى أبريل ٢٠١٩» ربما لم يدرك التحولات الثقافية المتسارعة، والزخم الذى يحمله الجدل الممتد ما بين السياسى والثقافى؛ ولم يقف على جوهر اللحظة الثقافية الراهنة فى عالمنا العربى الذى يشهد تنوعًا خلاقًا فى مراكز إنتاج الثقافة العربية، وبما يستتبع من وعى بمحددات اللحظة، وتحدياتها، فالثقافة المصرية تؤمن بالتعدد، والانفتاح على جميع المراكز الثقافية الأخرى، لكنها فى الوقت نفسه تظل حجر الزاوية فى محيطها العربى والإقليمى.
كانت الأصوات التى تحدثت من قبل بشأن تأجيل مؤتمر الرواية، نادرة، ومتناثرة، وكان من بينها ما كتبته منذ عام تقريبًا، وجاء فيه: «إن الثقافة الآن تحيا فى لحظة فارقة من عمر الأمة المصرية من جهة، وفى ظل التحولات المتسارعة فى العالم وفى الثقافة العربية وبروز مراكز جديدة لإنتاج الثقافة من جهة ثانية، أن تلعب دورًا مركزيا فى صياغة خيال جديد، ووعى قادر على الاستشراف، والتخطى، ومن ثم لا تصبح إقامة ملتقيات الإبداع الروائى أو الشعرى ترفًا، وإنما ضرورة تمليها تحديات اللحظة الثقافية ذاتها، وهذا يستلزم وجود سياسات ثقافية واضحة يمكن من خلالها استعادة القوة الناعمة المصرية، ودفعها لتقف جنبًا إلى جنب الخطوات الفاعلة للدولة المصرية فى تعزيز الدور الإقليمى والدولى.
ولعل الخروج من حالة الكرنفال إلى التأثير الفعلى لن يتأتى إلا من خلال امتلاك تصور محدد للواقع الثقافى وما يحتاجه الآن، فضلًا عن الاعتداد بقيم الكفاءة والنزاهة والشفافية، وجميعها مقومات أساسية فى هذا المسار.
يمثل ملتقى الإبداع الروائى العربى فى القاهرة تعضيدًا للدور الثقافى المصرى، ومن ثم يجب أن تكون هناك مواعيد واضحة لإقامته، أما التخبط والارتباك فى الإعلان ثم التأجيل ثم تجاوز الموعد فهذا مما لا يليق بالثقافة المصرية، إن عملًا دءوبًا تفرضه تحديات اللحظة الراهنة، خاصة أن هناك حالة من الإنجاز اليومى للدولة المصرية فى قطاعات متعددة، نتمنى أن تمتد لوزارة الثقافة التى يجب أن تعزز من قيم الثقافة الوطنية وانفتاحها على محيطها العربى والإقليمى، واستعادة تأثيرها القوى فى عالمنا العربى، ومجابهة الأفكار الرجعية والمتطرفة، وبذلك تتحول الثقافة إلى قيمة مضافة إلى متن الدولة الوطنية الجمهورية الجديدة التى أعقبت ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة».
إن ملتقى الرواية ليس مجرد فعالية ثقافية يمكن أن يعقدها مكان ثقافى، لكن الأثر الذى يخلفه الملتقى فى الواقع الثقافى المصرى والعربى هو ما يجب أن يعنينا، وأن نعمل على إنفاذه، وهذا ما يستدعى وجود خطة شاملة تبدأ من المحاور والجلسات العلمية، والموائد المستديرة، وتمتد إلى كتب الأبحاث الخاصة بالمؤتمر وطباعتها بشكل راق؛ وإتاحة الأوراق العلمية المقدمة إلكترونيًا، والاستفادة من زخم الإعلام الرقمى حتى لا نتعلل بضعف الإمكانات المادية، وهى ليست كذلك.
إننا بحاجة إلى عمل جاد، وخلاق باستمرار، وخلق آلية لإدارة الأزمات الثقافية، اعتمادًا على إطلاق طاقات الخيال الإبداعى، وتفعيل آليات التفكير النقدى الخلاق.
وأظن أن رسائل «حرف» قد أسمعت، فليس من سبيل أمامنا جميعًا سوى التكريس لثقافتنا الوطنية، وتعزيز النفوذ المعنوى للثقافة المصرية، واستعادة القوة الناعمة لماهيتها بوصفها الكتلة الحرجة فى معادلة التغير فى المحيط الجيو سياسى/ ثقافى فى المنطقة، والإقليم، والعالم. إن المسألة أعمق من مؤتمر الرواية، وهو وحده جدير بكل تلك الأهمية، إنها تعبير دال على كيفية تخطيط السياسات الثقافية فى لحظة فارقة، بما يتواءم مع التحديات الثقافية الراهنة، والآمال المنشودة حتى تصبح الثقافة علامة خالصة على حيوية الأمة المصرية، ووهجها المتجدد والمستمر.