الطائفى.. كيف صنع محمد جلال كشك الفتنة الكبرى؟
- ساعد على تعميق العصبية الدينية وتم تدريس كثير من كتاباته فى تنظيمات إسلامية متطرفة
- مارس التحريض السياسى والدينى على أحد الرموز الثقافية هو الدكتور لويس عوض
- كان أحد مفكرى كثير من جماعات التطرف التى ابتليت بها بلادنا على مدى عقود عديدة
- هاجم جلال كشك بضراوة على الكتاب المسيحيين بطرق عديدة وليست خالية من العرض التحريضى
فى كتابه «ألا فى الفتنة سقطوا.. تحليل علمى بالوثائق للفتنة الطائفية»، يفخر الكاتب محمد جلال كشك بأن رصيده فى ملف الوحدة الوطنية أكثر من أى كاتب مصرى!، يقول هكذا دون مواربة، وكأنه يضرب مثالًا حيًّا للفقرة الشعرية المنسوبة إلى الشاعر ابن سهل الأندلسى، التى تقول: «كاد المريب أن يقول خذونى»، وهذه هى الفقرة الثانية من بيت الشعر، أما الفقرة الأولى فهى تحقق كل ما تنطوى عليه حالة جلال كشك، وهى تقول:
«هيهات لا تخفى علامات الهوى........كاد المريب أن يقول خذونى».
هكذا كان الكاتب والباحث والصحفى الذى أصبح على مدى طويل، أحد مفكرى كثير من جماعات التطرف التى ابتليت بها بلادنا على مدى عقود عديدة سابقة، وترعرعت واشتد عودها بدعم سياسى ومالى فى عقد السبعينيات من القرن العشرين، ورغم تلويح جلال كشك بأنه ضد التطرف، فإن ذلك الوحش- أقصد التطرف- يطل بوجهه المتجهم من بين جنبات غالبية ما كتبه بداية من بداية عقد الستينيات، مرورًا بكتابه «ودخلت الخيل الأزهر»، الذى صدرت طبعته الأولى فى أكتوبر ١٩٧١ عن دار الزهراء للإعلام العربى، تلك الدار التى أصدرت غالبية كتب جماعة الإخوان المسلمين، وبعد ذلك الكتاب، انفتحت بوابة محمد جلال كشك، لكى يدخل من خلالها كل الكتب التى كرسها للهجوم على محلة الخمسينيات والستينيات، بكتّابها وساستها وكل صحافتها، بما فى ذلك ما كتبه هو نفسه، دون أن يقول ذلك بوضوح، ولكنه يقول إن ما كتبه كان فى شبابه، باعتبارها كتابة شباب أو كتابة طائشة، أو ساذجة، ولكنه يستخدم تلك الكتابات الأولى التى تم تصنيفها بأنها طليعية أو تقدمية وقت اللزوم، أى أنه يستهجنها أو يفخر بها حسب الموقف الذى يجندها لخدمته.
تعالوا نقرأ استهلاله فى مقدمة كتابه عن الفتنة الطائفية، يقول فى صفحة ١٣ «أظن أن رصيدى فى الوحدة الوطنية يفوق أى كاتب مصرى معاصر، بما يسمح لى أن أتكلم بغير غمغمة ولا تقية، وهذا ما فعلته على أية حال، عندما كتبت فى الوحدة الوطنية منذ أربعين سنة، نعم! لقد تصديت لقضية الوحدة الوطنية قبل أربعين سنة وأصدرت أول وآخر كتاب يحمل هذا العنوان الذى يغنى عن التعليق..(مصريون .. لا طوائف)، لقد كان شعارًا وموقفًا قبل أن يكون كتابًا».
وفى ذلك السياق يشكر جلال كشك رفاقه الأقباط الذين كان معه فى ملوى، حيث كان يقيم هناك، وكان وقتذاك عضوًا فى الحزب الشيوعى.. الراية، وعلى رأس رفاقه، يوجه الشكر لزميل له اسمه سمير بقطر، ولا تمر مناسبة الذكرى والشكر دون أن يلمز ويغمز، لأنه يعترف بأن ذلك الكتاب الذى كتبه مبكرًا فى حياته عام ١٩٥١، بعد أن لاحظ تدهورًا فى العلاقات الإسلامية المسيحية- كما يقول-، ويخص بأن ذلك التدهور كان بين الطلبة زملائه، وخاصة من كان منهم من الشيوعيين، ويفترض بأنهم غير مؤمنين، وينقل جلال كشك مضمون الحوار الذى دار بينه وبين سمير بقطر، وقد لاحظ أن معظم أعضاء الحزب فى ملوى- يقصد الخلايا- كانوا من المسيحيين، وعندما سأل زميله سمير عن معنى ذلك، فقال له الزميل، لأن غالبية المسلمين كانوا جواسيس، هكذا يكتب جلال كشك عما يعتقده زميله، وكونه ينقل تلك الواقعة، فهى تشكيك أولى فى شعور أحد الأقباط بزملائه المسلمين، ونقل الواقعة- صحيحة أو كاذبة- ينطوى على خبث من الكاتب، ويعد نوعًا من تأجيج الكراهية للأقباط الذين يظنون الظن السيئ بالزملاء من المسلمين.
ولا يتوقف جلال كشك عند سرد الواقعة، ولكنه يذكر لنا واقعة أخرى منذ زمن بعيد، أى زمن الثورة العرابية، والواقعة منقولة من كتاب «المسيحية والإسلام على أرض مصر» للدكتور وليم سليمان قلادة، والواقعة أوردها د. سليمان، نقلًا عن مقال لتادروس شنودة المنقبادى «ماذا رأيت فى الثورة العرابية»، يقول تادروس: «كان عرابى حامى الديار مارًا ذات يوم فى خط النار بجهة كفر الدوار، فاستوقف نظره شيخ هرم قد حنت الأيام ظهره، فاستدعاه إليه وقال له: يا أبت أنا أرى شيبك لا يسمح بوجودك بين صفوف المقاتلين، فلك أن تستريح كما تشاء، قال له الرجل: كيف تحرمنى من أن أجود بدمى فدية عن بلادى من المغيرين عليها، وأنا وإن كان أولادى الثلاثة هنا أيضًا فى ميدان القتال، ولكنى أود أن أشكرك معهم، فقبله عرابى وسأله عن اسمه فقال جرجس بقطر من أهالى مركز ملوى بالمنيا...»، ويستكمل جلال كشك حديثه متأثرًا بحالتنا التى كانت قبل الاحتلال، ثم آلت إلى ما نراه الآن، ويحاول كشك أن يسرد قدرًا من القصص والحكايات التى تثبت أن مشكلة بلادنا، هى الابتعاد عن الإسلام، «وليس لمصر من دور عالمى إلا الإسلام، فمصر لا تساوى شيئًا دون الإسلام، والذين يريدون إلغاء دورها الإسلامى إنما يقصون أجنحتها، ويشلّون قدرتها على الحركة ويقصفون دورها..»، ورغم أن جلال كشك يستدعى نماذج كثيرة فى الزمن الغابر تثبت أن كثيرين كانوا حريصين على ما نطلق عليه الوحدة الوطنية، ألا يرى بأن تديين الدولة، واختصار دورها فى نشر الدين، علامة على ضرب تلك الوحدة، وزرع بذور الفتنة فى البلاد، ألا يرى بأن المسيحيين والمسلمين شركاء فى ذلك الوطن، وتلك الشراكة التاريخية، هى التى صنعت وجدان المصريين، وجعلت المسلمين حتى الآن يحتفلون بأعياد المسيحيين، وما زلنا نعتمد التقويم الميلادى مقياسًا للزمن فى بلادنا، سنعود لذلك لاحقًا فى المقال.
وأريد أن أوضح بأن الكتاب الذى يفتخر به جلال كشك، والذى صدر عام ١٩٥١، وأهداه إلى أحد أعلام التحرر والتنوير فى ذلك الوقت، وهو خالد محمد خالد، وكثيرًا ما كان كشك يستشهد بالشيخ خالد لكى يقرن نفسه به، قبل أن تشب بينهما الحرائق حول التاريخ السابق، وقد تراجع كشك عن كل أفكار كتبه بشكل عملى فى أوائل الستينيات، كما أوضحنا فى حلقات سابقة، وزاد وغطى على عملية التراجع، التحريض السياسى والدينى على أحد الرموز الثقافية فى مصر، وتشاء الأقدار أن يكون ذلك الرمز مسيحيًا، وهو الدكتور لويس عوض، فعندما صدرت مسرحية لويس عوض «الراهب» فى مطلع عقد الستينيات، وكان قد كتب غالى شكرى مقالًا مهمًا وموضوعيًا وفق منهج علمى، ونشر المقال فى كتابه «ثورة الفكر فى أدبنا الحديث»، وكان عنوان المقال: «ثورة أبانوفر .. الأمير الحائر بين الأرض والسماء»، ويتضح من عنوان مقال غالى شكرى، التوجه الذى اتخذته المسرحية، فهو لم يعتبر القضية القبطية هى الفيصل بشكل قاطع فى المسرحية، ولم يعتبر القضية السياسية أيضًا كذلك، ولكنه استطاع يمزج بين القضيتين فى نسيج واحد، وهذا ما فعله كتاب عالميون سابقون مثل الإنجليزى ويليام شيكسبير فى كثير من مسرحياته، ولكن الكاتب جلال كشك، يصطاد فكريًا ولا يكتفى كما قلنا بقراءة النص الأدبى والفنى قراءة فكرية وسياسية مغرضة، ولكنه يحرّض على الدكتور لويس عوض، فيقول: «.. والمؤلف يريد أن يقول صراحة إنه يتحدث عن مصر المعاصرة، وإنه يثير قضية الحفاظ على اسم مصر فى المعركة الفكرية الدائة فى العالم العربى حول الإقليمية والعروبة،... وفى الشتاء القارص لعام الانفصال عندما كان الرئيس يلتقى ملايين الخطابات تطالب الحفاظ على اسم الجمهورية العربية المتحدة ورايتها العربية، أراد المؤلف أن تظهر العذراء على المسرح بثوب أخضر وفى جبينها هلال وثلاثة نجوم..»، وهنا يحق لنا أن نتساءل عن التنويه بالرئيس فى ذلك السياقين الأدبى والفنى، سوى التحريض السياسى الفج والواضح، ولم يكتف مقال جلال كشك، الذى يأتى كبلاغ كيدى فى لويس عوض بذلك التحريض السياسى، ولكن الإشارة كذلك إلى ظهور السيدة العذراء على المسرح، بمثابة زرع لبذور فتنة فى مناخ يريد الكاتب أن يراه إسلامًيا بشكل كامل، أى التحريض السياسى لدى السلطات، فضلًا عن ذلك التحريض الدينى لدى القارئ العام، وهذا كان توجهًا برز ثقافيًا وفكريًا بقوة فى مطلع عقد الستينيات.
ولا يكتفى جلال كشك بمهاجمة لويس عوض، ولكنه يمد الحبل إلى نهايته، فيهاجم كاتبًا آخر ومفكرًا، عرف بنزاهته وهو غالى شكرى، ويكتب عنه بشكل ينال منه، إذ قال: «ظهر منذ أعوام، ولغير سبب معروف، ناقد.. أغلب الظن أنه مصرى، اسمه غالى شكرى، ماركسى التفكير، عنصرى متعصب، يحمل حقدًا دفينًا على تراثنا، ويتعلق بأقدام الفكر الغربى.. الناقد المذكور، بمناسبة ودون مناسبة، يطعن فى وجودنا الاسلامى مدعيًا التقدمية، ولو استطاع أن يمحو الإسلام من تاريخنا لفعل، فهو ينكر أن يكون له أثر فى ثقافتنا، بل لا يعتبره موجودًا فى التراث الإنسانى..»، ويظل جلال كشك فاتحًا النار بضراوة على غالى شكرى، ومحرضًا عليه كذلك، ولا جريمة لغالى شكرى، سوى لأنه مسيحى، وللأسف، إن غالى شكرى كان بعيدًا كل البعد عن تجنيد كتاباته عن انتمائه إلى الدين المسيحى، ومن قرأ كتاباته، سيدرك ذلك فورًا، شريطة أن يكون قارئًا محايدًا، وليس صاحب هوى متطرف أو غير علمى على الأقل، فجلال كشك راح يكيل لغالى شكرى سلسلة اتهامات عنصرية، لا يستطيع كاتب واحد أن يحمل كل تلك الاتهامات بالعنصرية وكراهية التراث الإسلامى وما شابه، وهو يعتبر غالى شكرى، الذى يكتبه عامدًا- فى ثنايا مقاله- شكرى غالى، بأنه امتداد لأساتذته فى مدارس التبشير التى تعلم بها، لا يسلك الإسلام فى عداد التراث الإنسانى، ولا يعتبر المسلمين عنصرًا لا بد من إضافته فى وضع قوانين للجنس البشرى، ويتناول كشك كتابات غالى شكرى، خاصة كتابه «أزمة الجنس فى القصة العربية»، تناولا غير عادل، وغير أدبى، ولكنه يعتبر كتاباته، مجرد دعاية صليبية فى الأدب العربى، ويؤكد «بديهيات صليبية ينطلق منها سيادة الناقد..»، هذا ما كان يخوض فيه جلال كشك بضراوة، محرضًا على الكتاب المسيحيين بطرق عديدة، وليست خالية من العرض التحريضى.
ولا يتوقف جلال كشك عند العصر الحالى، بل يعود إلى عصر الفتح العربى، ويحاول أن يثنى عنق الحقائق بقوة، منتصرًا إلى ذلك الفتح، ويعتبره تحريرا للمسيحيين من الإمبراطورية البيزنطية، ويعاند كل ما كتبه المؤرخون عن ذلك الفتح، وعن تلك الفترة، واصفا بأن المصريين المسيحيين كانوا يحتاجون إلى ذلك الفتح، وقد يخفى عن كثيرين بأننا نقول «مسيحيى مصر» الآن، وهو مصطلح خاطئ، لكنهم كانوا مصريين، ولم يحدث ذلك التمييز إلا بعد ذلك الفتح الذى فرض الدين الإسلامى بالقوة فى مصر، بالتالى حدث ذلك التمييز، وبدأ تلك الوقيعة بين المصريين جميعا، أى من ظلوا على دينهم المسيحى، وبين الذين اعتنقوا الدين الإسلامى خوفا أو هربا من الجزية، ويقول فى تلك النقطة: «.. ويقف مؤرخو الفتنة عاجزين فى تفسير دخول الأقباط فى الإسلام، وهم الذين كانوا يحرقون بالنار لكى يتحولوا من مذهب مسيحى لآخر، فيختارون الموت ولا يتزحزحون عن دينهم، ويحاول تجار الفتنة أن يجدوا سببًا لتفسير هذه الظاهرة فيسقط فى أيديهم..»، ويسعى جلال كشك، دون كل الأدبيات التى كتبت عن تلك الفترة، مفسرًا بأن الفاتحين العرب المسلمين، كانوا إنقاذًا للمصريين، وهو يحرص على أن يقول عنهم الأقباط، والمجال يطول، ما سنتناوله فى بحث أكثر توسعًا، عن كاتب ترك لنا كتابات كثيرة، تحمل تناقضات عديدة، وأشكالًا من الكتابة التحريضية، وتأثرت بها أجيال متعاقبة تأثرًا سلبيًا، ساعد على تعميق العصبية الدينية، وتم تدريس كثير من كتاباته فى تنظيمات إسلامية متطرفة، وذلك حسب كتابات منشقين، وخارجين عن تلك الجماعات، وتحتاج تلك الكتابات إلى قراءات تحليلية موسعة، سنعود إليها لاحقًا إن شاء الله.