المسافرة عبر الزمن.. ريم بسيونى: قرأت كل أعمال أبى حامد الغزالى لكتابة «الغواص»
- الغزالى شخصية «عبقرية جدًا» واستغرقت 6 سنوات كاملة مع أعماله
- اعتبر نفسه «مُنقذ العالم» وطارد سؤال: «ما الذى نفعله للنجاة؟»
- الكثير من كلام الإنترنت وما كتبه المؤرخون العرب عنه «خاطئ»
- تأليفه 9 كتب فى عام واحد أصابه بإرهاق نفسى واكتئاب وانهيار
أصدرت الدكتورة ريم بسيونى روايتها الجديدة «الغواص.. أبوحامد الغزالى»، عن دار «نهضة مصر للنشر والتوزيع»، والتى تعتبر روايتها الأولى منذ فوزها بجائزة الشيخ زايد للكتاب، عن روايتها السابقة «الحلوانى.. ثلاثية الفاطميين».
فى روايتها الجديدة، تتبع الروائية المشهورة بالأعمال التاريخية خطى حجة الإسلام أبى حامد الغزالى، العالم الجليل فى الفلسفة والفقه الشافعى وعلم الكلام والتصوف والمنطق، والكثير من العلوم الأخرى التى تميز فيها وجعلته يستحق عن جدارة ألقابًا من عينة «حجة الإسلام» و«مفتى الأمة».
عن رحلة البحث فى حياة الإمام أبى حامد الغزالى طوال 6 سنوات كاملة، وما تضمنته من قراءة كل كتب الإمام، إلى جانب رؤيتها الخاصة لهذه الشخصية التى تصفها بـ«العبقرية جدًا»، وإذا ما كانت الكتابة عنها تأتى ضمن مشروع كامل للكتابة عن الصوفية وأهلها، يدور حوار «حرف» الآتى مع الدكتورة ريم بسيونى.
■ كتبتِ عن شخصيات تاريخية عديدة فى رواياتك من بينها المرسى أبوالعباس وأبوالحسن الشاذلى.. ما المختلف فى الكتابة عن أبوحامد الغزالى فى روايتك الجديدة «الغواص»؟
- كنت خائفة وأنا أكتب عن المرسى أبوالعباس فى رواية «ماريو وأبوالعباس»، لأنه أحد أولياء الإسكندرية، والناس تحترمه جدًا، وكنت أريد أن أبين تدرجه فى الصفاء النفسى، وقلت إن القارئ سيشعر بصدق الكتابة، فكتبت ما أراه، وهى كتابة جاءت بعد قراءات طويلة جدًا، إلى جانب وجود أبوالحسن الشاذلى فى نفس الرواية، وهما شخصيتان مهمتان جدًا فى التاريخ.
بعد هذا جاء أبوحامد الغزالى، الذى درسته لمدة طويلة جدًا، وهذه الدراسة جعلتنى أشعر به كإنسان إلى حد كبير. ولم تكن لدىّ رهبة فى الكتابة عنه على الإطلاق، لكن الرهبة كانت فى كيفية الكتابة، لأنه شخصية عبقرية جدًا، ما ولد أمامى تحدٍّ خاص، وهو أن أكتب عنه كلامًا عبقريًا بطريقة سهلة يفهمها القارئ.
هذه كانت مشكلتى الأساسية فى الكتابة عن أبى حامد الغزالى، والتى مثلت أكبر تحدٍّ لى، لم أخشَ الكتابة عنه، ولكن الرهبة لدىّ كانت نابعة من رغبتى فى إعطاء هذا الرجل حقه، وأجعل القارئ يتعرف على هذه الشخصية العبقرية، والتى لا يجود الزمان بمثلها إلا كل ١٠٠٠ عام، ما جعلنى أتساءل: كيف سأكتب ما يجعل القارئ يفهم هذه الشخصية؟
■ ما أهم الاكتشافات التى توصلتِ إليها فى بحثك عن الإمام أبى حامد الغزالى؟
- هناك الكثير من الاكتشافات، التى لا أود الحديث عنها حتى لا «تُحرق» أمام القارئ الذى سيقرأ الرواية. لكن القارئ سيكتشف أن الكثير من الكلام الموجود على الإنترنت حول حياة الإمام أبى حامد الغزالى، وحتى ما كتبه بعض المؤرخين العرب، فيه الكثير من الأخطاء.
نحن نحتاج بالفعل إلى إعادة قراءة سيرة هذا الرجل، والتى أرى أن المشكلة الأساسية فيها هى أن رسائله الخاصة كانت مكتوبة باللغة الفارسية، وهى الرسائل التى لم يجدها المؤرخون العرب لمدة طويلة، حتى تُرجمت فى القرن العشرين.
تخيل حتى منتصف القرن العشرين لم تكن هذه الرسائل مُتاحة، وهى التى كتبها «الغزالى» بنفسه. لذا بالتأكيد فات المؤرخيون جزءًا كبيرًا من حياته، ومن ثم تأتى هذه الرواية لتمنح القارئ نظرة مغايرة عن الإمام، وأحاول فيها أن تكون صادقة ومختلفة عما سيجده على الإنترنت عن حياة الرجل.
البحث الذى أجريته حول الإمام كان طويلًا جدًا، وبسبب وجود هذه الرسائل، قرأت معظم ما كتبه «الغزالى». كل كتاب كنت أقرأه أكثر من مرة، ثم ألخص أهم ما جاء فيه. هذا إلى جانب البحث داخل العديد من الكتب الأخرى عن حياته وشخصيته.
■ هل يمكن اعتبار تأليفه ٩ كتب فى عام واحد من هذه الاكتشافات العبقرية؟
- نعم، أبوحامد الغزالى كتب ٨ كتب فى عام واحد. بل إن البعض يقول ٩ كتب. هذا شىء غير طبيعى، ويعكس كيف كان عبقريًا بشكل لا يوصف. فكتابة هذا العدد من الكتب فى عام واحد طفرة كبيرة. وبعض المؤرخين الأجانب يقولون إنه أُصيب بإرهاق نفسى واكتئاب وانهيار من كمية البحث والكتابة. لا أن أحرق أحداث الرواية، وأكتفى هنا بالإشارة إلى أن عام تأليفه هذا العدد الكبير من الكتب كان العام الذى أصيب فيه أبوحامد الغزالى بالاكتئاب والانهيار.
■ كانت فترة الإمام الغزالى مليئة بالفتن، خاصة مع وجود جماعات فتتت المسلمين مثل «الحشاشين» وغيرها.. كيف ترين هذه الفترة من واقع بحثك؟
- فترة أبوحامد الغزالى مثلت تحديًا كبيرًا فى تاريخ الأمة الإسلامية، فى ظل وجود حرب أهلية طاحنة، فوجود «الباطنية» لم يكن المشكلة الحقيقية الموجودة آنذاك، بل صعوبة الأمر كانت فى الحرب الأهلية الدائرة بين «السلاجقة» أنفسهم، بالتزامن مع وجود تعصب شديد جدًا بين المذاهب السنية نفسها.
كانت هناك حرب بين «المعتزلة» و«الأشعرية»، والمذهبين الحنفى والشافعى، تعصب شديد جدًا، أدى إلى وجود خلافات بين الفقهاء، تكاد تصل إلى الشتائم والتكفير فى بعض الأحيان، وفق ما ذكره «الغزالى» نفسه فى كتبه. وبالتالى، كانت هذه الفترة فترة تحدٍّ شديدة.
وصل الأمر إلى إلحاد البعض ممن رأوا قسوة شديدة فى حياتهم تلك، فراحوا يتساءلون عن جدوى الحياة نفسها، وهل هناك حياة بعد الموت أم لا، وغيرها من التحديات والفتن القوية المتعددة، والتى واجهها «الغزالى» بكل قوة، حتى أنه اعتبر نفسه «منقذ العالم»، كان يرى أنه يلعب هذا الدور بشكل دائم، لذا تجد أن كل كُتبه كانت تدور حول فكرة: ما الذى ينبغى فعله حتى ننقذ العالم؟
■ المرسى أبوالعباس وأبوالحسن الشاذلى والآن أبوحامد الغزالى.. هل يمكن القول إنكِ تسعين إلى مشروع كتابى خاص بأهل الصوفية؟
- مشروعى الأساسى هو الإنسان، التعبير عن النفس البشرية، لكن هناك بعض الشخصيات منحت الكثير من النور للناس، نشرت المحبة والإخلاص فى العالم، وتغلبت على كل هوى النفس، وأرى ضرورة أن نعرفها ونقترب إليها، خاصة فى وقتنا الحاضر.
يأتى على رأس هذه الشخصيات الإمام أبوحامد الغزالى، الذى سبق أن ذكرته أيضًا فى بحث خاص لى معنون بـ«البحث عن السعادة- رحلة فى فكره الصوفى وتاريخ اللغة»، ثم وظفتها بعد ذلك فى رواية «ماريو وأبوالعباس»، وصولًا إلى رواية «الغواص.. أبوحامد الغزالى».
■ من واقع القراءة عن أبى حامد الغزالى لسنوات طويلة.. كيف تناول المؤرخون حياة هذا العبقرى؟
- تناول المؤرخين لحياة أبى حامد الغزالى مُختلف، هناك من انتقده انتقادًا شديدًا، وهناك من أحبه محبة جارفة. أبوحامد الغزالى فيه كل الآراء التى يمكن أن تجدها عند الآخرين. الكثير من الناس أساءوا فهم كلامه، ومثلهم من أحب أو كره هذا الكلام، وهكذا.
■ وما الذى تعلمتِه من رحلة البحث هذه؟
- تعلمت من أبوحامد الغزالى الكثير. تعلمت منه معانى البحث العلمى والمنهجية والموضوعية فى التفكير. وأعتقد أن أهم ما يمكن أن نتعلمه منه هو كيف نفكر تفكيرًا نقديًا، أن نرفض قبول أى شىء يُقال لنا، قبل التفكير فيه ومحاولة فهمه وفهم أبعاده، وبعيدًا عن الآراء المتداولة من حولنا. أى شىء لا بد أن نفكر فيه تفكيرًا علميًا نقديًا. علينا أن ننتقده ونفنده بشكل علمى سليم.
■ لغة السرد فى الرواية أشبه بما كان يتحدث به «الغزالى».. كيف تختارين اللغة المناسبة للحقبة التى تكتبين عنها؟
- طريقة السرد فى رواية «الغواص.. أبوحامد الغزالى» كانت بالفعل أقرب إلى لغة أبى حامد الغزالى نفسه، لأننى قرأت عنه كثيرًا جدًا، حتى أننى ظللت ٦ سنوات كاملة أقرأ كل ما كتبه، وبالتأكيد تأثرت جدًا بما كتب وقال، لدى كتابتى هذه الرواية.
■ أخيرًا.. هل هناك مشروع جديد تعكفين عليه فى الوقت الحالى؟
- رواية «الغواص.. أبوحامد الغزالى» أرهقتنى جدًا، ومنذ صدورها وحتى الآن لم أستطع التفكير فى أى مشروع كتابة جديد، ربما لأنها أخذت منى وقتًا طويلًا جدًا، ما أصابنى بإرهاق كبير، فضلًا عن حاجتى لقراءة وفهم أكثر قبل كتابة أى عمل جديد.
■ لماذا اخترتِ بدرالدين الجمالى للحديث عنه فى رواية «الحلوانى.. ثلاثية الفاطميين»؟
- لدينا شخصيات أثرت فى مصر تأثيرًا شديدًا جدًا، ومع ذلك لم ندرسهم فى المدارس ولم يُكتب عنهم كثيرًا، مثل بدرالدين الجمالى، الذى لم تكن هناك رواية واحدة تتطرق إلى شخصيته الثرية.
لم تكن هناك رواية واحدة تتحدث عن بدرالدين الجمالى رغم أنه شخصية مهمة جدًا فى التاريخ المصرى، فهو الذى أنقذ مصر من المجاعة، ومن حرب أهلية كانت تدور رحاها فى مصر آنذاك، بين الجيشين السودانى والتركى.
فقد استطاع أن يُنهى هذه الحرب، وأن يكوّن جيشًا قويًا فى مصر، إلى جانب بناء العديد من المبانى، وتقسيم مصر إلى ٢٨ محافظة. بالتالى يمكن اعتبار أن تأثيره فينا ما زال موجودًا حتى الآن. ولذلك كان يستحق جزءًا كاملًا من روايتى «الحلوانى.. ثلاثية الفاطميين»، لأنه شخصية مهمة جدًا فى تاريخ مصر، كما سبق أن ذكرت.
■ وماذا عن شخصية جوهر الصقلى التى كتبتِ عنها أيضًا؟
- جرجى زيدان كتب عن فترة من فترات جوهر الصقلى، لكنها كانت كتابة سريعة جدًا. أما حياته بعد فتح مصر وبناء القاهرة، فلم يتحدث عنها كثيرًا.
وجوهر الصقلى أيضًا شخصية استثنائية فى التاريخ. ورغم أنه غير مصرى جاء من جزيرة صقلية، اعتبره المصريون مصريًا، وأحبوه جدًا، ولو كان لدى أحدهم أى مشكلة كان يطلب منه حلها دون أى تردد.
و«الصقلى» فتح مصر، وبنى القاهرة والجامع الأزهر وأبواب القاهرة وقصر الخليفة المعز لدين الله الفاطمى، كل هذا أنجزه فى ٤ سنوات فقط. وحين رجع الخليفة إلى مصر وجد كل شىء جاهزًا تمامًا.
جوهر الصقلى كان لديه إخلاص كبير للخليفة، وكان المصريون يحترمونه جدًا، وهو شخصية موجودة فى التاريخ بقوة، حتى موته فى سن الـ٧٠ من عمره، ودفنه فى مصر. كما أن ابنه «الحسين» أصبح أحد الوزراء فى عهد الحاكم بأمر الله الفاطمى.
كما أننى تحدثت فى رواية «الحلوانى» عن فترة دخول الصليبيين إلى مصر والشام. كان هذا فى آخر حكاية بالرواية، حيث نرى صلاح الدين الأيوبى، الشاب الذى جاء إلى الإسكندرية لكى يحارب الصليبيين، وكيف أقسم بأنه لن يدخل مصر مما رآه من مآسٍ فى الحروب. لكنه رجع وحكم مصر.
■ مع أن كتاباتك كلها تاريخية لا تخلو من لمحة صوفية كبيرة.. لماذا؟
- اللمحة الروحية أو الصوفية أو الروحانية، أو الايمان بالله والبحث عن فهم ما يحيط بنا، موجودة لدى المصريين، وهى من الأفكار الأساسية فى الحياة، لذا فإن روايات مثل «الغواص.. أبوحامد الغزالى» و«ماريو وأبوالعباس»، تطرقتا إلى شخصيات مهمة فى تاريخ الفكر الصوفى.
الروايات الأخرى كانت بها شخصيات مهمة فى تاريخ مصر، مثل «الشيخ أبوالسعود»، الموجود فى رواية «أولاد الناس.. ثلاثية المماليك»، والذى عاصر دخول العثمانيين مصر، وهو شخصية حقيقية، لذا كان لا بد من أن أتطرق إليها، وهو من الشخصيات التى كانت تحمل لمحة صوفية أيضًا.
وحتى شخصية بدرالدين الجمالى ما دفعه لبناء مسجد «الجيوشى» فوق جبل المقطم هو تلك المسحة واللمحة الصوفية والروحية التى كان يحملها، والتى إن دلت فإنها تدل على أنه كان مؤمنًا، ويريد أن يختلى وحيدًا مع الله، فى مكان بعيد جدًا، وغيره الكثير من شخصيات التاريخ الاسلامى كان لديها هذا الحس الروحانى والإيمانى العميق جدًا.
■ فى كتابتك للتاريخ تركزين على موضوع الهوية المصرية.. ما الذى تستهدفينه من ذلك؟
- مصر لديها تاريخ طويل يمتد لآلاف السنين، وهذا جعلها تؤثر ولا تتأثر. تاريخ مصر يجبر أى شخص يأتى إليها على أن «يتمصر»، وفى «يتمصر» هذه تقبل وترحيب من مصر بهذا الشخص، مع إعطائه ما لا يحلم به.
لذلك نعتبر المماليك مصريين، وأحمد بن طولون مصريًا، وبدرالدين الجمالى مصريًا، وجوهر الصقلى مصريًا، خاصة أنهم استقروا فى مصر، ولم يريدوا أى دولة غيرها. مصر بلد «تُمصر» أى شخص، وهو أمر فريد لا يوجد فى أى مكان غيرها.
كيف ترين انتشار الكتابة التاريخية بشكل واسع فى الفترة الأخيرة؟
- أصدرت رواية «أولاد الناس.. ثلاثية المماليك» منذ 8 سنوات، والحقيقة لم أكن أتوقع لها كل هذا النجاح، والحمد لله أنها شجعت الكثيرين على الكتابة فى التاريخ.
هذه الرواية تطرقت إلى التاريخ المملوكى. وأرى أن هناك تعطشًا لفهم التاريخ والقراءة عنه. شىء جميل أن يكتب الكثيرون عن التاريخ. أعتقد أن هذا مفيد فى تثبيت الهوية المصرية.