الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حلم الجنوبى.. سامح الأسوانى: سيناريو «كرم العنب» جاهز.. وننتظر موافقة الإنتاج

عبدالوهاب الأسوانى
عبدالوهاب الأسوانى

- والدى اشترى لى «ألف ليلة وليلة» وقت أزمة مصادرتها بمبلغ كبير لإشباع شغفى بها

- فوجئ بميولى الأدبية بعدما أرسلت إليه خطابًا عن إشكاليات الكتابة الغامضة

- خيرى شلبى حوّل روايته «سلمى الأسوانية» إلى سهرة إذاعية

وكأنّ الروائى الراحل عبدالوهاب الأسوانى سيرة لا تنتهى، فكلما حاولت الإحاطة بتجربته فى جهة، تفتحت أمامك جوانب عديدة فى أعماله وفى شخصيته ومسيرته من جهات أخرى، فلا تستطيع أن تسبر أغوار عالمه الشاسع المتنوع الذى لا يتجسد فقط فى كتابته بل فى حياته وأسفاره وجلساته العامة والخاصة وعائلته وقبل ذلك جذوره الممتدة الأصيلة.

لا يُذكر «الأسوانى» فى مكان إلا وتذكر معه 3 صفات أساسية، الأولى العبقرية، والثانية الثقافة المتينة، والثالثة الجود والكرم الإنسانى، وهى جميعًا صفات تتمازج لتشكل بنيان هذا الكيان المبدع الذى قدم للمكتبة العربية روائع الأدب ما بين الرواية والقصة القصيرة والكتابة التاريخية، فضلًا عن تجربة صحفية يشار إليها بالبنان، ويكفى فقط أن تطالع كتاباته وحواراته الصحفية مع أعلام الأدب مثل نجيب محفوظ ومحمود شاكر وغيرهما.

ويستعيد القراء هذه الأيام ذكرى عبدالوهاب الأسوانى، مع الاحتفالية التى تنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة غدًا الخميس، فى قريته المنصورية بمركز دراو بمحافظة أسوان، ضمن مؤتمر اليوم الواحد تحت شعار «إبداع يتخطى حدود الزمن»، من أجل تكريم اسمه فى مسقط رأسه الذى شكل مساحة كبيرة من أعماله التى تعرف الناس من خلالها على جوانب خفية فى عالم القبائل العربية فى جنوب مصر، والتى يكاد لم يتطرق إليها كاتب من قبل.

بهذه المناسبة، أجرت «حرف» حوارًا مع الكاتب الصحفى سامح الأسوانى نجل الروائى الكبير، تحدث خلاله عن تنشئته الأدبية تأثرًا بعالم والده الساحر، متطرقًا إلى جوانب من المشوار الإبداعى للكاتب الراحل.

سامح الأسواني مع والده

■ بداية.. ما هى أبرز المواقف التى لا يمكن أن تنساها مع الكاتب الراحل؟

- دعنا نبدأ من نقطة التلاقى، وأعنى التلاقى الأدبى، والتى حدثت بسبب رسالة بريدية كان لها تأثير كبير فى تغيير مسارى وتحديد مصيرى.

سافر أبى للعمل خارج مصر وأنا فى سن صغيرة، وكانت وسائل التواصل وقتها هى الرسائل البريدية، ولم تكن هواتف المحمول قد ظهرت، كما أننا لم نكن نملك هاتفًا منزليًا، وأمى هى من كانت تقوم بهذه المهمة، أى كتابة الرسائل، حتى كبرت قليلًا وأردت أن أراسله، ولم تكن لدى معرفة بكيفية كتابة الرسائل فاستعنت بنماذج الرسائل التى كانت تأتينا من الأقارب فى القرية، وهى رسائل مملة وإنشائية الطابع، ومليئة بالإكليشيهات من نوعية «ومن هنا يهديك الجميع ألف مليون سلام»، وعلى هذا المنوال بدأت أراسل الوالد، وفى إحدى إجازاته فى مصر، طلب منى أن أكتب له رسائل تلغرافية، ولم أفهم المعنى وأوضح أن أحدد مطالبى أو أخبارى فى نقاط وجمل قصيرة، ونفذت الأمر، لكننى مللت من الموضوع وتوقفت عن الرسائل.

ومرت سنوات كثيرة وأصبح الهاتف الأرضى وسيلة تواصلنا، فكان الوالد يكلمنا فى يوم محدد أسبوعيًا.

وكنت قد قطعت شوطًا طويلًا فى القراءة خاصة الأدبية، وبدأ هذا الأمر فى الصغر مع مجلات سمير وميكى ثم ماجد فيما بعد، والمغامرون الخمسة وتان تان، فضلًا عن قراءة ما تيسر من مكتبة أبى.

وأتذكر أننى كنت أتابع أزمة «ألف ليلة وليلة» فى الصحف، كان ذلك منتصف الثمانينيات، وسنى وقتها ١٣ عامًا تقريبًا، حين أقام البعض دعوى قضائية لمصادرة النسخ ومنع بيعها بدعوى أنها مليئة بالفحش والفسوق والألفاظ الخادشة، واهتممت بالموضوع لأن وجدانى تربى على تلك الليالى حين كانت تُبث فى الإذاعة والتليفزيون، بصوت زوزو نبيل، وكتابة محمد محمود شعبان «بابا شارو»، وطلبت من أبى شراءها، وبالفعل اشترى طبعة بولاق وهى من ٤ أجزاء، بأربعين جنيهًا، وكان مبلغًا كبيرًا وقتها، فقد استغل صاحب المكتبة الأزمة وباع الكتاب بثمن باهظ، كما لو أنه يبيع ممنوعات.

واستغرقت فى قراءة العمل، فاستهوانى خياله الجامح وعالمه السحرى الملىء بالأساطير، والحكايات الغرائبية والمصائر المتقلبة، وفى الثانوية العامة قرأت معظم روايات نجيب محفوظـ، وبدأت أتعرف على كتّاب آخرين، من خلال مكتبة الوالد، ثم انتقلت إلى الآداب العالمية والتى كنت أشترى الجديد منها من معرض القاهرة للكتاب.

■ هل كان والدك على علم بانخراطك فى عالم الأدب الذى يعتبر من أعلامه؟

- لا.. ظللت لسنوات أقرأ فى سرى، لا أجد من أناقشه فيما أقرأ، فالوالد مشغول بعمله فى الخارج، وأصدقاء الطفولة ليس لهم فى الأدب، وفى الجامعة كنت شبه وحيد.

وأتذكر أننى جلست فى إحدى حدائق جامعة عين شمس، أقرأ مجلة «إبداع» بعد أن تولى رئاستها الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى والذى كتب فى أول افتتاحية له، أن المجلة ستكون قاصرة على «خاصة الخاصة»، وكان الملف الرئيسى عن الحداثة، ووجدت صعوبة فى فهم السياق وشعرت بأننى عاجز تمامًا وأن لدى قصورًا فى الفهم، هكذا تصورت.

وقطع علىّ شرودى هذا زميل فى كلية الحقوق، ووجدته يقف من خلفى يقرأ السطور الأولى من الملف ويردد: «كلام جميل ومهم»، ولما سألته: «أنت فهمت الموضوع؟»، فقال بثقة: «طبعًا، فالحداثة تعنى من هم أقل من ١٨ عامًا»، ابتلعت غيظى وصمتّ.

بعد تخرجى واصلت القراءة فى سرى أيضًا، حتى وقعت فى يدى رواية لأحد المشاهير، وشعرت بأنها متكلفة جدًا وحكايتها مصنوعة بتعسف، كما أدهشنى أنه «لطش» مشهدًا كاملًا وشهيرًا من إحدى روايات جابرييل جارثيا ماركيز، عندها لم أطق صبرًا، وكنت فى حاجة لمن أكلمه وأبوح له بضيقى.

هنا قررت العودة إلى الرسائل البريدية، وكتبت لأبى عن غياب الصدق الفنى فى الرواية وعن الكتابة الغامضة فى بعض المجلات الأدبية، التى لا يفك طلاسمها إلا لمن تكشفت لهم الحقائق من أهل العرفان، وفوجئت بأن أبى يهاتفنا قبل موعده المحدد بأيام، معبرًا عن دهشته مما كتبت، وفهمت أنه كان قد فقد الأمل فى أن أكون من قبيلته الأدبية، وبدلًا من البحث عن عمل لى فى الشئون القانونية بأى مؤسسة، أصبح الحديث عن عملى فى الصحافة، وقد كانت تلك نقطة تحول كبير فى حياتى.

■ تحولت بعض أعمال عبدالوهاب الأسوانى لمسلسلات درامية فى الإذاعة والتليفزيون.. لماذا لم يكتب بنفسه سيناريوهات أعماله؟

- ربما كان الروائى الكبير الراحل خيرى شلبى هو أول من حوّل عملًا لوالدى إلى الدراما، فقد حوّل رواية «سلمى الأسوانية» لسهرة إذاعية، أخرجها محمود يوسف، وجمعت من الفنانين محمود المليجى وأمينة رزق وجلال الشرقاوى وغيرهم، كما حول السيناريست الراحل محسن زايد قصة «نجع العجايب» إلى تمثلية تليفزيونية، ثم حول رواية «سلمى الأسوانية» إلى مسلسل «الآذان فى مالطا»، بعد أن أخفق فى مشروع تحويل الرواية إلى فيلم من إخراج الكبير صلاح أبوسيف، إذ أن المخرج الكبير تحمس للرواية وسافر مع أبى ومحسن زايد إلى قريتنا، المنصورية، فى جنوب مصر، لمعاينة مواقع التصوير، وبدأ زايد فى كتابة السيناريو إلا أن الشركة الفرنسية التى كانت ستنتج الفيلم أغلقت مكتبها فى القاهرة فتوقف المشروع.

هناك أيضًا تجربة ناجحة جدًا مع الروائى والشاعر سعد القليعى الذى كتب عن رواية «النمل الأبيض» سيناريو لمسلسل إذاعى وآخر تليفزيونى بعنوان «ورد النيل»، وقد انتهى منذ فترة من كتابة سيناريو مسلسل عن رواية «كرم العنب»، وفى انتظار أن تقره شركة الإنتاج.

أما لماذا لم يكتب أبى السيناريو؟ هو فى الحقيقة فعل ذلك، فقد حوّل روايته «اللسان المر» إلى مسلسل تليفزيونى من إخراج علوية زكى، لكنه واجه أزمة، فقد كتب ٧ حلقات، على نسق السباعيات التى كانت معروفة فى الإذاعة وقتها، لكن المخرجة طلبت ١٣ حلقة، وهو ما أوقعه فى ورطة، وشعر بأنه سيلجأ إلى المط والتطويل، لهذا قرر أن يتوقف عن كتابة السيناريو لأعماله.

■ كتب عبدالوهاب الأسوانى كثيرًا عن أسوان وقريته المنصورية.. هل ترى أن هذا كان نوعًا من الحنين للجزيرة؟ ولماذا فضل السكن فى الإسكندرية والقاهرة؟

- كان جدى لأبى صاحب تجارة واسعة فى الإسكندرية، امتلك مخزنًا لبيع المياه الغازية وألواح الثلج للباعة الصغار، الذين يبيعون المياه للمصطافين والثلج لأصحاب محلات البقالة والأسماك والخضار والأهالى، ثم صار «متعهدًا» أى تصله بضائع المياه الغازية والثلج من المصانع التى يوزعها على أصحاب المخازن، وكان جدى يصطحب أسرته إلى الإسكندرية فى فترة الصيف، أى ٤ أشهر، ثم يقضى باقى العام فى القرية.

وسافر أبى إلى الإسكندرية وهو فى «اللفة»، بصحبة العائلة، ولما كبر قليلًا وأصبح فى سن الخامسة عشرة، وبعد أن خالط أبناء المدينة ممن يقرأون المجلات ويترددون على دور السينما، بدأ يتخلف عن العودة إلى القرية، بحجة أنه سيدير أعمال والده، وكان هذا الأمر يسعد جدى فقد كان يعد ولده لأن يخلفه فى تولى تجارته التى اتسعت جدًا، إذ كان بالإسكندرية ٦ متعهدين فقط، جدى واحد منهم، وكانت منطقة توزيع بضاعته تبدأ من الشاطبى، عند حدود محطة الرمل، إلى آخر معسكرات مصطفى كامل.

فى الإسكندرية وجد أبى عالم القراءة، وهو عالم غير موجود فى قرانا البسيطة الطيبة، على الأقل فى فترة الأربعينيات وما بعدها، واستغرق فى قراءة التاريخ، الذى وجد فيه من الدراما البشرية ما يفوق كل المآسى الإغريقية، على حد وصفه، هذه الدراما هى ذاتها خميرة الموهبة الروائية لديه، أما طحينها فكانت قريته بناسها وعاداتها وتقاليدها، وقريته جزيرة نيلية تقع فى مواجهة معبد كوم أمبو، وتنتمى إلى أسوان الصعيدية، أهلها لا يعرفون لغة غير العربية، وتقاليدهم تختلف عن تقاليد النوبة، وكذلك أزياؤهم، وخاصة أزياء النساء التى تشبه أزياء نساء الصعيد فى قنا وسوهاج وأسيوطـ، أى أنه نشأ فى مجتمع عربى يخالط الصعيد أكثر مما يخالط النوبة.

فى هذا المجتمع تأثر الوالد بأبيه وجده لأمه، والثانى كان أحد قضاة العرب، يأتيه المتخاصمون من القرى المجاورة لإنهاء مشكلاتهم، وكذلك كان يفعل جدى، ففى فصل الشتاء يقضى أيامه فى استقبال المتخاصمين يصلح بينهم، وكان العمدة والمشايخ يحولون إليه أى بلاغ يصلهم فيقوم هو بدور قاضى العرب، ويتحمل هو نفقات هذا الاستقبال من الذبائح والولائم التى هى من أخص عادات قضاة العرب، وهى من أشهر شيمه التى عرف بها فى القرية والمدينة، وكانت لدى جدى قدرة مدهشة على مصالحة الأطراف المتخاصمة، حيث يحفظ تقاليد المنطقة عن ظهر قلب، ويعرف أنساب العائلات، فى بلدنا والقرى الأخرى التى تصل إلى محافظة قنا، كأى مؤرخ متخصص، ويحفظ الكثير من الأشعار الشعبية التى تدعم ما يقول، سواء فى الأنساب أو القضية المطروحة.

فى هذه الأجواء نشأ الوالد الذى استفاد كثيرًا من مجالس الصلح فى معرفة أسرار المجتمع وعاداته وتقاليده ومشكلاته وطريقة تفكيره، تشربها بلا وعى فى البداية ثم تأملها فيما بعد، لذا كان طبيعيًا أن يكتب عن جزيرته التى خبرها جيدًا.

نسيت أن أخبرك بأن أبى كان شغوفًا بالفنون والآداب الشعبية جدًا، وتحديدًا السيرة الهلالية التى كان يحفظها عن ظهر قلب، وأخذها من أحد رواة قريتنا.

أما لماذا ظل فى الإسكندرية، فقد أشرت إلى أنه أعجب بعالم الأدب والفنون فى المدينة الساحلية، وقد اضطرته الظروف الاجتماعية للسفر إلى القاهرة للعمل فى الصحافة بعد أن انهارت تجارة والده، ولم يكن أبى مستعدًا للعمل فى التجارة بعد أن نشر أعماله الأدبية الأولى، كما أنه لم يتعلم الزراعة كى يعود للعيش فى قريته.

■ هل هناك أى مخطوطات لأعمال لم تُنشر لعبدالوهاب الأسوانى؟

- كتب الراحل رواية قبل سنوات بعيدة بعنوان «أصحاب العيون الزرق»، تدور عن مجتمع المهمشين من الصعايدة فى الإسكندرية، لكنه رفض أن ينشرها لأنه لم يقتنع بها، لكنها ظهرت بشكل مختلف فى رواية «كرم العنب»، وهو عمل ملحمى على حد وصف الكاتب الكبير أحمد الخميسى، به الكثير من الشخصيات والمحاور التى يمكن أن تُحوّل إلى أكثر من مسلسل.

أيضًا هناك مخطوطة لرواية تحمل اسمًا مؤقتًا هو «جوليا»، لكن العمل لم يكتمل للأسف.