الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

وائل السمرى: حصلت على أوراق صاحب فكرة السد العالى فجعلته بطلًا لروايتى

وائل السمرى
وائل السمرى

 - عثرت على أرشيف المهندس المصرى اليونانى لدى تاجر «روبابيكيا»

 - اشتريت وثائقه بكل ما لدىّ من أموال.. وبيتى تحول بسببها إلى مخزن

 - الوثائق ضمت رسائله إلى المعتمد البريطانى والملك فاروق وعبدالناصر

أهم ما يميزه قدرته على التطور وتطويع أدواته ومواهبه، فقد عرفه الوسط الأدبى شاعرًا مُجيدًا، وتعرف عليه القراء كواحد من أهم الصحفيين المشتغلين فى ملف الثقافة فى فترة من الفترات، وتوسعت شهرته ككاتب ومبدع له حضوره وبصمته، وتجلى آخر نجاحاته فى إصدار أول رواية له فى هذا المجال الذى يقتحمه بجسارة.
إنه الكاتب الصحفى والشاعر والروائى وائل السمرى، الذى أصدر مؤخرًا روايته الأولى «لعنة الخواجة»، عن الدار المصرية اللبنانية، وتدور أحداثها التى تقع فى 670 صفحة، عن الحياة الدراماتيكية للمهندس المصرى من أصل يونانى أدريان دانينوس الذى ابتكر فكرة تنفيذ مشروع السد العالى وسارت الفكرة حلمًا بالنسبة له، وسعى طوال حياته لتحقيق ذلك الحلم.
وأجرت «حرف» حوارًا مع وائل السمرى، كشف خلاله عن الكواليس الدرامية لكتابة تلك الرواية، وكيف عثر على أوراق ذلك المهندس الذى تدور حوله الحكاية فى سوق للروبابيكيا ليصنع منها عملًا روائيًا يمزج بين التأريخ والأدب.
■ من يطالع الرواية سيرى أنك لم تكتفِ بسرد قصة حياة أدريان دانينوس، لكنك ألفت خطًا دراميًا موازيًا بحكاية «ناصر الحسينى» الصحفى الذى عثر على الأرشيف.. كيف بنيت هذا العمل؟
- كان من المفترض أن تكون قصة الصحفى الذى عثر على تراث «دانينوس» قصة إطار، كما فى «ألف ليلة وليلة»، لكنها تحولت إلى متن موازٍ خدمت القصة التاريخية وشحنتها بعيون جديدة وأبطال جُدد.
ولأننى لم أشأ أن أسرد تاريخًا فحسب، أردت أن تكون الرواية إنسانية فى المقام الأول، يتشارك فيها إنسان الماضى مع إنسان الحاضر فى الألم والتجربة، فقد كان أكثر ما أحزننى هو أن أجد تراث رجل كهذا لدى تجار الورق، وأن يعرض فى السوق لمن يشتريه لأعلى سعر، وهذه ظاهرة أحلم بأن تنتهى نهاية سعيدة، بأن نحفظ التاريخ ونصون كرامة الإنسان، ونثرى بها تراث الوطن.
■ «لعنة الخواجة» مشروع كبير لرواية صدرت فى ٦٧٠ صفحة.. كيف كانت تجربة كتابتها؟ وما العوائق التى قابلتك خلال السرد وكيف تغلبت عليها؟
- كانت التجربة مبهجة ومرهقة، فهذه أول مرة أجرب الشكل الروائى بعد «ديوانى شعر ومسرحية شعرية وكتاب نثرى»، ومن خلال هذه التجربة اكتشفت سحر هذا الرواية وجمالها، كما اكتشفت عذاباتها، خاصة حينما يكون العمل الذى تنوى كتابته يحتاج إلى بحث كبير ويغطى فترة زمنية لم تعاصرها ويتناول أحداثًا تاريخية جدلية، وهناك عذاب من نوع آخر، هو أنك فى النهاية لا تكتب تاريخًا لكنك تكتب «فن» له منطقه وله جمالياته، وهذا شىء أشبه بشعرة معاوية، لا تريد أن يجذبك التاريخ فتنسى الرواية، ولا أن تغرق فى الرواية فتنسى التاريخ.


■ هل اتساع المدى الزمنى للرواية هو الذى أدى إلى هذه المعاناة؟
- المدى الزمنى من جانب ومحاولة لم شتات قصة البطل التاريخى للرواية من جانب آخر، فأنا لم أجد مذكرات جاهزة لأعيد تحريرها ولم يتناول أحد من قبل حياة هذا الرجل ومعاناته بتفاصيلها الكثيرة، وبهذا اعتمدت اعتمادًا كليًا على استنطاق الأوراق والرسائل والوثائق التى وجدتها، وهو ما زاد الصعوبة فهذا الرجل عاش نحو ٩٠ عامًا، منها ما يقرب من ٧٠ عامًا فى العمل العام، وقد كان مريضًا بالتوثيق، كما لو كان يعرف أن هناك مهووسًا آخر سوف يقرأ هذه الأوراق ذات يوم، فكان يحتفظ بكل ورقة تأتى إليه، كما يحتفظ بصورة كل ورقة يرسلها أو يكتبها، بداية من رسائله إلى «المعتمد البريطانى اللورد كتشنر» والملك فاروق والنحاس باشا والنقراشى وغيرهم قبل الثورة، ثم جمال عبدالناصر ورفاقه بعد الثورة.
■ قصة أدريان ألبير دانينوس تحتاج للكثير من القراءات والمراجع.. كيف بدأت حكايتك معها؟
- ما حدث معى يشبه ما حدث مع ماركيز تمامًا، فقد كان ماركيز يريد أن يجرى تحقيقًا صحفيًا عن موت «سنتياجو نصار» فلم يكتبه وكتب بعد ذلك رواية «وقائق موت معلن» وبنفس الطريقة بدأت القصة عن طريق المصادفة، فقد أسست منذ سنتين عبر جريدة «اليوم السابع» حملة صحفية كبيرة تحت عنوان «لن يضيع» لإنقاذ تراث رموز مصر، وفى هذا السياق حاولت إنقاذ ما تبقى من تراث سمير صبرى من الروبابيكيا، وكذلك حدث مع المفكر الكبير زكى نجيب محمود والفنان التشكيلى حسين بيكار، والكاتبة نعمات أحمد فؤاد، والفنان نور الشريف وغيرهم، وفى ليلة شتوية فى يناير ٢٠٢٣ عثرت على أرشيف أدريان ألبير دانينوس صاحب فكرة إنشاء السد العالى لدى أحد التجار، فهالنى ما رأيت، وقررت شراءها بكل ما لدىّ من أموال وقتها، وحملتها على دفعات حتى وصلت بها إلى بيتى الذى تحول إلى مخزن، وحينما بدأت فى فرز الأوراق اكتشفت أن التغطية الصحفية لن تكون الطريقة الأنسب لعرض قصة هذا الرجل ومأساته، ولا أخفى عليك فإنى تعاطفت معه جدًا وشعرت بأن هذه القصة لا بد أن تروى بشكل إنسانى، ومن يومها وأنا أعيش معه.
■ كثيرًا ما تشير إلى أرشيف مصر الضائع وكوارث بيعه، والذى يتحكم فيه التجار فى أسواق الروبابيكيا.. بعد كل ما قرأت فى هذا الشأن.. كيف ترى وضع الأرشيف المصرى؟ وما السبل الناجعة لحفظه؟
- هذه مأساة كاملة الأركان، فكل يوم نعيش قصة جديدة حزينة تخبرنا بضياع جزء كبير من أرشيف شخصياتنا التاريخية المؤثرة ورموزنا الفنية والسياسية والثقافية، ومن خلال خبرتى فى هذا المجال أستطيع أن أقول لك إن ما نعرفه أقل من ٥٪ مما يحدث فى الواقع، ففى كل يوم يضيع أرشيف كبير من الصور والوثائق والكتابات، والمؤسف أن بعضها يهرب للخارج، وبعضها يذهب إلى مصانع إعادة تدوير الأوراق، ولك أن تتخيل أن كل ما عثرت عليه من كتابات زكى نجيب محمود وتراثه أنقذته من مفرمة الدشت، وأثناء قيامى بحملة «لن يضيع» للحفاظ على تراث رموز مصر، اقترحت على الدكتورة نيفين الكيلانى، وزير الثقافة السابقة، وقتها أن ننشئ متحفًا كبيرًا يضم هذه المقتنيات والأوراق تحت اسم «متحف الخالدين» لكنها مع الأسف تحمست فى البداية، ثم فتر هذا الحماس بعد ذلك، والحل من وجهة نظرى أن نعجل بإنشاء هذا المتحف وأن يكون متحفًا شاملًا متكاملًا، به معامل للترميم ومخازن مخصصة وأرشفة تقليدية ورقمية وإدارة للنشر والمعارض، فنحن أغنى دول العالم «تاريخيًا» لكن للأسف هذا التاريخ يضيع شيئًا فشيئًا.

الكاتب وائل السمرى وسط مقتنيات الفنان سمير صبرى


■ كان من الممكن أن يكون العمل كتابًا توثيقيًا عن حياة «دانينوس».. لماذا فضلت نشرها فى رواية؟
- هذا سؤال جوهرى ومهم، وقد كان اختيارى فى السابق، كما ذكرت لك، أن أكتب عدة تحقيقات صحفية حول هذا الرجل وأن أصدر هذه التحقيقات فى كتاب توثيقى بعد ذلك، لكن بعد قراءتى الأوراق تأثرت إنسانيًا بشخصية أدريان دانينوس، وتعاطفت معه بشدة، كما تأثرت بهذه النوعية من «الأجانب المتمصرين» الذين نسوا أصولهم الأجنبية وذابوا عشقًا فى مصر وأرضها وتاريخها وشعبها، فهذا الرجل «منتخب حضارات» أبوه عالم آثار كبير كان مساعدًا أول لميريت باشا مؤسس مصلحة الآثار المصرية، يحمل الجنسية الفرنسية وولد فى الجزائر وهو فى ذات الوقت صاحب أصول يونانية، لكن ابنه أدريان مصرى بحكم المولد والمنشأ، وقد عاش أدريان فى مصر عصورًا مختلفة، فشاهد مصر الخديوية، شاهد الاحتلال، وشاهد مصر «السلطانية»، كما شاهد الملكية والثورة، ومع ذلك اختار بمحض إرادته أن يكون مصريًا، وأن ينفق شبابه وأمواله من أجل مصر، وهو ما ورطنى معه إنسانيًا بشكل كبير، ولهذا اخترت الشكل الروائى التاريخى لأبرز الإنسان قبل العالم أو المفكر.
■ هل ترى أن الرواية الحديثة تصلح كمادة للتوثيق؟
- بالطبع أنا لا أعتبر الرواية مصدرًا للتوثيق، لكنى أستطيع أن أؤكد لك أن كل المعلومات التاريخية التى وردت فى روايتى «حقيقية»، وأن المراحل الأساسية التى مر بها أدريان ألبير دانينوس أثناء رحلة اكتشاف فكرة السد العالى من واقع المستندات والوثائق التى عثرت عليها، وفى الحقيقة هذا اختيار لا ألزم به أحدًا غيرى، لكنى فضلت أن ألتزم حرفيًا بالتاريخ أو على الأقل بالأحداث المفصلية فى حياة دانينوس بما حدث بالفعل، لكنى بالطبع تدخلت روائيًا فى وضع الإطار الدرامى وفى ابتكار بعض الحوارات والشخصيات والأحداث لتسير الرواية فى مسارها الفنى الصحيح، وبذلت جهدًا كبيرًا فى أن أجعل ما أضفته من شخصيات وحوارات تبدو كما لو كانت حقيقية أو إن شئت الدقة «حتمية»، وفى النهاية أستطيع أن أقول لك إن أكثر من ٧٥٪ مما ورد عن قصة أدريان دانينوس حقيقى، أما قصة الصحفى الذى عثر على الأوراق فهى مختلقة بالكامل، لكنى فى ذات الوقت تعمدت أن أخلط بينها وبين الواقع، وأن أورد أسماء شخصيات وأحداث فى العصر الحديث، لتكون قصة «دانينوس» حقيقة لا تعرف أين يسكن الخيال فيها وتكون قصة «ناصر» خيالًا لا تعرف أين تسكن فيها الحقائق.
■ نشرت العديد من الوثائق عن زكى نجيب محمود وبيكار وصالح جودت وزكريا أحمد وسمير صبرى وغيرهم.. فلماذا كان «دانينوس» من وسط كل هؤلاء الذى فضلت كتابة رواية عن وثائقه؟
- الدراما هى السبب، فحينما بدأت فى قراءة الأوراق، رأيت بعينى ما عاناه هذا الرجل من صعاب من أجل أن يهدى مصر فكرة السد العالى، فهذا الرجل كان «ابن باشوات» ورث عن أبيه مائة ألف جنيه فى سنة ١٩٢٥ خلاف العقارات والأراضى، لكنه أنفقها كلها على مشروع السد العالى لإثبات جدية الفكرة وتحقيقها علميًا، وليست السد العالى فحسب، بل حاول أن يدفع مصر إلى استغلال الطاقة الشمسية، وإلى عمل مشاريع للصرف المغطى، وإلى استخراج المعادن من الرمال السوداء، وكلها مشاريع تحاول مصر الآن أن تدخل إلى غمارها، بعد نصف قرن من وفاته. وبرغم أفكاره النيرة ونواياه الطيبة قابلته الحكومات المتعاقبة قبل الثورة بتعنت غريب، فحارب من أجل إجبارها على تنفيذ المشروع، واضطر إلى مقاضاة حكومة النقراشى باشا والنحاس باشا وإلى عمل جماعات ضغط عالمية وإلى مخاطبة صحف العالم ومؤسساته حتى يتقبلوا الفكرة، كما أنه فى سبيل هذه الفكرة تعرض إلى الكثير من الظلم والتعنت.
■ أعدت فتح قضية المهندس دانينوس وكأنك تريد الإشارة لجهده الذى لم يقدر كما ينبغى؟
- بكل تأكيد، فمثل هذا الرجل يستحق أن يخلد فى التاريخ، وأن نعده رمزًا من رموزنا، وأن يصبح سفيرًا لتلاقى الشرق بالغرب، فهو امتداد للحالة الهيلينستية التى حدثت بين مصر واليونان، لكنه مع ذلك تعرض للكثير من الظلم فى السابق، وبرغم أن «السادات» حاول أن ينصفه فى كتاب «البحث عن الذات» وأن محمد حسنين هيكل صرخ أكثر من مرة من أجل منح هذا الرجل ما يستحق من تكريم، لكن التعتيم عليه كان أقوى وأقسى، وبالنسبة لى فإن الاحتفاء بالإنسان المصرى هو احتفاء بقيمة الوطن ذاته، فمن صنع الهرم مصرى، ومن شق قناة السويس مصرى، ومن عبر خط بارليف مصرى، ومن بنى السد العالى «مصرى» ومن عانى من أجل تحقيق الحلم مصرى وإن كنا نطلق عليه لقب خواجة.

الروائى الكبير «إبراهيم عبدالمجيد» قدم روايتك قائلًا «هذه ليست رواية.. هذه سيرة للزمن» كما وصفها بـ«الملحمة».. فما شعورك؟
- هذا سؤال صعب، فمنذ البداية وأنا أتعامل مع هذه الرواية بعاطفية شديدة، والآن بعد أن صدرت أشعر بارتباك شديد، فأنا لا أعتبرها رواية، لكنى أعتبرها رسالة فى زجاجة قذف بها أدريان دانينوس إلى البحر فتلقفتها بعد نصف قرن من وفاته، وبرغم أنى تأثرت جدًا بكتابة هذه الرواية ومر علىّ الكثير من لحظات الأسى والشجن، لكنى فى النهاية سعيد بالرسالة النهائية.