عمرو منير: المؤرخون يتعالون على الإعلام وتركوا الساحة لـ«الحكواتية»
- القطيعة بيننا وبين التراث جعلتنا نعيش فى عالمين من دون واصل
- مَن يخفى جزءًا من التراث كمن يطمس آثار الفراعنة
- تحريم نشر كثير من الكتب القديمة بداعى الألفاظ المكشوفة «سخف»
- على المبدع البحث عن جنته لا أن يجدها.. وشعوره بالوصول لها «خطر»
له باع كبير جدًا فى تحقيق التراث، ويحفل عمله فى هذا المضمار بالكثير من الإنجازات والاكتشافات، يأتى فى مقدمتها تحقيق سيرة مجهولة للحاكم بأمر الله فى 20 جزءًا، والتى يترقب إصدارها بـ3 لغات خلال العام الجارى، إلى جانب نشر أول سيرة شعبية من فولكلور الأقباط، والعمل على كتب أخرى عن الطب والجنس والحب والتسول فى العصر المملوكى، وغيرها الكثير.
إنه الدكتور عمرو منير، الكاتب والأستاذ الجامعى، الذى يهتم كذلك بالكتابة فى أدب الرحلات، إلى جانب جهده الكبير فى التراث وتحقيقه، وهو ما كان له الفضل فى حصده الكثير من الجوائز، من بينها الجائزة العربية للإبداع الثقافى فرع التراث والدراسات التاريخية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لعام 2014، وجائزة تحقيق التراث الأولى عن كتاب «قصة فتوح البهنسا الغراء» عام 2012، وجائزة تحقيق التراث القصصى لعام 2016، بجانب جائزة ابن بطوطة الدولية لأدب الرحلات، وجائزة سعاد الصباح لأدب الرحلات 2008.
فى السطور التالية، تحاور «حرف» الدكتور عمرو منير، عن اهتمامه بدراسة علم المخطوطات، وتحقيق التراث والسير الشعبية العربية، مع استعراض أبرز الأعمال التى سيضيفها قلمه الرشيق إلى المكتبة العربية فى هذا المجال، سواء خلال العام الجارى أو المقبل.
■ ما سر هذا الولع بتحقيق التراث؟ وكيف ترى حاجتنا إليه الآن؟
- التراث كائن حى نتنفسه ونعيشه، ويؤثر فينا كما نؤثر فيه، وعلينا أن نبذل جهدًا لا ينقطع لفهمه. ما أقوم به منذ ٢٠٠٥ وحتى يومنا هذا، ويقوم به غيرى من المولعين بالتراث، هو محاولة وصل ما انقطع، لأنه منذ القطيعة بيننا وبين التراث أصبحنا نعيش فى عالمين لا واصل بينهما. ومحاولة «تجسير» الفجوة بين العالمين جهد محمود، فى ظل غياب الدعم السخى لبرامج البحث العلمى فى حقل التراث.
وقد استطعت منذ سنوات فى أن يصل تراثنا العربى إلى القارئ الأوروبى، من خلال أهم وأعرق دور النشر العالمية، وتحديدًا دار «BRILL» فى هولندا، بكتاب «أقدم رحلة شنقيطية مدوَّنة: الرحلة المباركة للحاج محمد البشير بن أبى بكر البُرْتُلِى الولاتى إلى الحرمين الشريفين». وفكرة نشر تراثنا عالميًا تزيد من قناعتى بأننا لا نسمع بعضنا البعض، وإننا لا نقرأ ما يُكتَب خارج دوائرنا الإقليمية الضيقة.
■ من خلال بحثكم فى التراث أهناك ما يمكننا اعتباره «تُراثًا محرمًا»؟ وهل تميل إلى نشره أم بقائه طى الستر وأدراج المحققين للتراث؟
- سأجيبك على مسألة «التراث المحرم» بإجابة قاطعة يقينية: إن من يخفى جزءًا من التراث تحت أى اعتبار يكون كمن يطمس آثار الفراعنة ويمزق بردياتهم بسبب وجود صورة أو كلمة غير ملائمة. تخيل إذا حدث هذا، ماذا ستكون النتيجة؟
علينا أن نتجاوز هذه الثنائيات ونحن نتصدى لقضايا مهمة. هذا إذا أردنا أن نسير إلى الأمام. أما الجرى فى المكان فليس هذا وقته. نريد نهضة ثقافية حضارية لا تلتفت إلى الأسئلة الشيطانية التى يتجدد معها من وقت إلى آخر الحديث عن بعض كتب التراث العربى بشكل مؤسف ومحزن، وتحريم نشر الكثير من كتب التراث العربى بداعى الألفاظ المكشوفة، وما يمكن أن يفسد عقول الشباب وشابات الأمة، ما يعد دليلًا جديدًا لهذا السخف الذى اخترناه لمسيرة حياتنا الثقافية والعلمية.
كان من بين هذه الكتب كتاب «طيف الخيال» لابن دانيال الموصلى «٧١٠ هـ»، والذى يعد من روائع ما خلفه لنا عصر سلاطين المماليك، وقد سبق نشره مبتورًا عام ١٩٦١، بعنوان «تمثيليات خيال الظل لابن دانيال»، على يد الدكتور إبراهيم حمادة، الذى عين نفسه حارسًا للفضيلة وقيِّمًا على أخلاق المجتمع باتهام الكتاب أن «به ألفاظًا مكشوفة، ولا يمكن إثبات بعضها أو التلميح إليها».
بذلك تعرض الكتاب للبتر بدعوى التحريم، رغم وجوده منذ مئات السنين، وخلالها قرأه الناس دون أن نسمع أنه أفسد عقل جيل أو حرض على انحلال المجتمع. لذلك حرصت على إعادة تحقيقه ونشره فى «BRILL» العالمية بهولندا، إلى جانب نشر كتاب «الفاشوش فى أحكام قراقوش» كاملًا دون حذف، وذلك فى القاهرة عام ٢٠٢١.
■ بعد رحلتك الطويلة مع التراث كيف ترى واقع تراثنا العربى؟ هل كان تراثًا خاصًا ومنغلقًا؟
- باختصار، واقع تراثنا العربى هو جزء من واقع ثقافتنا العربية، واقع مأزوم، لأنه لا يوجد اهتمام كافٍ بالتراث، ولا يوجد عدد كاف من المثقفين للتعامل معه بحرفية وحيادية وموضوعية، ولا يزال هناك كم كبير من الأعمال التراثية لم تُحقق ولم تُنشر بعد، ولم تخضع إلى النقد والدراسة والتحليل.
ويتوارى الاهتمام بالتراث لصالح الأعمال الأدبية الأخرى، فى ظل غياب مدرسة تاريخية مصرية مُدرَبة بشكل كافٍ للتـــخاطب مع عامة الناس وجمهور القراء. فلا يوجد لدينا مؤرخون أو محققون لهم أدوار فاعلة، أو يسهمون بمقالات فى الصحافة أو الإذاعة أو التليفزيون، لنشر الوعى المعرفى بتراثنا وتاريخنا.
المدرسة التاريخية والتراثية المصرية الآن لا تتفاعل مع الصحافة، ولا تخاطب الجمهور بشكل شائق وكافٍ، وكأنها تتعالى عن ذلك، وإن أرادت فهى غير مُدرَبة على التواصل مع الناس عبر الصحافة والإذاعة والتليفزيون و«السوشيال ميديا»، ليتركوا الساحة لـ«الحكواتية» فقط دون وعى معرفى بالتاريخ.
■ كأديب ومبدع.. كيف رأيت النصوص الصوفية التى زخر بها تراثنا؟ هل كانت صوفية مكتوبة حقًا، أم أدب تصوف أصحابه فخلعوا صوفيتهم على كتاباتهم؟
- الصوفية والأدب الصوفى صنوان لا يفترقان، فجزء من الصوفية هو كيفية التعبير عن حالة التصوف ذاته، وكل ما أنتجه الصوفيون أدب، حتى لو لم يفهمه العامة. بل أقول إن جزءًا من المشكلات التى تعرض لها الصوفيون، وعلى رأسهم الحلاج صاحب المأساة، كان بسبب القصور عن الفهم، بالإضافة طبعًا إلى تسييس ما لا يُسيس، وهنا كانت المأساة الحقيقية، أن تحاول الفهم بعقل قاصر ويكون بيدك السيف، فلا أنت أعملت العقل، ولا وضعت السيف فى موضعه.
■ عمرو منير الباحث فى الأسطورة والتراث الشعبى هل وجد ضالته الأدبية والكتابية؟
- على الكاتب والمبدع عامة أن يبحث عن ضالته وجنته لا أن يجدهما، بل إن من الخطورة أن يستشعر الوصول، فالبحث والسعى هما ما يمنحانه الدافع للإبداع ويستفز الإلهام لديه. لكن من جهة أخرى، مدن الأسطورة والتراث الشعبى هى جنتى التى ما زلت أحاول استكشافها.
هى جنتى كثيفة الشجر دون شجرة محرمة، وكلما أكلت من إحدى هذه الشجرات، بدت لى أخرى ترادونى للنيل منها، أكثر جمالًا. وبعيدًا عن المجاز والخيال، الأسطورة والتراث الشعبى فعلًا مَعين لا ينضب، ومهما أخدت منه تكتشف المزيد، من الأدب للتاريخ للثقافة للحكمة لغيره من مجالات وعلوم.
■ مَن استثمر فى مَن؟ الباحث الأكاديمى استثمر الأديب فى مشروعه التراثى؟ أم استخدمه التراث لكشف النقاب عن حكايات وسير شعبية مطموسة؟
- الأديب إذا حضر ساد وقاد، فالباحث الأكاديمى له دائرة محدودة وهدف أكثر وضوحًا وتحديدًا. أما الأديب فهدفه دائمًا متطور ومتجاوز، وكلما وصل إليه قال هل من مزيد؟ ولأننى شغوف بدراسة الحكايات والسير الشعبية العربية الشائقة التى تطرح الأسئلة العميقة جدًا، دفعنى ذلك للنبش فى المتوارى من تراثنا.
بالفعل وقفت على مخطوط مهم من جزأين عن أول سيرة شعبية عربية عن تاريخ صلاح الدين الأيوبى، وهى سيرة تعود بنا أكثر من مرة إلى فكرة الحقيقة فى تسجيل التاريخ، وتعترف أنه فى بعض ما رواه الرواةُ «كذب»، ولكنه كذب لكى ينقل لنا الحقيقة، ولكى يجعل الواقع الذى بالأمس يُبعث من جديد بين ظَهْرانَيْنَا.
■ أثمة مشروع يعمل عليه الدكتور عمرو منير؟
- عملت على تحقيق أول سيرة شعبية للحاكم بأمر الله فى ٢٠ جزءًا، بالاشتراك مع المستشرقة الألمانية كلوديا أوت، وستُترجم إلى اللغتين الألمانية والإنجليزية، وتعاقدنا على نشرها باللغات الثلاث فى إحدى دور النشر الأوربية العالمية.
كما قلت سابقًا، أعدت تحقيق «طيف الخيال لابن دانيال الموصلى» كاملًا، مع BRILL العالمية فى هولندا، إضافة إلى ديوانه «ديوان ابن دانيال الموصلى»، اعتمادًا على المخطوطات الأصلية للكتاب والديوان، والتى وصل عددها إلى ٩ مخطوطات.
ولأول مرة يصدر كتاب «حكاياتٌ شعبية قبطية من مصر العثمانية- سيرة القس نصير الإسكندرانى وابنه مرقس»، أيضًا عن «BRILL»، خلال العام الجارى ٢٠٢٤، وهى أول سيرة شعبية قبطية تؤكد أن للأقباط فولكلورًا وسيرًا شعبية تليق بهم وبتراثهم، إضافة إلى كتاب «القاهرة المملوكية فى بابات ابن دانيال- الطب والجنس والحب فى العصر المملوكى»، والمقرر إصداره عن دار العين فى ٢٠٢٥.
■ هل هناك مشروعات أخرى؟
- انتهيت من تحقيق كتاب «الفاشوش فى أحكام وحكايات قراقوش بين التاريخ والفن والحكى الشعبى»، ولأول مرة يتضمن المخطوط النادر «الطراز المنقوش فى حكم قراقوش ونصوص مجهولة أخرى»، ليخرج النص كاملًا عام ٢٠٢٥، أيضًا عن دار «العين»، احترامًا لمبدأ الحق فى المعرفة. وعن نفس الدار وخلال العام ذاته، اقترب صدور كتاب «اليهود فى سيرة الظاهر بيبرس بين التاريخ والحكى الشعبى»، إلى جانب كتاب «لله يا محسنين- التسول والمتسولون فى القاهرة المملوكية».
واستعد لإعادة طبع بعض الكتب التى حققتها وحصلت على جوائز، مثل «سيرة فتوح البهنسا الغراء»، وهى أول سيرة شعبية تروى الفتح الإسلامى لمدن صعيد مصر، و«سيرة فتوح مصر المحروسة على يد سيدى عمرو بن العاص رضى الله عنه»، وهو أول رواية شعبية تاريخية تروى أحداث الفتح الإسلامى لمدن الوجه البحرى، مع إعادة طبع النص الكامل لكتاب «آكام المرجان فى ذكر المدائن المشهورة فى كل مكان»، وهو كتاب فى الأدب الجعرافى من القرن الخامس الهجرى.
■ لماذا هذه الثقة فى التراث الشعبى والأسطورة؟ وما هذا الإلحاح عليه بشكل شخصى لديك؟
- لأن الموروث الشعبى فى أحد معانيه، فى تصورى، هو نمط من القراءة الشعبية للتاريخ، لأنه يتعلق بأمور تدور حول المجتمع الإنسانى، ثقافته ونظامه الأخلاقى والقيمى من ناحية، ورؤية المجتمع لذاته وللآخر من ناحية ثانية. كما أن الموروث الشعبى يتسم بالبساطة والتلقائية من ناحية ثالثة.
وعادة ما يحمل هذا الموروث الشعبى «نواة تاريخية»، هى فى التحليل الأخير «القراءة الشعبية للتاريخ»، أى أنه يحمل تفسيرات شعبية لأحداث تاريخية، ويحكى عن «أبطال تاريخيين»، من خلال الرؤية الشعبية التى تحمل من الخيال والرموز التى تخدم الأهداف الاجتماعية/ الثقافية ما يجعلها تختلف عن أى «قراءة» أخرى للأحداث التاريخية نفسها.
فالقراءة الشعبية للتاريخ هى قراءة موازية للقراءة الرسمية أو التقليدية، التى تحقق المزيد من الفهم والإدراك لحقائق تاريخ أى أمة، والمصادر التاريخية التقليدية تحمل لنا جزءًا من الواقع التاريخى. أما الموروث الشعبى يحمل لنا جزءًا أو جانبًا غير ملموس من هذا الواقع التاريخى نفسه، ما يسهم فى إعادة الفهم الصحيح للتاريخ الكامن الذى تصنعه الشعوب، ويصحح مسار المؤرخين والباحثين الذين يصرون على تقديم التاريخ فى القوالب القديمة الجامدة، ويدركون أنهم يطرحون نوعًا من البضاعة فى سوق لا تريدها، وعليهم أن يساهموا فى تقديم بضاعتهم بالشكل الذى يناسب العصر، وبالأسلوب الذى يفضله المستهلك، مع الاحتفاظ بأصول البحث العلمى قاعدة لكل هذه المحاولات.
■ كيف ترى مستقبل الأساطير التراثية الشعبية؟ وهل يهدد عصرنا الرقمى شفاهيتها وشعبويتها فى بلادنا العربية؟
- الأسطورة جزء من التاريخ، وجزء من حاضرنا، والتحديات الرقمية مجرد مدخل جديد علينا التواؤم معه، ولا أعلم مما نخاف! إذا كان لديك مجلد من مئات الصفحات يتناول أسطورة، فما المانع من أن تصدره فى أسطوانة مدمجة، أو تضعه على شبكة المعلومات الدولية مترجمًا للغات عديدة؟! يجب ألا نعتبر الجديد كله تهديدًا لواقعنا، فالواقع ليس أفضل أحوالنا، لهذا دائمًا تكون لدينا كلمة «أمل».