الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

شريف شعبـان: هيرودوت ليس «أبو التاريخ» وتجنى كثيرًا على الحضارة المصرية

حرف

- هيرودوت لقب زورًا بأبي التاريخ.. وصدور الشرق القديم فى كتاب واحد كان تحديًا كبيرًا

- منطقة الشرق القديم هي بذرة الحضارة وكتب التاريخ في المكتبة العربية قليلة

قبل أسابيع، أصدر الدكتور شريف شعبان، الباحث فى الآثار المصرية، كتابه الجديد «رحلة إلى الشرق القديم.. مصر وجيرانها فى 3 آلاف عام»، الذى عكف على كتابته منذ 15 عامًا، وبدأت فكرته مع اقتحام المتحف الوطنى العراقى فى بغداد، ومحاولة اقتحام المتحف المصرى وسرقة بعض محتوياته إبان ثورة 25 يناير.

وبحسب ما قاله المحاضر فى كلية الآثار بجامعة القاهرة، دفعته هاتان الواقعتان إلى البحث عن كتب تشرح حضارة الشرق القديم، لكنه فوجئ بخلو المكتبة العربية، أو تكاد من مثل هذه الكتب، مقابل موسوعات أجنبية ضخمة، مثل «قصة الحضارة» للأمريكى ويل ديورانت.

من هنا، قرر الدكتور شريف شعبان الكتابة عن ذلك، فعرّج على الكثير من المراجع العربية والأجنبية، ثم أصدر كتابه الموسوعى المهم سالف الذكر، الذى يكشف عن تفاصيله كافة، فى الحوار التالى مع «حرف».

شريف  شعبـان

■ متى بدأت فكرة كتابك «رحلة إلى الشرق القديم.. مصر وجيرانها فى ٣ آلاف عام»؟

- تولدت لدىّ فكرة الكتاب، والاهتمام بتاريخ الشرق القديم بصفة عامة، فى عام ٢٠٠٣، مع دخول القوات الأمريكية العراق، فى صباح التاسع من أبريل، عندما تعرض المتحف الوطنى العراقى فى بغداد للاقتحام والسرقة والنهب.

وقتها، كنت أعمل على دراساتى العليا فى مجال تاريخ الفن، وأتذكر أن أغلب القطع الفنية المميزة للحضارة العراقية القديمة أصبحت فى خبر كان، لينفتح أمام عينى باب على حضارة عظمى، كنت قد درست إرهاصاتها، لكننى أردت التعمق فيها، لمعرفة مدى اهتمام العالم بمفرداتها.

تجدد الأمر مع قدوم ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ فى مصر، ومحاولات بعض اللصوص اقتحام المتحف المصرى فى التحرير، ومع كل هذا الشحن المعنوى والفكرى، بدأت أبحث فى المكتبة العربية عن مراجع أو مصادر تتناول بشكل موسع حضارة الشرق القديم، أى مصر القديمة وبلاد الرافدين وساحل الشام والجزيرة العربية وهضبة فارس، تلك المنطقة التى شكلت طابع الحضارة الإنسانية، وأضحت مركزًا لحضارات عظمى كان لها تأثيرها العميق فى الفكر الإنسانى وحضارات العالم القديم ككل.

لكننى للأسف لم أجد سوى القليل جدًا، فى مقابل موسوعات ضخمة عالمية، وإن كانت معربة ومترجمة، مثل موسوعة المؤرخ الأمريكى ويل ديورانت الشهيرة «قصة الحضارة» بمجلداتها العديدة، وموسوعة «مختصر دراسة للتاريخ» للإنجليزى أرنولد توينبى، بينما المكتبة العربية ينقصها عمل عربى أصيل يتناول تاريخ الشرق الأدنى، فأردت أن أخلد اسمى بجوار هؤلاء العمالقة، عبر تقديم عمل عربى فريد من نوعه، لا يستطيع تقديمه سوى مؤسسات وفرق عمل، لا أفراد. 

■ فى كتابك تعرض الكثير من الحكايات... كيف استطعت جمع كل هذه القصص فى ٥٠٠ صفحة فقط؟

- أردت أن ينقسم الكتاب إلى عدة مجلدات أسوة بالموسوعات الكبرى، بحيث يتناول كل مجلد حضارة بعينها بشكل مستفيض، لكن إشفاقًا على القارئ المصرى والعربى من ارتفاع سعر الكتاب وحجمه، ورغبتى فى أن يصل العمل إلى كل بيت مصرى وعربى، قررت ضغطه فى مجلد واحد مكثف.

ومثل ذلك التحدى الأكبر لى، من خلال جمع وسرد أكبر عدد من المعلومات ذات الطابع العلمى المبسط، سواء للمتخصص أو القارئ العادى، فى أقل عدد من الصفحات، وإلى جانب الأحداث التاريخية الشهيرة، أردت أن أبحث فى أغوار القصص التاريخى المجهول، الذى لا يعرفه أغلب القراء، وكان مصدرًا لأهم الأعمال الأدبية والقصص التاريخى الغربى. 

■ كيف فعلت ذلك؟

- وضعت القارئ فى رحلة تخيلية عبر الزمن؛ ليقف فى عدة محطات مفصلية، تبدأ بالطوفان العظيم، والجدل الدائر حوله ما بين التاريخ والكتب المقدسة، ثم بزوغ وازدهار الحضارات القديمة، مثل حضارة مصر القديمة، وحضارة بلاد الرافدين السومرية والبابلية والآشورية والإمبراطورية الفارسية، ثم هبوطها مع أحداث عجلة الزمن لتحل الحضارة محل الأخرى.

تناولت تفاصيل الحضارة المصرية القديمة، صعودها وازدهارها ثم تدهورها، وعلاقتها مع بلاد الشام، وقصة بنى إسرائيل وارتحالهم من البداية حتى الشتات، ومعها حضارة بلاد النهرين، وتطور الكتابة المسمارية والأدب السومرى، وسطوع الإمبراطورية الآشورية ومن بعدها البابلية، متناولًا بالتفصيل السحر فى بابل وتأثيره العقائدى.

استعرضت قوى الحضارة الفارسية، من حيث فكر «زرادشت»، وعقيدة النار، وتوسع الدولة الفارسية الأخمينية ومن بعدها الساسانية، ثم تنتقل شمس الحضارة للسطوع من الغرب، ما بين الإغريق وورثتهم من الرومان، ليشهد العالم صدامًا من نوع جديد بين الشرق والغرب، وانقسام الدولة الرومانية ما بين غربية لاتينية وبيزنطية شرقية، نهاية إلى الجزيرة العربية، وانتشار اليهودية والمسيحية، وتصارع القوى العظمى بها ممثلة فى الفرس والروم، حتى تنتهى الرحلة بظهور دعوة الإسلام، التى معها ينتهى العصر القديم وتبدأ العصور الوسطى.

■ لماذا قررت دراسة الشرق القديم كله وليس حضارة بعينها؟

- منطقة الشرق الأدنى القديم هى بذرة الحضارة التى انتقلت إلى مختلف أركان العالم القديم، فعلمت مصر والعراق العالم أصول الكتابة والفلسفة، ومنها انطلقت إلى الحضارة الموكينية والإغريقية فى بلاد اليونان، وأُسس المعمار الفارسى الذى جاب حضارات الهند والسند، والتكنيك العسكرى لدى الآشوريين والبابليين، والذى علموه لكل من الإغريق والرومان.

ولم تكن منطقة الشرق الأدنى ذات نهضة مادية فحسب، لكنها استقبلت ذروة الفكر الإنسانى، متمثلًا فى الفلسفة وسن القوانين، فنجد حضارتى بلاد الرافدين ومصر تخرج لنا مجموعة قوانين متكاملة تنظم القيم الجماعية والتقاليد والعلاقات، مثل قوانين «حمورابى» الخالدة، وقوانين الملك المصرى «حور محب»، وهو ما جعل المنطقة مؤهلة لاستقبال الرسالات السماوية، وجعل الشرق الأدنى موطنًا للعديد من أنبياء الله ورسله. 

■ وماذا عن الحضارة الأوروبية فى هذه الفترة؟

- فى المقابل، لم تدخل الحضارة الأوروبية مضمار الحضارة بعد سقوط الدولة الرومانية، بدءًا من القرن الخامس الميلادى حتى قيام عصر النهضة فى القرن السادس عشر، أى أنها ظلت فى ظلام العصور الوسطى طوال ١١ قرنًا من الزمان.

أما حضارات الشرق الأقصى، فلم تعرف الحضارة بشكلها المعهود، لم تستخدم المعادن أو تصل إلى اختراع الكتابة حتى القرن ١٢ ق. م، لذلك أخذت على عاتقى البحث والسرد لتلك المنطقة الهامة، وتوسيع دائرة المعرفة، فلا تقف فقط عند الحضارة المصرية القديمة، بل تأثيرها وتأثرها بمحيطها من مختلف حضارات الشرق، لتعرف الأجيال المقبلة أهمية تلك الأرض، وما مر عليها من حضارات عظمى، وبذرة صراعات المنطقة التى نعيشها حتى اليوم. 

■ بالتأكيد عمل موسوعى مثل هذا يحتاج للكثير من المراجع والقراءات والبحث.. كيف نجحت فى تحقيق ذلك؟ 

- استغرق وقت كتابة هذا الكتاب نحو عام ونصف العام، بينما جمعت المادة العلمية له خلال أكثر من ١٥ عامًا، سواء من مكتبات متخصصة، أو مكتبات المعاهد الثقافية، أو من خلال الكتب المطروحة على الإنترنت.

ورغبة منى فى ضبط كل فصل من فصول الكتاب، أرسلت كل جزء يخص حضارة معينة إلى صديق متخصص كى يراجعه، ويتأكد من سلامة المعلومات. لذلك جاء هذا العمل الموسوعى، وهو الأول والأكبر من نوعه بالمكتبة العربية فى سرد قصة تاريخ الشرق القديم منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وعبر رحلة تمتد نحو ٣ آلاف عام وأكثر، بالقلم والصورة والخرائط المفصلة، على مساحة أكثر من ٥٠٠ صفحة، مع الاستعانة بما يزيد على ٦٠٠ مرجع ومصدر عربى وأجنبى، وتقديم قائمة لجميع ملوك الحضارات والممالك القديمة، حتى أقدم للقارئ عملًا موسوعيًا متكاملًا يبقى عشرات السنين. 

■ ١٥ عامًا فى جمع المادة العلمية، ألم يصدر طوال هذه الفترة الكثير من الأعمال المتعلقة بموضوع الكتاب؟

- كما ذكرت من قبل، فكرة الاهتمام بالشرق القديم وتناول تاريخه وأسراره جالت بخاطرى طيلة سنوات، ما دفعنى إلى تجميع المادة العلمية على امتداد هذه السنوات، مع إدخال تعديلات مستمرة عليها وفقًا لصدور أحدث الإصدارات العالمية. وتجميع المادة على مدار السنين ساعدنى بالفعل، خلال إنتاج عدة مؤلفات أخرى، مثل كتاب «يهود مصر القديمة»، و«النبى المفقود أخناتون»، و«ملك من ذهب: توت عنخ آمون»، و«الدين والحكم فى مصر». 

■ كنت المراجع التاريخى للعمل الوثائقى «أم الدنيا» فى موسمه الثانى.. كيف تقيم هذه التجربة؟

- كان لى الحظ الوافر بأن أكون المراجع التاريخى لهذا العمل الوثائقى الرائع والناجح من إنتاج منصة «WATCH IT»، وظهرت فى العديد من الحلقات كمحاور للفنانة القديرة والمثقفة سوسن بدر، بطلة العمل، وهو ما زاد من حماسى فى إتمام هذا الكتاب، لما فيه من معلومات وأحداث وشخصيات تتماشى مع ما هو معروض فى المسلسل، وهو ما يجعل المعلومة موثقة بشكل مرئى ومكتوب. 

■ هناك الكثير من المؤرخين الذين أضروا التاريخ بتزييفه وتقديم رؤاهم الخاصة على الحقيقة، مثل يوسيفوس اليهودى وغيره.. كيف ترى هذا؟

- «التاريخ يكتبه المنتصرون».. عبارة للأسف تجسدت عبر العديد من مؤلفات أغلب المؤرخين، سواء الكلاسيكيون خلال العصر اليونانى الرومانى، أو مؤرخو العصور الوسطى، أو المستشرقون الذين هبطوا على منطقة الشرق خلال الحملات الصليبية وما بعدها حتى العصر الحديث.

اعتمد أغلب هؤلاء المؤرخين على رؤيتهم الذاتية وآرائهم الخاصة فى وصف الأحداث وتصنيف الشخصيات التاريخية، وهو ما لا يضع القدر الأدنى من الموضوعية فى البحث التاريخى.

نجد هيرودوت الإغريقى الملقب زورًا بـ«أبى التاريخ» قد تجنى على الحضارة المصرية القديمة بأفكار لا تمت لعظمة تلك الحضارة بصلة، خاصة أنه زار مصر بعدما خفت بريقها وزال مجدها، وسجل هذا التجنى فى مؤلفه الذى أصبح من أهم المصادر التاريخية الكلاسيكية. بينما اعتمد يوسيفوس اليهودى، الذى عاش فى القرن الأول الميلادى، على التعصب لبنى جنسه، والتعدى على الحضارة المصرية القديمة بمعلومات خاطئة تمامًا.

أما مؤرخو العصور الوسطى العرب والمسلمون، أمثال تقى الدين المقريزى وعبداللطيف البغدادى، فنلتمس لهم قدرًا من العذر، فى تناولهم العديد من الخرافات التى التصقت بالحضارة المصرية القديمة، خاصة مع انقطاع الخيط الثقافى بين مصر القديمة والمصريين خلال العصور الوسطى، مع اندثار اللغة المصرية القديمة والكتابة الهيروغليفية.

ولا ينقطع التهجم والتهكم على الحضارة المصرية القديمة والشرق القديم، فيأتى فى العصر الحديث من يحاولون تجريد أصحاب الحضارات القديمة من حضارتهم، لما لمسوه فيها من إبهار يصل حد الإعجاز. 

■ هل هناك أفكار لكتب جديدة تعمل عليها؟

- مع إصدار هذا العمل الموسوعى الكبير، أضع نفسى فى تحد جديد، يتمثل فى الحفاظ على نفس المستوى العلمى والسردى الذى أقدمه للقارئ المصرى والعربى، إما عبر تقديم جزء جديد لتناول الشرق الأقصى، أو استكمال الرحلة نحو العصور الوسطى، أو فتح أفق جديد فى مجال الرواية التاريخية والأدب بشكل عام.