الأربعاء 13 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ثمانون رجلًا وقطة!.. قصة قصيرة لـ«صلاح حافظ»

صلاح حافظ
صلاح حافظ

- كانت العادة عندما يسخر عبدالجابر من حبنا للقطط أن نبتسم ونتسلى بمعاكسته

كنا ثمانين رجلًا.

وكنا ندب على أرض ليس فيها طفل، ولا امرأة ولا بيت، ولا شجرة، ولكن تحتها ملايين من الجرذان!

كما ننقب عن البترول.. وكانت بيوتنا خيامًا فى الصحراء، ننام فيها على ألواح الخشب ملقاة على الأرض. وتحت هذه الأرض كانت الجرذان تحفر أنفاقًا لا يكشفها الإنسان إلا بعد أن يدوس عليها وتغوص فيها قدماه، أو بعد أن يهوى سريره فجأة داخلها.

وجاء يوم ضقنا فيه ذرعًا بهذه الجرذان.. مع أنها كانت خفيفة الدم جدًا.. تمشى على ساقين. وتأكل بيدها.. وتنظف نفسها، وتحفر الأنفاق أسرع من أى آلة نعرفها. وكل نفق تحفره تجعل له بابين، حتى إذا هُوجمت من أحدهما فرت من الآخر!

ولكن خفة الدم لم تكن مبررًا كافيًا لكى تترك هذه الجرذان تعيش. صحيح أننا كنا فى البداية أصدقاء، نتسلى بها، ونستخدم أنفاقها بدلًا من المجارى. ولكن الذى حدث هو أنها بعد أن تذوقت طعامنا عدة مرات بدأت تفضله على طعام الصحراء، وتتحول شيئًا فشيئًا إلى جرذان متحضرة.. تسرق، وتنهب، وتلوث، وتندس فى الأغطية، وتبحث فى الدواليب وأصبح الصراع بيننا وبينها صراعًا على الحياة. ولم يكن فى نيتنا بالطبع أن نستسلم.

وعلى الفور أرسلنا نطلب النجدة من أبناء جنسنا فى المدينة. كان يزورنا اثنان منهم كل أسبوع مرة فى عربة تحمل إلينا الطعام والدواء ووسائل عائلاتنا البعيدة، فأرسلنا معهما استغاثة مكتوبة تصف حالنا. وتطلب إنقاذنا على وجه السرعة بكلمات حارة ومؤثرة.

وفى القافلة التالية جاءنا الرد: تصلكم فى الأسبوع القادم قطتان، ذكر وأنثى.

وكان هذا الرد مفاجأة لنا. كنا نتوقع - عندما كتبنا رسالتنا - أنهم سيرسلون إلينا سمومًا أو مصايد أو شيئًا من هذا القبيل. أما القطط، فإنها - لسبب لا أدريه - لم تكن قد خطرت على بالنا أبدًا. ولهذا تلقينا الرد الذى وصلنا بشىء من الدهشة. وبدا لنا نكتة طريفة. وتناقل الرجال نبأه فى أحاديث المساء ليروّحوا عن أنفسهم عناء الحياة القاحلة التى يحيونها.

ولكننا فى اليوم التالى وجدنا أنفسنا - دون أن نشعر - نتكلم كثيرًا عن القطط. ونحشرها بغير مناسبة فى بعض أحاديثنا. واستيقظت فى رءوسنا ذكريات قديمة جدًا من أيام الطفولة، عن القطط التى كانت فى بيوتنا. وأصبحنا نجد فى رواية هذه الذكريات متعة كبيرة.

وكان البعض يبالغون أحيانًا فى رواياتهم، وينسبون إلى قططهم أعمالًا ليست من طبيعة القطط.. فيثيرون بذلك مناقشات حامية حول ما يمكن وما لا يمكن أن تفعله القطة.

وشيئًا فشيئًا أصبحت القضايا التى نناقشها على الطعام، أو فى سهراتنا على ضوء القمر، هى: هل تستحم القطة أم لا تستحم؟ وهل صحيح أنها تموت إذا ابتلت بالماء، أم أنها تمرض فقط؟ وهل الصوت الذى تقرقر به وهى نائمة يصدر عن أمعائها، أم أنها نوع من «القرقرة» تسلى به نفسها؟ وهل يسقط الفأر حقًا من السقف بمجرد أن تنظر إليه القطة؟ وهل السبب أن فى عينيها مغناطيسًا خفيًا يجذبه. أو هو مجرد الخوف الذى يفقده السيطر على مفاصله؟ وكل هذه الأسئلة كانت تحتاج إلى خبراء نستشهد بأقوالهم. ولكن كلًا منا كان يرفض.. فى موضوع القطط بالذات.. أن يعترف بخبرة أصدق من خبرته.. فقد كانت القضايا التى نناقشها تظل دائمًا مغلقة. وكل جدل حولها ينتهى بجملة ثابتة لا تكاد تتغير:

- طيب أهى القطط جاية وحانشوف.

وجعلت سيرة القطط حياتنا أجمل مما كانت. وأحاديثنا أكثر متعة وحرارة. وبدأنا ننتظر وصولها بكثير من نفاد الصبر. وكلما اقترب الموعد الذى ننتظرها فيه زاد شغفنا بها.. حتى رسخ فى أذهاننا أن أروع مخلوقات العالم هى القطط. وأن وجودها معنا فى مكان واحد شىء فريد حقًا.

وأخيرًا.. جاء الموعد المحدد ووصلت القطط.

ووقفت العربة التى تحملها عند باب المعسكر، لتجد فى انتظارها مظاهرة من الرجال لم يسبق أن تجمعت فى أى مناسبة أخرى. ولم يفهم السائق فى البداية سر هذه المظاهرة وتعجب لها كثيرًا. فلما فهم زاد عجبه. وراح يضرب كفًا بكف وهو يقول: 

- لا حول ولا قوة إلا بالله!

ورسخ فى ذهنه أن الصحراء أثرت على عقولنا. فالرمال كما يقولون تتسلل من الأذنين إلى داخل الرأس، وتأكل المخ بالتدريج.

غير أننا كنا مشغولين عنه، فلم نلق بالًا إلى ما يقول. وتركز انتباهها على الصندوق ذى الفتحات الذى هبط به أحد الرجال بعناية وهو يطلب أن نفسح الطريق أمامه حتى لا تختنق القطط من الزحام. وسار الرجل بالصندوق ونحن فى إثره حتى وصل به إلى خيمة مديرنا المسئول. وهناك فتح المدير الصندوق بعناية. وأطل لحظة فى داخله ثم ارتسمت على وجهه حيرة ظاهرة.

كانت هناك قطتان حقًا. ولكن عمرهما كان أقل من أسبوع. وحجمهما معًا كان أقل من حجم جرذ واحد من جرذان الصحراء!

وعقدت المفاجأة ألسنتنا أول الأمر.. ولكن سرعان ما انتشرت فى الزحام بعد لحظات همهمة متزايدة. لم تلبث أن تحولت إلى مناقشات حامية، وخلافات جديدة. هل نعيد القطتين أم نربيهما؟ وكيف نحميهما فى هذه السن من جو الصحراء؟ وهل يصلح لهما اللبن الذى فى العلب؟ وهل يحتمل أن تنتهز الجرذان الفرصة وتقتلهما قبل أن تكبرا؟ ومن الذى يتعهد بتربيتهما؟ وفى أى خيمة تقيمان؟

وانقسم الزحام حول هذه القضايا إلى أحزاب. وصار مستحيلًا أن نتفق على رأى.. ولكن المدير حسم المشكلة بكلمة واحدة، إذ استدعى الطبيب وسلمه صندوق القط قائلًا: دول تربيهم عندك.

وعاد الطبيب إلى خيمته بالصندوق.

وصار محالًا بعد ذلك أن ينعم أهل الخيمة بالراحة أو الهدوء.. فقد أصبح جزءًا من برنامج كل منا أن «يطل على القطط» مرتين على الأقل فى اليوم، وعبثًا حاول سكان الخيمة أن يحتجوا على هذه الزيارات، أو يحددوا لها وقتًا كل يوم. فقد كانت جميع الخيام الأخرى مستعدة أن تأخذ هى القطط وتفتح أبوابها ليلًا ونهارًا للزائرين. وكان هذا التهديد المستمر يخرس كل احتجاج قبل أن يولد.

رجل واحد كان لا يشارك فى هذا «العبث» ولا يستسيغه. رجل من الصعيد، اسمه عبدالجابر، فى عينيه نظرة حادة دائمًا كنظرة الصقر. وفى صدره إيمان ثابت بأن أبناء البندر طراز من النساء يرتدى ثياب الرجال. وكان إذا سمع سيرة القطط فى أى كلام نقوله.. حتى أثناء العمل.. ونزعم أنه يكره سيرتها لأنها ستنافسه فى أكل الجرذان.

وكبرت القطط بسرعة وبدأت تمشى بين الخيام، وتأكل معنا على موائد الطعام، وأصبح أشهر اسمين فى المعسكر هما «قاسم وحميدة».. ولكننا لم نلبث أن وجدنا قاسم بالغ التفاهة والغرور فأهملناه.. وبقيت حميدة وحدها ملكة على عرش المعسكر ملكة سوداء.. معتزة بنفسها.. تمشى أرشق من الغزال ولا تسمح لنفسها بأن تتبدل، أو تسلك سلوكًا لا يليق بالملكات.

واختفت الجرذان طبعًا.. ولكن حميدة بقيت.

ولم يعد وجودها بيننا شيئًا جديدًا، ولكنها مع ذلك ظلت ملكة.

وعندما بلغت سن الغزل. كانت أحاديث الرجال تدور معظمها عن الحب. وكانت أنباء مغامراتها مع قاسم تتداول سرًا كالفضائح. ولكن الرأى العام لم يكن يشجع اتخاذها مادة للضحك. أو لتعليقات جارحة تهين كرامة الملكة.

ثم حملت فبدأت أحاديثنا تدور حول الولادة وآلامها، واحتياجاتها. وأعد أكثر من صندوق لاستقبال الأطفال. وزودت الصناديق ببطانات من القطن والصوف. وتبرع كثيرون بزجاجات من الفيتامين للأم. فلما رفضها الطبيب راحوا يطعمونها سرًا لحميدة. ويبالغون فى كمياتها يومًا بعد يوم. ولم يكن أحد يدرى بالضبط متى ستلد. ولكن قلقًا غريبًا كان يستحوذ على المعسكر كله كلما أحس الرجال بأن اليوم الذى ينتظرونه يقترب.

لما جاء هذا اليوم، توقف العمل فى المعسكر.

واحتشد ثمانون رجلًا فى الخيمة التى تعيش فيها حميدة. وحلق صمت غريب فوق رءوسنا ونحن نراقبها تتلوّى وتصدر أصواتًا غامضة.. كأنها تستغيث.. وحاول البعض أن يواسيها فاعترض البعض الآخر. وثارت المناقشات من جديد: هل نتدخل أم نتركها وشأنها؟ وقال أنصار عدم التدخل إن قاسم نفسه.. وهو زوجها. يقف بعيدًا، ما يدل على أن المطلوب هو أن تُترك وشأنها. فرد الآخرون بأن قاسم قط خائب، لا يمكن أن نستدل من سلوكه على شىء.

ثم اختلفنا على معنى النظرات الوحشية الغريبة التى تصوبها حميدة إلى وجوهنا ونحن محتشدون حولها. ففسرها البعض بأنها مذعورة من وجودنا.. ولكن البعض الآخر فسرها بأنها تنادينا وتناشدنا أن نخف إلى نجدتها.

وفجأة، قطعت حميدة علينا حبل الخلاف، وقفزت من مكانها إلى باب الخيمة، ثم إلى الصحراء.

ونظرنا، فإذا هى قد تركت لنا على الأرض طفلها الصغير!

ودب النشاط فى الخيمة، ووثبت قلوبنا بفرح غامر. له طعم خاص لم نتعود عليه. وهجمنا على الطفل نريد أن نفحص هيئته، وحجمه، ونطمئن على حياته. وسبق أحدنا فالتقطه، ونظر إليه، ثم نظر إلينا.. وارتسمت الحيرة على وجهه.

كان يتدلى من سرة الطفل حبل طويل.. ولم يكن أحدنا يعرف ماذا يجب أن يفعل بهذا الحبل.. وقال أحد الرجال:

- نقطعه! كل العيال بيقطعوا لها لما تتولد.

فاعترض آخر:

- يمكن القطط لا!

- يا جماعة لو كان لازم ينقطع كانت حميدة قطعته. ما كل القطط بتولد لوحدها وعارفة إيه اللى لازم تعمله.

فاعترض رابع:

- لكن لدى أول مرة بتولد، وما تعرفش حاجة! وكمان هى كبرت هنا فى الجبل وما شفتش قطط ثانية بتولد علشان تتعلم منها!

وقبل أن نتفق على رأى فى هذه المشكلة، كان أحد الرجال قد أقبل من خارج الخيمة يحمل إلينا مشكلة ثانية:

- حميدة بتولد بره!

فتذكرنا أن القطط حقا تلد أكثر من طفل. ولكن لماذا تلد واحدًا هنا وواحدًا هناك؟ أليس ذلك دليلًا على أنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل؟ ولكن هل نعرف نحن؟..

واستبدت بنا الحيرة، وكانت العادة فى الماضى نختلف أن يدعى كل منا الخبرة بالقطط، ويهزأ بمعلومات الآخرين. أما هذه المرة فقد كانت آراؤنا جميعًا متسمة بالتحفظ، ندلى بها بعد تردد شديد، وفى تواضع نحسد عليه، كانت المسألة الآن تتعلق بحياة الأطفال، ولم يكن أحدنا مستعدًا أن يتحمل هذه المسئولية بغير علم.

وذهبنا نستشير الطبيب، ولكنه صرفنا باستخفاف، وهو يقول إنه لم ير فى حياته قطة تلد!

فذهبنا نسأل المدير.. ولكنه أجابنا بشكل قاطع، وقبل أن يستمع إلى التفاصيل:

- أنا ماعرفش أى حاجة عن القطط.

ولم يعد هناك من نستطيع أن نسأله، غير عبدالجابر. وكان هو الوحيد الذى لم يترك عمله، ولكننا قبل أن نقترب منه داهمنا صائحًا:

- أظن ع تجولولى تعال اتفرج ع القطط! امشى يا واد إنت وهوه بلاش كلام فارغ وشغل عيال..

وهكذا لم يعد أمامنا إلا أن نترك كل شىء على حاله، ولا نتدخل. 

واكتفينا بأن نجمع الأطفال من الأماكن التى «بعثرتهم» فيها حميدة، ونضعهم فى الصندوق المبطن كما هم.. بحبالهم التى ولدتهم بها.

وعدنا من العمل فى ذلك اليوم ونحن نتلهف لنرى ماذا فعلت حميدة، لقد تركنا لها المسئولية.. ولا بد أنها قامت بواجبها.

وكنا نعرف أن القطط عندما تلد تنام بجانب صغارها.. ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها. ولهذا فقد كنا حذرين ونحن نتلصص من بعيد على الركن الذى وضعنا فيه الصندوق. ولكننا فوجئنا بحميدة واقفة بجانبه، تنظر فيه حائرة.. ولا تتحرك.. وعندما اقتربنا لم تثر ولم تكشر عن أنيابها ولم تغير وقفتها.

كان ثمة شىء فى الصندوق يحيرها.. ولا تستطيع أن تفهمه.

وعبثًا حاولنا أن نفهم نحن هذا الشىء.. أو نقنعها بدخول الصندوق، كانت كلما وضعناها فيه تشممت قليلًا رائحة صغارها، وقلبت فى الحبال تحيط بها.. ثم قفزت إلى الخارج، ووقفت تطل من مكانها عليها.. وتفكر..

ومضى يومان ونحن حيارى مثلها وفى صدورنا ينمو قلق غامض..

وفى اليوم الثالث وضع أحدنا يده فى الصندوق وتحسس الأطفال، فلما لم تعترض حميدة تشجعنا ومضينا نفحصها بإمعان. كانت الحبال قد تحولت إلى عقد تلف حول أعناقها وأرجلها وأجسامها وقد التصقت ببعضها البعض.. فلم يعد ممكنًا أن تميز بين طفل وآخر من الإخوة الخمسة.

أيكون هذا هو ما يحير حميدة؟ 

أنكون قد أخطأنا عندما تركنا هذه الحبال ولم نقطعها؟

كان الأطفال أمامنا الآن كتلة واحدة من اللحم.. تتحرك بغير صوت. ويبدو أنها توشك أن تموت. وفى لحظات كان النبأ قد انتشر فى المعسكر. واهتزت ضمائر الرجال وسرى الاضطراب فى كل مكان. واهتزت ضمائر الرجال وسرى الاضطراب فى كل مكان. واضطر حتى عبدالجابر أن يترك عمله ويأتى ليرى ما قصة هذه الضجة التى لا معنى لها. ونظر لحظات فى الصندوق.. ثم هز رأسه وقال:

- مغفلين! مين اللى جال لكم تلموهم فى الصندوق ده؟ 

ولم يجب أحد، فلوى شفتيه وأضاف:

- الجطة يا بهايم بتولد كل واحد فى حتة علشان ما يلزجوش وبعدين تحطهم جنب بعض بعدما تاكل الحبال.

ثم هز كتفيه ومضى!

وفى لحظات كنا محتشدين فى خيمة المدير نعرض عليه المشكلة، وقال المدير:

- شوفوا الدكتور يفكهم من بعض.

وعلى الفور طرنا إلى الطبيب فجاء متأففًا. ولكن الشرر فى عيون ثمانين رجلًا أجبره على أن يمسك بأدواته ويعمل. وساد صمت القبور وعيوننا تتابع يديه وهو يقص الحبال، ويفصل كل طفل عن الآخر. وكان أحد الأطفال قد خنق الحبل ساقه فماتت. واضطر الطبيب أن يبترها ومضت نصف ساعة فى جو خانق، مشحون بالقلق، إلى أن أعلن الطبيب أخيرًا أن مهمته انتهت.

وكان أحدنا قد أخذ حميدة معه بعيدًا حتى لا ترى ما يحدث.

فلما عاد بها قفزت إلى الصندوق بلهفة. ونظرت إليه. ثم راحت تلحس الأطفال قليلًا.. قبل أن تفسح لنفسها مكانًا، وتستقر بجوارها نائمة.

وسرى الارتياح فى المعسكر.

ولكن حميدة فى اليوم التالى وقفت بجوار صندوقها تموء.. وذهبنا ننظر ماذا جرى فوجدنا أحد أطفالها قد مات. وفحصنا الآخرين فوجدنا فى موضع الصرة من كل منها قطرة من الصديد. وقال الطبيب إنها جميعا سيموتون، وفى تلك الليلة لم نستطع أن نتناول طعامنا. وفقد بعض الرجال رءوسهم فهددوا الطبيب ما لم يتدخل وينقذ أطفال حميدة. واضطر المدير أن يعاقبهم ولكن العقاب لم يمنع غيرهم من أن يكرروا التهديد.

وساد المعسكر كله جو مشحون بالتوتر. ولكن طفلًا ثانيًا مات فى اليوم التالى. ثم تبعه طفل ثالث.. فبدأ الرجال يستسلمون. وساد الحزن والصمت كل مكان. ومضت الأيام ثقيلة، خانقة، وحميدة تراقب فى صمت أطفالها وهم يموتون. ونحن ننظر مثلها عاجزين. والمعسكر قد فقد روحه ومرحه. وفقد حتى رغبته فى العمل.

وكان الطفل الخامس قد فقد أنفاسه، وبعض الرجال يبكون سرًا فى زوايا الخيام.. عندما وصل عبدالجابر غاضبًا لأننا تركناه وحده، وتسببنا فى تعطيل العمل. وعندما همس له البعض بنبأ وفاة الطفل الخامس انفجر ثائرًا يسخف كلامنا، ويهدد بأن يبلغ المدير ما لم نعد فورًا إلى عملنا.. ويصيح:

- والله عال.. بجه يعنى جينا نشتغل دايات على آخر الزمن ما ناجص إلا كمان نروح نجيب الشيخ شعيشع ويجرا لنا ربع قرآن!

وكانت العادة عندما يسخر عبدالجابر من حبنا للقطط أن نبتسم ونتسلى بمعاكسته. ولكن قلوبنا فى هذه اللحظات لم تكن تحتمل، وكلماته فى هذه المرة بدت لنا عواء ذئب لا قلب له. وثار بعضنا فى وجهه. وشتمه البعض الآخر. وكانت النتيجة معركة حامية ضرب فيها عبدالجابر نصفنا. وكاد يضرب النصف الآخر لولا أن المدير وصل وفض المعركة، ومنحنا اليوم إجازة.

وفى تلك الليلة نام الجميع فى صمت، وفى عيون بعضهم دموع. وكان الذى يريد أن يكلم الآخر يهمس حتى لا يسمعه أحد، والناس جميعًا كأنهم «شاخوا» فجأة.

ومضى وقت طويل فى تلك الليلة وأنا أتقلب فى فراشى عاجزًا عن النوم. وفى رأسى لاتزال صورة عبدالجابر المنحوتة من الصخر، وسؤال يلح علىّ دون توقف:

لماذا نحتت عواطف هذا الرجل من الصخر أيضًا كما نحتت ملامحه؟ لماذا لا يحس مثلنا؟ لماذا لا تلين مشاعره أمام نفس الأشياء التى تلين أمامها مشاعرنا.

كنت أحب هذا الرجل برغم صرامته وعدم رقته. فقد كان خلقه مستقيمًا، ونفسه ناصعة نظيفة.. ولكن الإنسان يجب فوق كل شىء - أن يكون له قلب. هكذا قلت لنفسى.. وصممت على أن أذهب وأقول له أيضًا.

وبعد لحظات كنت أتجه إلى خيمته، وعندما اقتربت منها سمعت صوته يقول لأحد فى الداخل:

- طيب وإيه بس لزوم الزعل؟ ما اللى مات يتولد غيره. وما دام ما نجدرش نعمل حاجة نزعل نفسنا ليه؟ مش كده برضه! والا أنا كلامى مش مضبوط؟ معلهش معلهش كفاية زعل.. وفوجئت بلهجة أرق مما يمكن أن أتصور..

واقتربت من الخيمة دون أن يبدر منى صوت.. وألقيت نظرة متلصصة إلى الداخل لأرى مع من يتحدث.

نظرة واحدة، ثم تراجعت وأنا لا أصدق نفسى.. كان يتحدث إلى حميدة!