الزمن الجميل
العديد من الناس، بينهم مثقفون ومبدعون كلما التقيت واحدًا منهم، يسارعون بلعن الزمان الذى نعيشه، ويندبون بحرقة كل سالف للعصر والأوان، وينعتون كل ما مر ومضى بالزمن الجميل.
يقولون تأمل كيف كان الغناء، وكيف كانت أصوات المطربين والمطربات، وكيف كانت الموسيقى، لم تعد لدينا عمارة ولا أبنية جميلة الآن كل شىء قبيح وفاسد، ولا فائدة أو جدوى منه، حتى النساء، ما أحلى أناقة ملابس نساء الماضى الجميل... إلخ.
صفحات وسائل التواصل الاجتماعى مليئة بعشرات، بل آلاف من الجُمل والكلمات المترحمة على كل ما كان، واللاعنة لكل ما هو راهن وآنى ونعيشه الآن.
والسؤال هو: هل زماننا أقبح من كل الأزمنة السابقة عليه حقًا؟. هل خلا وقتنا هذا من كل ما هو جميل وسامٍ؟
الحقيقة أنه فى كل الأزمنة، طالما كان الجميل إلى جانب القبيح، والسامى إلى جانب المنحط، ومآسى البشرية، لم تختلف كثيرًا عما نعيشه الآن، بالهكسوس والرومان والتتار، لم يختلفوا كثيرًا عما يفعله الكيان الصهيونى الآن فى غزة وفلسطين. لقد فقأ البيزنطيون أعين أعدائهم، وقبل ذلك جدع الآشوريون أنوف ملوك وسادة دول، أما العثمانيون الأتراك فقد خوذقوا آلاف الناس فعليًا، وتاريخ محاكم التفتيش بإسبانيا وأوروبا أسود غطيس، إذ أحرقت عشرات من الناس أحياءً باسم الدين، وتفننت تلك المحاكم فى اختراع أدوات تعذيب لم تكن معروفة من قبل، وبسبب الحرب العالمية الثانية، راح خمسون مليونًا من البشر ضحايا خناقة كبرى، بين وحوش الرأسمالية الأوروبية للهيمنة على الأسواق العالمية، والتهام موارد البلدان الفقيرة فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ورغم كل تلك المآسى وغيرها الكثير، فإن البشرية تقدمت والإنسانية انتصرت وغنى الناس ورقصوا وأبدعوا فنًا جميلًا فى كل مجالات الحياة، فلكل زمن وجهان، وجه قبيح ووجه جميل، وطائر الفينيق الجميل، طالما بعث واستبان من تحت الرماد، وعلى الإنسان البحث عن الجميل فى زمانه والتشبث والفرح به.
الغريب أن المتباكين على الزمن الجميل، لا يسعون لتجميل الزمان أبدًا، إنهم يكتفون مثلما عواجيز الفرح بالانتقاد، والتفتيش عن المثالب والعيوب، ويعزفون عن صنع البهجة والجمال.
كل زمن جميل كان، وتم، إنما كان بسبب أفراد مصارعين شجعان، تحدوا القبح وخاضوا صراعات حقيقية كى تكون الحياة أجمل وأفضل، والبشر أكثر فرحًا وسعادة فى مصر، وخلال ذاك الزمن الجميل الذى يتباكى بعضهم عليه، كان هناك القبح مثلما كان الجمال فى كثير من الأمور، كان هناك غناء هابط وكان هناك غناء راقٍ، فخلال الحرب العالمية الثانية وفى أعقابها، انتشر غناء الكباريهات وعلب الليل، للترفيه عن جنود الاحتلال الإنجليزى، ولكن كان هناك غناء جميل وراقٍ قدمه أساطين الغناء فى مصر كأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وغيرهما، وهو غناء اكتسح القبح وما زالت الأجيال تستمتع به حتى اليوم.
مبادرات الأفراد المصارعين، هى التى تصنع فى كل زمن الجمال فى جميع مناحى الحياة، وهؤلاء لا يقفون مكتوفى الأيدى فى مواجهة القبح، ويدفعون ضرائب باهظة، ولنتذكر قاسم أمين وما واجهه من انتقادات بسبب موقفه من المرأة، أو نبوية موسى التى أسست أولى مدارس ثانوية للبنات فى مصر، رغم أن وزارة المعارف العمومية فصلتها من مهنة التدريس بسبب أن شكلها قبيح، ثم طه حسين وأزمته بسبب كتاب الشعر الجاهلى، وعلى عبدالرازق وأزمة كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وغيرهم عشرات من الذين صنعوا زمن مصر الجميل فى كل المجالات، دون أن يتذمروا وينتحبوا ويتقاعسوا، فجمال أى زمان، أو قبحه، إنما هو من صناعة أهله وناسه، ولكن بالنظر حولنا، والتأمل، سنكتشف ونتأكد أن زماننا هذا ملىء بالجمال، وأن هناك أجيالًا جديدة تصارع القبح، وتسعى إلى الخير، لكن هى تحتاج إلى البيئة الحاضنة الدافعة لها دومًا.