المـلاذ المحال..«فساد الأمكنة».. عالم الصحراء بوصفه خلاصًا من عالم المدينة
- فى كل فصول الرواية تلاحقنا ونلاحق طاقة فياضة مفعمة بروح الشعر.. بدهشته وببساطته وعنفوانه
خلال نظرة طائر تطل من شاهق على هذا الجبل الذى تعرفه وإن لم تأمن له، تألفه وإن لم تركن إلى سكونه الظاهرى، ترى تاريخه السحيق وتشهد حاضره الماثل.. وبحس مرثية فاجع يرصد مأساة ذلك المستوحد بهذا المكان بعدما تبدد حلمه باللواذ به وبالحلول فيه.. تقدم السطور الأولى من رواية صبرى موسى «فساد الأمكنة»«ملمحًا» «شبه نهائى» كما يشير عنوان الفصل الأول الذى يستقل بعنوان خاص، دون فصول الرواية جميعًا عن «جبل الدرهيب» العظيم: «لو أتيح للملمح أن يكون مرئيًا لطائر يحلق عاليا (...) لرأى الدرهيب هلالًا عظيم الحجم، لا بد أنه قد هوى من مكانه بالسماء فى زمن ما، وجثم على الأرض متحجرًا، يحتضن بذراعيه الضخمتين الهلاليتين شبه واد غير ذى زرع..».
ومن الجبل «العظيم» الهائل، إلى الحالم المتضائل بجنته المستحيلة، اللائذ به، ثم ضحية هذا الحلم، الشارد فى جنباته الآن بعد ترحالات قديمة شتى، توالت ترحالًا تلو ترحال، «نيكولا المأساوى».. من الدرهيب إلى نيكولا سوف تنتقل نظرة الطائر نفسه، فنرى عبر انتقال هذه النظرة «نيكولا» وهو واقف على «قمم خادعة متزلجة»، «عاريًا ومصلوبًا على الفراغ المتأجج بالحرارة وحده»، ثم نراه وهو يتحرك بين الصخور والنتوءات، وفى جوف هذا الجبل بعد أن رحل عنه الجميع، «فما عاد باستطاعة أحد أن يهبط فى جوفه الآن سوى نيكولا الوحيد». الجبل ونيكولا، الآن، فى نظرة ذلك الطائر وفيما سوف يجاوز هذه النظرة خلال فصول الرواية التالية، هما من بقى من هذا العالم الغامض الذى سوف يأسرنا استكشافه، والذى سوف تزاحم صورته فى عيوننا كل صورة أخرى سواها، وربما سوف تزحزح ملامحه عن حواسنا ملامح ذلك العالم الآخر المألوف الذى نعرفه، كأنهما الجبل ونيكولا كانا هنا من ملايين السنين، وكأنهما باقيان هنا عبر زمن قادم ممتد، شارتان إحداهما خالدة والأخرى تجسيد لحلم محبط بالخلود تومئان إلى عرى الطبيعة وطهرها، وإلى تقشفها وسطوتها، وإلى فردوسها القريب/ البعيد، المتاح/ المستحيل. وخلال كلمات الراوى فى هذا الفصل، ثم فى كل فصول الرواية التالية كذلك، سوف تلاحقنا ونلاحق طاقة فياضة مفعمة بروح الشعر، بدهشته وببساطته وبعنفوانه، بموازاة طاقة الطبيعة ودهشتها وبساطتها وعنفوانها، وسوف نشهد تعبيرات شتى عن التوق الممض للانتماء إلى هذا الجبل، الموصول بالكون كله، وسوف نلحظ تجسيدات عدة للنزوع إلى تشييد فردوس أرضى فى قلب هذا المكان النائى، المتعالى، ولكن أيضًا المطارد بـ«الأمكنة» الأخرى التى نخرها «الفساد»، ثم سوف نواجه تشخيصًا أخيرًا، موجعًا وفاجعًا، للرماد الذى آل إليه ذلك التوق، وللجحيم التى انتهى إليها ذلك الفردوس.
هذا الملمح هو «بداية» وفى الوقت نفسه «نهاية» الوعد الذى أومأ إليه مفتتح الرواية خلال إشارته إلى «وليمة ملوكية»، قوامها غذاء جبلى «لم يعهده سكان المدن». لقد أتى إلى هنا نيكولا هاربًا من فساد المدن وشرورها، اللذين يختزلان فساد العالم وشروره. كانت عائلته قد هاجرت وهو طفل من إحدى المدن الروسية واستقرت بإسطنبول، بينما ظل هو يقطع الأرض مهاجرًا. وبعدما تزوج لم تستطع زوجته القوقازية «إيليا» أن تسمره فى الأرض، ولا أن تحول دون تحليقه المتواصل «من مكان إلى مكان»؛ إذ ظل يتوق دائمًا إلى «التحليق (...) فى سماء الأمكنة جميعًا»، وكان فى هذا التحليق اللاهث يبحث عن فردوسه وعن ذاته معًا. وفى جبل الدرهيب، فى زمن وقائع الرواية، وجد نيكولا فى تاريخه الجديد ما نزع إليه طويلًا فى تاريخه القديم، وبدا له أنه قد عثر على ذاته التائهة، بعدما استولى هذا «المكان على حواسه المضطرمة بالرغبة فى التحليق». هنا، فى هذا الجبل، بزغ أمل حقيقى فى الاستقرار، وفى الصحراء التى تحيط بهذا الجبل، والتى «تغرس فى ساكنها شتى الفضائل»، اكتشف نيكولا سبيل نجاته من مفاسد الأماكن جميعًا.
الدرهيب، ملاذ نيكولا، أكبر وأكثر من محض جبل، فيما يرى نيكولا، على الأقل. فى قلب الدرهيب، كما فى قلب نيكولا، «طاقة مختزنة» جمعتهما معًا وربطت بينهما «شهوة جامحة»، وسوف يغدو الدرهيب، ببكارة صخوره، «بديلًا لإيليا.. زوجته»، أو سيغدو بديلًا لأسرته الراهنة: «إيليا الكبرى» زوجته و«إيليا الصغرى» ابنته التى كررت بالاسم أمها، بل سيغدو بديلًا لأسرته المحتملة جميعًا؛ هكذا يخاطب نيكولا نفسه التى آوت واطمأنت إلى مستقر لها بعد تشرد طويل: «لقد جعلت من الدرهيب زوجتك وأولادك وبيتك.. وأقمت فيه حياة عائلية على المستوى الرجولى». بالجبل استعاض نيكولا عن زوجته: «كانت إيليا هى الشهوة. وأصبح الدرهيب هو الشهوة»، وفى الجبل انفصل نيكولا عن كل المواضع التى مر عليها مرور العابر ولم يقطن واحدًا منها، ومع الجبل استعاد نيكولا طبيعته التى بدا أنه قد فقدها، أو توصل «إلى طبيعته الجديدة التى استمدها من المكان»
يتصل الجبل، وامتداده فى الصحراء، بالطبيعة كلها. وفى هذا الاتصال يعاد اكتشاف مقاييس جديدة لكل شىء، بما فى ذلك السمو والضعة، الثراء والفقر. فهؤلاء الذين التقاهم نيكولا هنا يختلفون عن كل الذين عرفهم من قبل؛ إنهم من «الشامخى الأنوف المترفعين بأسمالهم وفقر أجسامهم، الممتلئين بالغنى الفاحش لاندماجهم فى الطبيعة». الطبيعة، فى هذا المكان، تومئ إلى عالم يتعالى على ما هو عابر وزائل؛ عالم موصول بلا نهائية الزمن، بديمومته وخلوده. وكل حجر وكل حبة رمل، هنا، شاهد على براءة سابقة على تاريخ شرور البشر وآثامهم فى أماكن شتى، تنتمى إلى الزمن المرجع المتعين أو شبه المتعين، بما يجعل هذا المكان، المشبع بأزمنة شتى، استردادًا لفطرة أولى مفقودة، واستعادة لوضع أصل أمعن، عبر مسيرة الحضارات، فى غياب طويل.
فى الجبل، وفى صحرائه، نشهد ذلك المدى غير المحدد، غير المحدود، ونلحظ ما يشبه تبلورًا لصيغة متفردة من «متصل زمانى/ مكانى» خاص، خلاله تتعاقب الأزمنة وتتناوب على المكان الثابت الأزلى؛ حيث تمتد تواريخ الحجر، وتتصل حيوات الراهنين من البشر بحيوات أسلافهم فى الأزمنة البعيدة. البازلت والجرانيت والأحجار الجيرية والقواقع المتكلسة ظلت قائمة هنا «من مليون ألف عام»، والجبال الماثلة الآن هى نفسها «على حالها منذ القدم»، والناس القليلون هنا هم أيضًا «على حالهم منذ القدم».. تتناسل فوق هذا المكان، إذن، الأزمنة والتواريخ، حتى وإن غفا بعضها أو غاب. وفوق هذا المكان يظل الجبل باقيًا، يشبه «كعبة» منها المنطلق وإليها الإياب. إلى كل الجهات يرتحل عن الجبل من يرتحل، ولكن من كل الجهات يعود إلى الجبل من يعود، فى فعل يتردد ويتكرر عبر أجيال تلو أخرى، لا أول لها ولا آخر، لا بداية ولا نهاية.
الجبل، وامتداداته كلها، بأزمنتهما المتراكبة المتصلة هذه، يقعان على طرف من طرفى ثنائية قديمة متجددة، مثارة عبر المسار المعروف لتاريخ البشر خلال تحضرهم الذى قطع الأواصر فيما بينهم وبين الكون الذى كانوا، فى أزمنة أسبق على تشييد الحضارات، جزءًا عضويًا منه؛ مندمجين بمفرداته موصولين وإياه ومقترنين به. وعلى الطرف الآخر من هذه الثنائية تقع المدن البعيدة، المثقلة بموروثها الخانق، المحاطة بحشد من صفات سلبية طاردة يتم اختصارها هنا بصياغة لا تخلو من حكم قيمى فى مفردة يشير إليها عنوان الرواية وتحتشد بها نصوصها، تتمثل فى «الفساد» الذى استشرى، وطال فى تلك المدن كل أحد وكل شىء.
هكذا، يطرح عالم «الجبل» وامتداده المتمثل فى الصحراء فى مواجهة عالم «المدن»، خلال ثنائية تعبر بوضوح عن مواجهة ما بين عالمين، وتلوح كأنها تسمية جديدة للثنائية المتعارفة: الطبيعة/ الحضارة. وبعبارات ذات منحى تعليقى تتخلل سرد الراوى، وبضمير جمعى يشملنا جميعًا يفترض أننا ننتمى إلى طرف بعينه من طرفى هذه الثنائية، سنجابه اكتشافنا مدى الاختلاف المتنامى بيننا «نحن» وبينهم «هم»: نحن أهل المدن وهم أهل الصحراء والجبل: ففضلا عما لاحظنا من تأكيد يفترض، ابتداء، أن هؤلاء، سكان الصحراء، كانوا أشبه بأرض طيعة وخصبة لما غرسته الطبيعة فيهم من «فضائل»، فإننا نلحظ تأكيدًا آخر، أو امتدادًا لهذا التأكيد الأول، على أن هؤلاء قد «أخذوا من هذه الفضائل سلاحًا يواجهون به مخاطر حياتهم اليومية. (...) مئات الخطايا الصغيرة التى نرتكبها بسهولة ويسر فى المدينة، ضد أنفسنا وضد الآخرين.. تتراكم على قلوبنا وعقولنا، ثم تتكثف ضبابًا يغشى عيوننا وأقدامنا فنتخبط فى الحياة كالوحوش العمياء، فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية، ولكنهم فى الصحراء قلة.. إلخ». ومثل هذه النظرة، التى تساق على لسان الراوى بكل هذا القدر من الاحتفاء بأحكام القيمة، هى نفسها التى قادت نيكولا إلى حيث قادته، لهذا المكان، وجعلته يوقن «بأن الحياة هنا جديرة بالبشر الحقيقيين الذين يكرهون المدن المليئة بالمخلوقات الهمجية المستوحشة».
بوضوح، إذن، توضع فى الرواية أخلاقيات الصحراء فى مواجهة أخلاقيات المدينة؛ أو يوضع بالأحرى عالم الصحراء بوصفه خلاصًا من عالم المدينة. فى الصحراء، وفى جبلها، ومن هنا ينبثق حلم نيكولا بمدينته المأمولة، التى يطمح إلى تشييدها بهذا المكان، بعيدًا عن كل المدن، فى قلب الصحراء البكر؛ مدينته النقية التى سوف «تحفل بالحركة والحياة»، ولكن هذه المدينة/ الفردوس لن يكون بمستطاعها، كما حلم نيكولا، أن تنأى عن فساد المدن التى باتت سطوتها قادرة على أن تجتاز المسافات وأن تأتى إلى هنا، لتقتحم الفردوس المرجو.
«فساد الأمكنة»، عنوان الرواية، واختبار الحلم فى تناولها كله، يطل بإشارات شتى خلال سرد تتقاطع فيه تصورات الراوى وتصورات الشخصيات، سواء بالإيحاءات الحرفية لمعنى «الفساد»، أو بما يقع على متصله الدلالى. فى منجم الذهب الذى يمثل سببًا من أسباب طمع المدن فى هذه الصحراء، موطن الحلم بالنسبة لنيكولا، سيرى «إيسا» مساكن العمال واقعة «فى شبه دائرة.. أكواخ من البراميل الفاسدة..»، وسيرصد الراوى، بموازاة نيكولا، كيف أخرج الجميع «محاسنهم ومباذلهم وقدموها على تراب هذا الجبل وصخوره، قرابين فطنة وخلاعة»، «الرواية، ص١١ ولاحظ تكرار العبارة نفسها ص ١٥٩». كذلك تتأكد دلالات الفساد بالإلحاح على دلالات نقيضه، فالخيام، مثلًا، على العكس من «البيوت» الخانقة، «مفتوحة من جوانبها على السماوات والوديان، ويغمرها الضوء بنظافة فطرية».
بعيدًا عن هذا الفساد، طمح نيكولا إلى أن يشيد فى الدرهيب «مدينته المشتهاة»، وكان العمل «ينمو، بينما المدينة الصغيرة على الجبل تنمو». ولكن، قبل اكتمال تشييد المدينة/ الحلم، انسلت إلى مدينة الفردوس مدينة الشر برموزها الكبرى؛ إذ أتى الملك وحاشيته فى زيارة للمكان. كان من نتاج هذا الشر أن اغتصب الملك «إيليا» ابنة نيكولا ذات الستة عشر ربيعًا، وقد ظن نيكولا، فى هذيان ضبابى، تتغيم فيه الرؤى، أنه هو مغتصبها، وكان من نتاج هذا الشر أيضًا أن تم انتهاك حلم نيكولا فاكتملت فاجعته. لقد فشل نيكولا فى تشييد مدينته المأمولة الخالية من كل دنس، حيث ألقيت دونما إرادة أو اختيار منه بذرة العلقم والشر فى أرض مدينته هذه، «فأثمرت شجرة ضخمة مستفحلة، أظلت تلك المدينة بالخراب والحزن». لم يعد نيكولا يملك سوى أن يتخلص من التذكرة الحية الماثلة بمأساته، وليس من مأساته نفسها: يقذف برضيعة ابنته ثمرة انتهاك المدينة للفردوس إلى الهلاك؛ يقتلها ولكنه لا ينجح فى أن يقتل، داخل ذاكرته، ذلك الإحساس بالجرم الذى تم فى زمن غريب، مقتحم، يلوح خارج الزمن، ثم يمعن نيكولا فى هذيانه بينما تطلق ابنته روحها لتبحث عنه، لتثقب «جدران الدرهيب وتخترق طبقاته طبقة بعد طبقة»، قبل أن تذوب «فى الفضاء اللا متناهى، حيث لم يعد بإمكان أحد أن يعثر عليها». يظل نيكولا، بعد تخلصه من علامة مأساته، ينوء بثقل الإحساس بخطيئة لم يرتكبها، وينتهى إلى غيبوبة تترامى خارج كل إدراك، ثم إلى اتحاد أخير بالكون.
رأى نيكولا ما رأى، وعرف ما عرف، وارتحل عبر المدن قبل أن يحط فى ملاذه الأخير، لكنه لم يعرف أن المدن التى تناءى عنها قادرة على أن تطارده إلى عقر هذا الملاذ. لم يرَ نيكولا ولم يعرف أن المدن، بكل فسادها، كانت قد تسللت إلى أرض فردوسه المأمول، حتى قبل أن يخطو هو خطواته الأولى على هذه الأرض. فالمدينة، بنهمها الذى لا يشبع إلى الثروة، وتطلعها الذى لا يقنع إلى المزيد منها، كانت قد مدت مخالبها الطويلة إلى هذه الصحراء خلال بعض «رموزها»، مثل «أنطون بك». والمدينة، بشهواتها التى لا ترتوى، سوف تمد مخالب أخرى خلال شخصيات أخرى، منها «الملك» الذى لا تسميه الرواية، والذى باغتصابه ابنة نيكولا يستكمل أركان المأساة.
خلف المال كان يلهث أنطون بك، وخلف متعة جديدة ذات «مذاق مختلف» كان يلهث الملك، وخلفهما وخلف التسلية كانت تلهث الحاشية. ويرحل/ يعود الجميع إلى مدينتهم وقد خلفوا آثار مخالبهم الناهشة بقدرة تجاوز قدرة وحوش الصحراء على النهش: موت «إيسا»، موت إيليا ابنة نيكولا، موت رضيعها، جنون عبد ربه كريشاب، واستيحاش نيكولا بعد اكتمال أركان فجيعته، فضلًا عن تهاوى حلمه «بفردوس يدير ظهره لكل المدن». لقد «فسدت الأمكنة» جميعًا، مرة وإلى الأبد. استشرى هذا الفساد هناك فى المدن، وامتد من خارجها إلى هنا.
إلى جانب الأسباب التى تتعلق بسطوة المدن وفسادها المستشرى، فهناك أسباب أخرى تتعلق بنيكولا نفسه، كامنة وراء فشله فى تشييد ملاذه المرجو. لم ينته لواذ نيكولا بالجبل والصحراء إلى شىء، ولم ينجح نيكولا فيما نجح فيه، من قبل، «كوكا لوانكا»، الجد الأول لقبائل «البجاة» ولا «أبوالحسن الشاذلى»، الصوفى مجترح المعجزات. لقد أعطى كوكا لوانكا «عقله وقلبه وروحه جميعها لتلك المغارة المرتفعة فوق الجبل المقدس (...) حتى أصبح صخرة تنبت حولها أشجار مقدسة تطاول السحب»، وغادر أبوالحسن الشاذلى وطنه وجاب الأرض زاهدًا، «فنما خلال الترحال وأمكنه أن يخلص جسمه البشرى من أثقال بشريته، فسما به وشف»، وها هم أتباعه ومريدوه يحجون إليه، فى مكان ضريحه النائى القائم فى صحن الجبل، و«يلقون بأهازيجهم وغنائياتهم على قبة ضريحه المستديرة التى تعشش العصافير، ويا للغرابة فى ثقوبها.. فمن للصحراء يا ترى بالعصافير». أما نيكولا، المرتحل القديم، فلم يستطع أبدًا أن يتحرر تمامًا من عالمه الأول، لقد أتى إلى هنا مثقلًا بتركة ترحالاته القديمة التى علقت بداخله آثار منها؛ ثم أصبح عاجزًا عن الانفكاك من أسر ما يتصوره عن عالمه الجديد هنا، مما جعله غير قادر على أن يعود إلى عالمه الذى فر منه، وفى الوقت نفسه غير مستطيع أن يزور، مجرد زيارة، واحدة من المدن التى عبرها من قبل. وسوف يسائل نفسه، بعد برئه من بعض جراح أصابته: «فما فائدة الرحيل يا نيكولا ما دمت تحمل داخلك معك أينما حللت؟».
لم يطل «فساد الأمكنة» روح نيكولا، إذن، ولكن نيكولا لم يستطع أن يتحرر من ميراث هذه الأمكنة، ومن ثم لم يستطع أن يصل إلى «معجزة الانتماء الحقيقى»؛ أن يتجمد أو يتحول أو يصبح «صخرة مقدسة داخل الدرهيب» «انظر ص ١٥٦ وص ١٥٧ على التوالى». لقد أتى إلى ملاذه، ولكنه لم يستطع أن يغدو كما حلم دائمًا، جزءًا حقيقيًا، حيًا، من هذا الملاذ، فضلًا عن أن هذا الملاذ كان قد طاله وانتهكه فساد الأمكنة، فلم يعد صالحًا لأن يغدو ملاذًا لأحد.