لوسى دوف جوردون.. قصة الإنجليزية التى سرقتها «نداهة الأقصر»
- كان منزل لوسى ملتقى لكثير من العلماء الأجانب الذين يزورون الأقصر
- عندما استقرت لوسى فى بيت فرنسا فى الأقصر أحبت الأهالى وتعاطفت معهم
هى سيدة قوية العزيمة أقامت فى مصر، جنوب الصعيد فى قرية الأقصر، لمدة سبع سنوات «1863-1869»، كانت ترتاد المناطق المجاورة لسكنها فى بيت فرنسا، وتتباسط مع الجميع، غنيًا كان أم فقيرًا، وجيهًا كان أم وضيعًا، لذلك أحبها الجميع، وقد أمكنها أن تتأقلم مع طباع الأهالى لدرجة أدهشت معاصريها، وطوال مدة إقامتها فى مصر طوفان رسائلها إلى عائلتها لا ينقطع.
كما كانت تنظر إلى الآثار باعتبارها جزءًا لا ينفصل عن معالم البيئة المصرية.. إنها السيدة لوسى دوف جوردون.
إنجليزية ولدت فى 1821، كان والدها محاضرًا فى الفنون، وكانت أمها بارعة الجمال ومثقفة ثقافة عالية ورفيعة وتجيد عدة لغات أخرى. كانت تجمع حولها عددًا من المثقفين والأدباء الإنجليز فى النصف الأول من القرن التاسع عشر. تزوجت لوسى من سير ألكسندر دوف جوردون، ومنه أخذت اسمها، واضطرت إلى الانتقال إلى فرنسا، وهناك أتقنت اللغتين الألمانية والفرنسية. قرأت أمها الإنجيل، وألف ليلة وليلة، وبعض كتب التاريخ القديم التى كتبها هيرودوت، كما قرأت بعض ما كتبه المستشرقون عن الدين الإسلامى، وقرأت ما كتبه توماس كارليل عن سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم. وترجمت عدة مؤلفات من اللغة الألمانية، وكانت متسامحة فى النواحى الدينية، وخلال عملها فى الترجمة أصيبت بداء السل وكانت فى الواحدة والثلاثين من عمرها، ولم يكن فى ذلك الوقت قد اكتُشف علاج لهذا المرض الخطير، ونصحها الأطباء بأن تذهب الى إحدى البلاد التى تتمتع بجو معتدل وجاف مثل جنوب إفريقيا. ولكنها لم تشعر بتحسن هناك، وعادت مرة أخرى إلى إنجلترا ونصحها الأطباء بأن تأتى إلى مصر.
سبب شهرتها كتابها «رسائل من مصر»، نشره فى عام ١٩٦٢ حفيدها جوردون ووتر فيلد، الذى كان يعمل صحفيًا فى القاهرة، يعمل رئيسًا لتحرير جريدة «الإجيبشيان جازيت». الكتاب عبارة عن عدة رسائل بعثت بها السيدة لوسى لزوجها أثناء إقامتها فى مصر فى الفترة ما بين ١٨٦٢ الى ١٨٦٩. وصلت لوسى دوف جوردون الى الإسكندرية فى أكتوبر ١٨٦٢، فى أواخر عهد الخديو سعيد باشا حاكم مصر وقتها، ووصلت إلى الأقصر شتاء نفس العام، واستقرت فى بيت اسمه بيت فرنسا، الذى بناه هنرى سولت، القنصل الإنجليزى وأحد مهربى الآثار، فوق كومة من الأتربة تغطى معبد الكرنك، ويطل على مسجد سيدى أبى الحجاج. كما يطل المنزل على نهر النيل من الناحية الأخرى. وبعد أن استقرت فى المنزل بدأت لوسى فى الاختلاط بأهالى الأقصر.
فى ذلك الوقت لم تكن الأقصر قد تحولت إلى مدينة مزدحمة كما هى عليه الآن «٢٠٢٤» فقد كانت عبارة عن قرية تعدادها لا يتعدى الألفين.
كان منزل لوسى ملتقى لكثير من العلماء الأجانب الذين يزورون الأقصر، ومنهم شامبليون الذى فك طلاسم اللغة الهيروغليفية، ومارييت عالم الآثار الذى أسس متحف الآثار. كما كان يزورها مهربو الآثار، ومبشرون كاثوليك، لتحويل المسلمين عن ديانتهم الإسلامية، وأيضًا تحويل الأقباط عن عقيدتهم الأرثوذكسية.
عندما استقرت لوسى فى بيت فرنسا فى الأقصر أحبت الأهالى وتعاطفت معهم، وكتبت إلى زوجها تصف البيت بأنه متسع جدًا، وجدرانه سميكة- طبيعة المعمار المصرى الذى لا يستند إلى دعامات إسمنتية- وأنها تعتصم فى بيتها من الرياح العاتية، وتجد الدفء فى داخله، وبه نوافذ يغطيها الزجاج.
رحب أهالى الأقصر بالوافدة المريضة وسموها الشيخة، ولما رأت هذا التعاطف من جانب جيرانها كتبت تقول: «إننى أتعاطف مع العرب، وهم متعاطفون معى، وأميل إلى أن أرى أفضالهم، أما سيئاتهم فإننى قد عميت عنها، مع أنها تبدو واضحة كل الوضوح لأقل المسافرين حظًا من الخبرة». تحكى لوسى عما يعانيه الفلاحون على أيدى رجال السلطة. فكتبت عن شخص يونانى هبط القرية، واشترى القمح جميعه وهو أخضر لم ينضج بعد، اشتراه بسعر الإردب ستين قرشًا بثمن بخس، واليونانى يتبع جابى الضرائب القبطى كما تتبع الصقور الغربان. والآن فقد أصبح سعر الإردب ١٧٠ قرشًا، وقد دفع الفلاح ثلاثة ونصف فى المائة شهريًا مما استلمه من ثمن البيع، أى من قروشه الستين كضرائب. ولك الآن أن تحسب الأرباح التى عادت على الرومى. تقول لوسى إنها تعرف رجلين أفلسا بهذه الطريقة وباعا كل ما كانا يملكان، وقد اضطرهما طاعون الماشية إلى أن يقترضا بفائدة فاحشة.
اندمجت لوسى فى حياة أهل الأقصر، وبدأت تتفاعل مع بعض الشخصيات المؤثرة فى القرية، وعلى رأسهم الشيخ يوسف أبوالحجاج، الذى لم يتعد الثلاثين من العمر، أحد مجاورى الأزهر الشريف. بعد أن أكمل دراسته فى الأزهر عاد إلى القرية، وعمل كاتبًا فى القنصلية الإنجليزية فى الأقصر. يبدو أن لوسى أعجبت به وبثقافته الدينية وفهمه العميق لروح الإسلام. طلبت أن يعلمها اللغة العربية، تناقشا وتجادلا كثيرًا، وبهرها بطريقته فى الجدال والحوار، وربما بهرها شبابه، مما دعاها لأنه تصفه بأنه «أحلى مخلوق رأيته من حيث الهيئة والرقة والبساطة»، واستطردت تصف كل شىء فى الشيخ يوسف، حتى مشيته بأنها «فى رشاقة الغزال».
تحكى لوسى عن المبشرين والبعثات التبشيرية التى تحول المسلمين والأقباط عن عقيدتهم، فهم يدعون المسلمين إلى اعتناق المسيحية، وفى نفس الوقت يدعون الأقباط إلى التحول من مذهبهم الأرثوذكسى إلى المذهب البروتستانتى، وقد عارض البطريرك القبطى هؤلاء المبشرين، واستعان بالحكومة المصرية لمنع هذا التحول، وترى لوسى فى موقف البطريرك ما لا يعجبها وتكتب إلى زوجها:
«لقد جاء البطريرك فى موكب من الأبهة كما لو كان ربيب الباشا، وكان على أقباط الأقصر أن يدفعوا خمسين جنيهًا جزاء تشريفه لهم، هذا إلى جانب ما قدموه من دجاج وزبد وغير ذلك من الأطعمة، ولو أن لى نزعة إلى التبشير لاستطعت أن أحول الكثيرين ممن سلبت جيوبهم وسلخت ظهورهم، ولكن المبشرين الأمريكيين سيفعلون ذلك».
تحكى لوسى عن قرية من قرى الصعيد، هى قرية قاو، وهى قرية قديمة ذكرها المقريزى بأنها «قاو الخراب». وقد تفرعت تلك القرية إلى ثلاث قرى، قاو الكبيرة أو قاو الشرق، وهى فى شرق النيل فى جنوب رياينة أبى أحمد، فى الجنوب الشرقى لمدينة طما الواقعة غرب النيل. والثانية هى قاو النواورة شرق النيل أيضًا جنوب قاو الكبيرة شمال رياينة الهريدى. والثالثة هى قاو الغرب وتقع غرب النيل تجاه قاو الكبيرة بين مطا وطما. وأهلها ينتمون إلى جد واحد وينطقون الشين سينًا والجيم دالًا، فينطقون كلمة «الجمل. الدمل» وكلمة «الشعير. السعير» و «الحاج جاد. الحاد داد». واشتهرت تلك القرى بالسلب والنهب سواء على البواخر والدهبيات التى تعبر النهر أو القرى التى حولها.
وقد أغاروا على قرية غربى النيل ونهبوها، وملأ أحدهم غرارة من الدجاج والكتاكيت ونزل بها إلى النيل ليعبره وهو لا يدرى أن الماء سيغرق الدجاج والكتاكيت. وحمل أحدهم أيضًا زكيبة مملوءة بالسكر وجرها فى ماء النيل ليعبر بها، وبعد أن عبر بها لم يجد فيها شيئًا.
كان هذا فى عام ١٨٦٤ عندما استقر الشيخ أحمد الطيب قادمًا من جنوب الصعيد بقرية قاو، كان أحمد الطيب يزعم أنه من أشراف الجعافرة، يدّعى العلم والولاية والمكاشفات. أحاط به أهالى قاو وصدقوه، حتى عندما أخبرهم بأنه يحج لبيت الله الحرام دون أن يغادر مكانه، وأن بإمكانه أن يظهر فى مكانين متباعدين فى نفس الوقت، وأن جسده لا يخترقه الرصاص، وأن له صداقات من عالم الجن، وادّعى أنه المهدى المنتظر.
واستطاع الشيخ أحمد الطيب أن يقنع أهالى عدة قرى بجوار قرية قاو، وهى السلمية والرياينة والشيخ جابر والنطرة، أن ينضموا إليه.
كانت لوسى دوف جوردون وقتها فى الأقصر عندما علمت بأنباء انتقام إسماعيل باشا ورجال إدارته من القرى الثلاث. وقيل لها إن أهالى القرى بقيادة الشيخ أحمد الطيب اعتدوا على باخرة بروسية كانت تمر فى النيل وأحرقوها وقتلوا ركابها.
وهناك رواية أخرى عن جارية مسلمة تحفظ القرآن الكريم مملوكة لتاجر قبطى وتقوم على خدمته، ولكن التاجر أراد أن يتخذها رفيقة له فى الفراش على ما يقتضيه نظام الرق، رفضت الجارية وتوجهت إلى الشيخ أحمد الطيب.
قام الشيخ باستدعاء مالك الجارية، وخيره بين عتقها أو بيعها، ولكن الرجل رفض، أعطى الشيخ أحمد الطيب للجارية مالًا تشترى به نفسها من مالكها، ولكن التاجر رفض وتمسك بحقوقه على جاريته التى استولى عليها الشيخ ورفض عودتها إلى سيدها، لم يكتفِ الشيخ باحتجاز الجارية، بل قام بضرب التاجر، وسلط عليه أتباعه فنهبوا منزله وتجارته.
ذهب التاجر بشكواه إلى مأمور المركز، الذى حاول أن يجبر الشيخ على ترك الجارية، ولكن الشيخ رفض وتمادى فى التنكيل بالأقباط من أقارب التاجر ورفض الخضوع لسلطة الحكومة، وكان أتباعه يؤيدونه ويشجعونه على التمرد على سلطة الدولة.
وصلت الشكوى إلى الخديو إسماعيل باشا، وأصدر أوامره إلى حاكم أسيوط وحاكم جرجا، فجمعوا عليه العساكر تحت قيادة فاضل باشا، حاكم أسيوط، وتوجهت الحملة إلى قاو وريانة وبيدة فى عدة بواخر. وقامت القوات بحرق القرى الثلاث وإزالتها من الوجود. وطاردت أهلها وقتلت منهم الكثير واستولت على الغلال والمواشى والأغنام.
فر الشيخ أحمد الطيب وترك النساء والأطفال والعجزة يواجهون القتل والضرب والحرق. وقبضت القوات على شقيق الشيخ ووالد زوجته الحاج سلطان وعدد كبير من أتباعه، وبدأت فى إعدامهم على الخازوق فى أرض المعركة، كما فعل الفرنسيون فى سليمان الحلبى قاتل كليبر، غير أن الفرنسيين حاكموا الحلبى قبل إعدامه. كما قامت الحكومة باعتقال مائة شخص ممن تعاطفوا مع أهالى قاو ووضعتهم فى سفينة نقلتهم إلى فازوغلى بالسودان لنفيهم إلى هناك.
علمت لوسى بأنباء الانتقام البشع من الأهالى، وألح عليها أحد التراجمة بأن تنجوا بنفسها لأنه من المحتمل قيام ثورة شعبية يكون الأجانب وقودها، ولكن لوسى رفضت العرض وقالت:
«الحجاجية، أى آل حجاج، سيختمون على أننى أختهم، وسيدافعون عنى، وسيطالبون بدمى كما يفعلون عندما يصاب فرد منهم».
فيما بعد، تحدثت عن تلك الواقعة السيدة إميليا. ب. إداوردز فى رحلتها إلى أبوسمبل والشلالات عام ١٨٧٢، وشاهدت قرية قاو التى تمثل معقل الفتنة التى ترأسها درويش معتوه منذ حوالى عشر سنوات، وجدنا أن هذه القرية الضخمة المكتظة بالسكان لم تتبق منها إلا منطقة فسيحة من حقول القمح الخصبة، وبعض الأكواخ الخربة، ومجموعة من النخلات المفصولة الرءوس.
غير أن خطاب من لوسى إلى زوجها يكشف عن أن المقالات قد نشرت، فقد كتبت إليه تقول: «لقد استولى الذعر على البك التركى، وما من شك أن الحكام يخشون عيون الأوروبيين، لأن الباخرة التى كانت تحمل الأسرى وقفت على بعد ثلاثة أميال من الأقصر بعيدة عن الذهبيات الراسية على الساحل».
حكاية الأسرى التى تحدثت عنها لوسى بعيدة عن مسألة عقاب أهالى قرية قاو والقرى التى تجاورها، ولكنهم أسرى مصريون».
وتقول لوسى إن مدير سوهاج، وهو تركى، كان مصفدًا بالسلاسل ويداه مكبلتين بقيود من الخشب. كما تقول فى موضع آخر إن سيد سادات جرجا، شيخ الهوارة، قد أرسل إلى فازوغلى وصودرت أملاكه.
كما تروى لنا لوسى قصة واقعية حدثت فى بيتها، أبطالها الخدم الذين يعملون لديها.
استعانت لوسى بخادمة مسيحية اسمها سالى فى الثلاثين من عمرها، أحضرتها معها إلى مصر، وكان لديها خادم مصرى آخر، هو عمر أبوحلاوة، يعمل طاهيًا وممرضًا وحارسًا لها، وكانت تكتب عنه إلى زوجها، حتى فى اللحظات الأخيرة لم تنسَ عمر هذا. وكانت تريد أن تأخذه معها إلى فرنسا، ولكن زوجها رفض، يبدو أنه شعر بالغيرة من عمر من كثرة ما كتبت له زوجته عنه.
ومع طول بقاء سالى مع عمر فى بيت فرنسا الواسع، انفرد عمر بالخادمة سالى، وحدث بينهما ما يحدث بين رجل وامرأة.
لم تخبر سالى سيدتها، كما لم تشعر السيدة بالتغيرات التى طرأت على سالى، وجاء المخاض لسالى فجأة وهى فى الباخرة فى طريقها إلى الأقصر مع سيدتها، ووضعت سالى طفلها.
اعترف عمر بالذنب، وأخبر سيدته بأن سالى هى التى راودته عن نفسه، وأسرع إلى الشيخ يوسف ليزوجه من سالى، كما يفعل التائبون عندما يرتكبون الإثم، أنّب الشيخ يوسف عمر تأنيبًا شديدًا، وقال له:
لقد سودت وجوه المسلمين بما اقترفته فى حق نساء كان يجب عليك أن تدافع عنهن.
وبالفعل عقد قرانه عليها أمام الشيخ يوسف، وقالت لوسى إن الشيخ يوسف أخذ الطفل بين يديه. وتسجل لوسى فى خطابها إلى زوجها أنها رأت فيه منظرًا من مناظر الإنجيل، حيث كان المسيح عليه السلام يأخذ الأطفال بين يديه.
إلى هنا والأمر عادى جدًا، المشكلة أن عمر كان متزوجًا من زوجة أخرى هى مبروكة، وتركها فى الإسكندرية، سالى من جانبها لم تهتم بما حدث فى أول الأمر، وكانت لا تزال على عقيدتها المسيحية التى لا تجيز لها أن تتزوج من رجل متزوج، وطلبت الطلاق، ولكن عقيدتها المسيحية أيضًا تحرم الطلاق.
كانت لوسى قد أعربت عن نيتها فى اصطحاب عمر معها إلى بريطانيا، وأوصت زوجها بذلك، لذا فقد أشارت إحدى السيدات الإنجليزيات على لوسى بأن تطلب من عمر أن يطلق زوجته الأولى مبروكة، لأجل أن يكون أسرة إنجليزية، ولكن لوسى رفضت هذا الحل على أساس أن مبروكة لا ذنب لها فيما حدث.
على كل حال فقد أُرسل الطفل الذى وضعته سالى إلى مبروكة لترعاه، وطلقت سالى من زوجها، والتحقت بخدمة جانيت، ابنة لوسى، فى بريطانيا.
كانت لوسى حانقة على خادمتها سالى من عدة جوانب، فمن ناحية أنها أخفت عنها حملها، وفاجأتها بالولادة، أما الجانب المهم فيبدو أن لوسى دوف جوردون قد أحبت عمر، وشعرت بالغيرة لأجل هذا حنقت على سالى، وكتبت إلى زوجها تشرح له مع حدث، وتقول إن عمر حاول جهده أن يقاومها، وإنه بعد الأسابيع الأولى حاول أن يفصح لها عن الأمر، ولكن سالى رفضت فكرة الزواج، كما رفضت أن تبلغ سيدتها.
ربما كان زوجها يشعر بالغيرة أيضًا، ولم يعجبه هذا التعاطف بين زوجته وعمر، ومنعها من اصطحابه إلى بريطانيا فى المرة المقبلة.
يبدو أن علاقة لوسى بعمر تعدت حدود الخدمة، وفى أثناء رحلتها للصيف من الأقصر إلى القاهرة فى مايو ١٨٦٥، وهى مارة بمدينة المنيا، حيث فاجأها التهاب فى الغشاء البلورى وكتبت إلى زوجها:
«وإذا لم أكن قد أحببت عمر، فإنه ينبغى أن أحبه الآن، فقد قام بتمريضى خيرًا من أى تمريض لقيته من قبل، وكان مطواعًا وماهرًا بقدر ما كان رفيقًا بى، وأعتقد أنه أنقذ حياتى حينما عالجنى بكئوس الهواء على الطريقة العربية، مستخدمًا فى ذلك كوبًا كبيرًا ومشرطًا قديمًا من أمواسك».
كما تحكى لزوجها عن عناية أصدقائها المصريين أثناء محنتها، فقد قرأوا القرآن الكريم من أجلها، وأوقدوا الشموع عن أم هاشم، ودعا المصلون فى المسجد ليجزيها الله على ما قدمت من فضل عليهم.
وعندما كشف عليها طبيبها الإنجليزى أخبرها بأن الرئة اليسرى السليمة قد أصيبت بالالتهاب، وأن علاج عمر قد أنقذ رئتها من التلف.
شعرت لوسى بقرب نهايتها، وكتبت إلى زوجها أنها تنتظر نهايتها صابرة وسط قوم يشفقون عليها ويحبونها فتشعر بينهم بالراحة. وتخبره بأن الناس يعطفون عليها، فقد حفر لها القاضى قبرًا ليدفنها فيه بين أهله.
تخبر لوسى زوجها بأن عمر نحر شاة نذرها، أما مصطفى ومحمد فقد ذبح كل منهما شاتين فدية لحياتها، وعقد كل الدراويش حلقتين للذكر فى خيمة وراء سفينتها، «وطبلوا بالطبول وأنشدوا الأناشيد ليلتين متعاقبتين داعين المولى أن يشفينى، وصام كل من على المركب شهر رمضان صيامًا نقيًا خالصًا. أما الناس فى إسنا فقد استأذنوا أن يلمسونى حتى تحصل لهم البركة، وكل واحد من هؤلاء كان يرسل إلىّ خبزًا لطيفًا وخير ما عندهم من الزبد والخضر ولحم الضأن، وهم الآن أكثر ما يكونون عطفًا علىّ، وأنا لا أستطيع أن أنفعهم بشىء».
غير أن لوسى عندما تتحدث عن الآثار المصرية فإنها شأن كل الأوروبيين ترى أن تلك الآثار مستباحة لمن يمد يده فقط ويأخذها، ولا تمنع نفسها هى أيضًا من سرقتها.
وتذكر السيدة أنها التقت أحد العمال المسنين الذى عمل مع بلزونى «مكتشف مقبرة سيتى الأول» بوادى الملوك، فقد كتبت لزوجها أنها تهديه تمثال سبع أثرى، واعترفت فى الرسالة بسرقته قائلة:
«لقد سرقته من أحد المعابد لأجلك، فقد وجدتهم يستخدمونه موطئًا لأقدامهم كى يعتلوا ظهور حميرهم، وقد سرق فلاح لأجلى خاتمًا فضيًا جميلًا التقطه من بين أنقاض الحفائر، وقال لى: لا تخبرى به مرييت (مدير الآثار) أنت أولى به منه لأنه إذا أخذه سيبيعه للفرنسيين، ويستولى على ثمنه، ولو لم أسرقه أنا لسرقه هو، لذا أخذت الخاتم لنفسى بكل هدوء».
الغريب أن لوسى مثلت بروفة للموت، وكما يقوم الممثلون بتجربة أدوارهم، فغابت عن الوعى ليلة كاملة، وأفاقت فى الصباح.
كما كتبت نعيها بنفسها إلى زوجها وتركت فراغًا بين الأسطر ليكتب فيها تاريخ الوفاة. وفى منتصف الليل طلبت بطانيات تتدثر بها، وفى الثانية صباحًا طلبت القهوة باللبن، ودخل البحارة إلى مقصورتها، وقبّلتهم واحتضنتهم، وماتت فى مقصورتها فى سفينتها فى الفجر، وكانت سفينتها راسية فى مياه نيل حلوان.