الأربعاء 22 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

من سيقرأ المليون كتاب؟

معرض القاهرة الدولى
معرض القاهرة الدولى للكتاب

حصلت على إجازة نهاية العام الدراسى، فى الصف الرابع أو الخامس الابتدائى على ما أتذكر، كان ذلك عام 2001 تقريبًا.

كالعادة، وقفت مع والدى فى «الدُكان»، هناك فى قرية «العوامية» التابعة لمركز «ساقلتة» بمحافظة سوهاج، حيث نبعد عن القاهرة قرابة 400 كم، ونبعد عما فيها سنوات ضوئية.

أحد مُدرسى المدرسة طلب علبة سجائر، ومع عدم توافرها فى ذلك الوقت، أخبره والدى بأنه سيرسلها إليه فى مقر عمله.. طبعًا معى، فالمقر هى مدرستى.

دخلت من باب المدرسة ففوجئت بغيرها، نظرت عن يمينى وشمالى، ثم خرجت مرة أخرى للتأكد من اللافتة الموضوعة فوق الباب: «مدرسة العوامية الابتدائية الجديدة».. هى مدرستى إذن، لكن ما هذا المهرجان يا تُرى؟! 

ملعب رُش بالمياه حتى ارتوى، وخُطط بالجير حتى تحسبه «سانتياجو برنابيو»، شباك كرة قدم ويد وسلة على الجانبين، وحصان ومتوازٍ ومَرتبة إسفنج، ولافتات عديدة مكتوب فوق إحداها بخط عريض: «النادى الصيفى».

والأهم أننى اكتشفت لأول مرة وجود مكتبة فى مدرستى، ولها أمين خاص بها، وملفات عديدة أمامه مدون عليها «حصص قراءة» لم نأخذها منذ خطت قدمانا أبواب المدرسة.. ربما أخذناها فقط على الورق، ونحن ننظف «الحوش»!

جاء فى خيالى وقتها ما أسمعه وأقرأه وأراه، فيما تيسر لدينا من وسائل إعلامية، بينها أول «فيسبوك» تصفحته: «قناة النيل للمعلومات»، عن مهرجان «القراءة للجميع»، ولم أجد نفسى-وأنا الغلباوى وما زلت- إلا وأسأل المُدرس، بعد إعطائه علبة السجائر: «إيه الهيلمان اللى أنا شايفه ده؟».. «إحنا فين من ده كله؟». 

نظر المدرس إلى زميله، وكان «غلباويًا» هو الآخر، وكأننا نجد فى هذا متنفسًا للترويح على حالنا بدلًا من الموت كمدًا، ثم شد أول نفس من أول سيجارة فى يومه، وقال مُحدثًا الزميل: «أهو ده ضرر جديد من أضرار السجاير!».

مقدمة كان لا بد منها، وموقف يستحق أن يروى، وأنا أشاهد وزير الثقافة، الدكتور أحمد هنو، وهو يعلن عن مبادرة لتوزيع مليون كتاب «على المصريين»، ضمن فعاليات الدورة الـ٥٦ من مهرجان القاهرة الدولى للكتاب.

لا يمكن لعاقل أن يقابل مثل هذه الخطوة سوى بالتصفيق والإشادة، لكن قبل أن نفعل ذلك، فلنسأل وزير الثقافة مجموعة من الأسئلة المهمة، أولها: من المستهدف بهذه المبادرة؟ من سيقرأ المليون؟

هل المواطن البسيط الذى لم يقرأ كتابًا فى عمره، والطالب الذى لم يدخل مكتبة مدرسته قط، وقضى «حصة القراءة» فى تنظيف «الحوش»؟ أم الموظف الذى أدخلنا «مكتبته»، وجعلنا نقرأ فيها «ما شاء هو» من كُتب.. على الورق؟!

أقول هذا وأنا أتحدث عن زمن كان فيه ما تسمى «حصة قراءة».. فما بالك الآن، الذى تبدو فيه الكلمة غريبة على مسامع أى طالب؟

وفقًا لما أعلنه وزير الثقافة، ستُوزع الكتب المليون على «الوزارات والمؤسسات المعنية ببناء الإنسان ونشر الوعى»، مثل: التربية والتعليم والتعليم الفنى، والتعليم العالى والبحث العلمى، والشباب والرياضة، والتضامن الاجتماعى، بالإضافة إلى جامعة الأزهر، والكنيسة، ونقابة الصحفيين.

والسؤال المهم هنا: لماذا «وسيط» فى تنفيذ مشروع كهذا؟ لماذا نتيح الفرصة لعودة «القراءة على الورق»، ونحن يمكننا نشر «القراءة الحقيقية» من خلال أفكار عديدة بسيطة؟

كيف؟

هل تتذكرون «أكشاك الفتوى»؟ ما رأيكم لو فعلنا التجربة ذاتها مع مبادرة «المليون كتاب»؟ نقيم «أكشاكًا» فى القرى الرئيسية، ونزودها بـ«حصتها» من كُتب المبادرة، بحيث يكون فى كل قرية رئيسية «كُشك كتب»، مهمته الأساسية إعارة هذه الكتب لأبناء القرية.

لك أن تتخيل قيمة وأهمية الكُتب التى ستُتاح فى هذه «الأكشاك»، ويقرأها أبناء القرى البعيدة عن المركزية، فى ظل مشاركة جميع القطاعات المسئولة عن النشر فى وزارة الثقافة، ومن بينها: المركز القومى للترجمة، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وصندوق التنمية الثقافية، والهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية، والمجلس الأعلى للثقافة.

كما يمكن تطوير الفكرة إلى إتاحة البيع فى هذه «الأكشاك»، خلال مرحلة لاحقة، أو حتى مع بدء تنفيذ المشروع، وهنا يأتى دور دور النشر الخاصة، التى يمكنها الاستفادة من هذه الأماكن فى بيع إصداراتها المختلفة، مع اشتراط وزارة الثقافة عليها البيع بأسعار مخفضة.

وفقًا لإحصائية صادرة عن الجهاز القومى للتعبئة العامة والإحصاء، يوجد فى مصر ٤٧٤٠ قرية رئيسية، تمثل نسبة ٥٧٪ من سكان مصر، ولو قسمنا المليون كتاب التى تتضمنها المبادرة، بعد وضع «كشك» فى كل قرية رئيسية تخدم أبناءها وأبناء التوابع والنجوع، ستبلغ حصة كل «كشك» أكثر من ٢١٠ آلاف كتاب، قابلة للزيادة مع نجاح الفكرة ومشاركة دور النشر الخاصة.

أسمعك الآن تقول: وما الذى يضمن ألا تتكرر تجربة «القراءة على الورق» فى تلك «الأكشاك»؟

يمكن مواجهة ذلك باختيار شاب «نشأ فى قراءة الكتب وقلبه مُعلَق بالمكتبات»، سواء كان لا يزال طالبًا أو تخرج فى كليته، بمكافأة أو راتب شهرى، مع استعداد كثيرين أعرفهم، على الأقل فى قريتى، لتولى هذه المهمة بدون مقابل... فهل من آذان مُصغية؟!