لوحة ورواية.. محمد سلماوى وخالد السماحى فى حوار بالألوان
- السماحى يتخذ من أعمال أدبية مصدرًا للإلهام الفنى
- ورشة فنية تعيد إحياء رواية محمد سلماوى من خلال اللوحة التشكيلية
يعكف الفنان التشكيلى خالد السماحى منذ عشر سنوات على إقامة ورشة تلو الأخرى، بعيدًا عن الضجيج والصخب، فى عزلة يظللها الشغف والإيمان بالفن ودوره، لا يهدف من ورائها أكثر من مد يد العون لفنانين يتلمسون بداية طريقهم، أو ربما الاستمتاع المتأنى بكل ضربة من ضربات ريشته على كل لوحة جديدة تخطها يداه، أو يرى أيادى أخرى وهى تخطها بعد أن منحها هو من روحه، ورؤيته.
على مدار الأعوام، يمضى «السماحى» فى رحلة تأملية، يتأنى فى كل ضربة لون يضعها على لوحاته، أو يراقب أيادى جديدة تصنع عوالمها الخاصة تحت إشرافه. منذ أيام، وتحديدًا من الثلاثاء إلى الخميس من الأسبوع الماضى، قرر «السماحى» أن يمنح لتجربته فى ورش الرسم، التى يعقدها بقاعة الممر فى متحف محمد محمود خليل، أفقًا جديدًا، بجعل اللوحة التشكيلية شريكة فى معانقة النص الأدبى وسبر أغوار فضاءاته وأعماق شخصياته، وكانت البداية مع رواية «الخرز الملون» للكاتب الكبير محمد سلماوى.
قرر «السماحى» أن يفتح أبواب ورشته دون قيود أو شروط أمام كل فنان هاوٍ أو محترف كى يشارك رؤاه ونظرته الخاصة لنص أدبى ثرى، استطاع عبر طبعات مختلفة أن يثير خيال فنانى الأغلفة نحو تصورات متنوعة لمشاهد ورؤى متنوعة من حياة بطلة الرواية؛ نسرين حورى، لتأتى تجربة الورشة المنعقدة على مدار ثلاثة أيام، لتستحث مخيلات أجيال متنوعة من الفنانين على منح العمل الأدبى حياة جديدة من خلال أعمالهم الفنية.
مساحة للتعلم
فى حديثه معنا، ينوه «السماحى» بأن فكرة الورش الفنية قد بدأت معه خلال دراسته فى كلية الفنون الجميلة، إذ كان يسعى لفهم تقنيات الفن الواقعى وتفاصيله، خاصة الرسم من الموديل الحى، الذى كان نادرًا فى مصر وقتها، وتحديدًا فى فترة التسعينيات. وبعد تخرجه، وسفره إلى عدة دول مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، رأى كيف يشارك الفنانون تجاربهم فى الرسم مباشرة أمام الجمهور، دون تحفظ. تلك التجربة كانت ملهمة له إذ جعلته يقرر أن ينقل هذه الخبرات إلى مصر، وبعد سنوات من الإقامة بالخارج، عاد إلى مصر محملًا برغبة مشاركة ما تعلمه مع شباب الفنانين، ليمنح لهم الدعم الذى افتقده فى بداياته.
يقول «السماحى»: هدفت من خلال الورش المجانية المقامة بقاعة الممر إلى خلق مساحة يتعلم فيها الفنانون بشكل عملى ومباشر، سواء داخل المرسم أو عبر الخروج لرسم المناظر الطبيعية، وقد حظيت الورشة باهتمام الكثير من الفنانين وطلاب الفن على الرغم من محدودية التسويق لها.
بين الرواية واللوحة
فى محاولة منه لفتح آفاق جديدة لورشته، فكّر الفنان خالد السماحى فى أن يتخذ من أعمال أدبية مصدرًا للإلهام الفنى، وحينما طرح الفكرة على صديقه الكاتب محمد سلماوى وجد إشادة وترحيبًا جمًا، حينها اقترح «سلماوى» عمله «الخرز الملوّن» ليكون بداية لتجسيد الفكرة الوليدة.
يشير «السماحى» إلى أن الرواية أثارت بداخله رغبة فى التعبير الفنى عن القضايا الإنسانية الكبرى، مثل الهوية، والاحتلال، والثقافة العربية، وكيف يمكن للفن أن يكون وسيلة للحفاظ على القيم الأصيلة، فالرواية تحكى قصة فتاة فلسطينية تواجه مآسى الاحتلال الإسرائيلى، وتسلط الضوء على قيمة الإنسان وكيف يمكن الاستعاضة عما هو أصيل وثمين بشىء زائف ومزيف، تمامًا مثل الخرز الملون الذى كان يستخدمه المستعمرون لإغراء القبائل الإفريقية مقابل استغلال أراضيهم.
قرأ السماحى الرواية وانفعل بها، ورسم تخيلًا ذهنيًا عن شخصية بطلتها التى تجمع ما بين الجمال والصرامة، التحدى والجلد. تخيل الفنان نسرين الحورى وكأنها رمز لفلسطين بجمالها ومعاناتها، وتعبير عن بهاء أرضها التى لطالما أثارت مطامع المستعمرين والغزاة لاستغلالها ونهبها، ثم ناقش مع الفنانين على مدار أيام الورشة أبعاد الرواية المختلفة، ملامح المقاومة والانكسار التى عبّرت عنها الشخصية الرئيسية بالرواية، وتماس العمل الأدبى مع كثير من المحطات التاريخية البارزة بل ومع الواقع المعيش داعيًا الحضور إلى الانغماس فى معايشة الرواية وأحداثها لاستخلاص رؤاهم الفنية المختلفة إزائها.
وتوقف السماحى طويلًا أمام رمزية الخرز الملوّن كما عبّر عنها العمل الأدبى، فالمستعمر الغربى كان ينظر إلى القبائل العربية باعتبارها بوابة لاستغلال خيرات الأرض. وفى سبيل ذلك، كان يمنحهم خرزًا ملونًا زائف القيمة مقابل السيطرة على مواردهم وأراضيهم، مُظهرًا سعيًا ممنهجًا لاستغلال الأصالة الراسخة فى الأرض لصالح بريق زائف. اليوم، نواجه صورًا جديدة من ذلك الانبهار بما هو قادم من الخارج، مثل المولات العملاقة والتكنولوجيا التى تُقدم لنا اختراعات حديثة، لكنها غالبًا ما تُوظَّف بشكل سطحى. وفى خضم هذا اللهاث خلف كل ما هو براّق، نضحى بما هو أصيل وجذرى، مما يجعل هويتنا عرضة للانجراف. ومن هنا جاء ارتداء بطلة الرواية للزى الفلسطينى التقليدى تذكيرًا بجذورها وهويتها، فى مواجهة محاولات طمسها وسرقة الأرض.
فى اليوم الأول من الورشة، أبدى الكاتب والروائى محمد سلماوى حرصه على الانخراط الفعّال مع الفنانين المشاركين، مناقشًا عمله الأدبى وإمكانية تفاعله مع الفن التشكيلى لإنتاج أشكال جديدة من التعبير. تحدث «سلماوى» بشغف عن قوة الفنون، قائلًا: «الفنون تخاطب الوجدان، تؤثر فى نفسية الإنسان وتغير رؤيته للأشياء»، وأشار إلى قدرة الأعمال الفنية على ترسيخ الأفكار والأساطير فى أذهان الناس، قائلًا: هناك أمم بنت أسطورتها من خلال الأدب والفنون، مثل الروايات واللوحات التى أسهمت فى تكريس صورة اليهود باعتبارهم ضحايا فى مخيلة العالم».
وفى سياق النقاش، اقترح «سلماوى» مشاهد مستوحاة من عمله الأدبى يمكن أن تُترجم إلى أعمال تشكيلية. ومن أبرز المشاهد التى أشار إليها لقاء نسرين بزوجها فى سوريا، فى منطقة الغوطة، والتى وصفها بأنها أشبه بجنة عدن المذكورة فى القرآن، فاللقاء يصور لحظة حميمية بينهما، وكأنهما آدم وحواء، يجسدان البداية والنقاء وسط عالم مضطرب.
وتحدث الفنانون فى جلستهم مع المؤلف عن رؤاهم إزاء العمل الفنى، وفى هذا السياق، تحدّث الفنان أحمد بكر عن بُعد التضامن العربى عمومًا والمصرى خصوصًا مع القضية الفلسطينية كما عبّرت عنه رواية «الخرز الملون»، الذى ظهر من خلال أكثر من محطة تاريخية وحدث روائى.
معرض «الخرز الملون»
فى اليوم الأخير من الورشة، افتُتح معرض «الخرز الملون» بقاعة الممر، الذى نتج عن جهود الفنانين خلال الورشة المكثفة، حضر الافتتاح الكاتب محمد سلماوى والفنان خالد السماحى والفنانون المشاركون.
وأثنى «سلماوى» على الرؤى الفنية الفريدة التى حملتها اللوحات المشاركة، فأشار إلى أنها بمثابة دليل حيوى على فكرة التكامل والتواشج ما بين الفن التشكيلى والأدب، وبين الفنون جميعًا بشكل عام، كما أشاد بالتنوع الذى أظهرته اللوحات، فقد ظهرت شخصية نسرين وطفلها فى أعمال الفنانين بطرق مختلفة تعكس رؤى ومشاعر متعددة. ظهر الابن فى بعض اللوحات ثائرًا بألوان حارة تعبر عن الغضب والمقاومة، بينما بدا فى لوحات أخرى بريئًا يعكس رمز الحق والبراءة المرتبطة بالقضية. كذلك، تجسدت البطلة نسرين فى مشاهد متنوعة تُبرز حيويتها وأحداث حياتها، وفى لوحات أخرى ظهرت فى مشهد الغروب حيث تهيمن القتامة على رؤيتها.
وتحدّث الفنانون عن أعمالهم وما تحمله من رؤى فكرية إزاء العمل الأدبى، فأشاروا إلى استخدام الفن وسيلة للتعبير عن القضايا الكبرى، ودوره فى التثقيف ورفع الوعى. كما شهد المعرض مناقشات حول تعبير اللوحات عن وحشية الممارسات الإسرائيلية من خلال إضفاء القتامة على خلفية اللوحات بشكل مؤثر، وعن التعبير الفنى الذى يظهر الرابط القوى بين مصر وفلسطين من خلال إضفاء رمزية الأهرام كعنصر فنى باللوحة يعكس القوة والثبات، ولم يغفل الفنانون الإشارة إلى التفاصيل البصرية فى الرواية، مثل الكوفية الفلسطينية والطراز الخاص بها، التى كانت رمزًا بارزًا، وكذلك البحر الذى كان يرمز إلى حرية مأمولة ومفقودة فى الوقت ذاته، وكيفية توظيف هذه الرموز بمهارة لتمثيل قضايا عميقة تمس الواقع الفلسطينى.
وأشار الفنان خالد السماحى إلى المشهد الختامى الذى عبّر عنه من خلال أفق الغروب، مشيرًا إلى البُعد الفلسفى الذى حملته الرواية بالحديث عن الابن الذى يحمل مستقبلًا غامضًا. البعض رأى فيه رمزًا للمقاومة أو الجهاد، وهو ما حاول التعبير عنه من خلال إبراز تلك العناصر فى لوحاته المشاركة بالمعرض.
اختُتم المعرض باقتراح من «سلماوى» لإدراج هذه اللوحات فى طبعات جديدة من الرواية أو بملحق خاص بها يوضح ملامح هذه التجربة فى الجمع ما بين النصوص الأدبية وأعمال الفن التشكيلي، مما يمنح القارئ أبعادًا جديدة لفهم العمل الأدبى، كما عبّر الفنان خالد السماحى عن رغبته فى تكرار التجربة مع أعمال أدبية وفنية أخرى سواء كانت رواية أم شعرًا أم حتى عملًا موسيقيًا.