الخميس 30 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فردة شمال.. فصل من رواية «كابتن الجوهرى فى الزاوية الحمرا» لـ«عماد أنور»

حرف

- فى المباريات التى تُجرى بنظام المراهنات يدفع كل فريق من الفريقين المتباريين مبلغًا من المال

- تحفظ المرأة بضاعتها جيدًا.. تترك لزبائنها حرية الاختيار بينما تظل هى فى الخارج

يشارك الكاتب الصحفى عماد أنور فى الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، بروايته الجديدة «كابتن الجوهرى فى الزاوية الحمرا»، الصادرة عن دار العربى للنشر، فى إطار احتفالها بمرور 50 عامًا على تأسيسها.

الرواية تدور أحداثها فى «الزاوية الحمراء»، حيث تستعرض كيف تحولت شوارع الحى وحاراته إلى ساحات عامة لمتابعة مباراة مصر وهولندا، خلال بطولة كأس العالم 1990 بإيطاليا، وسط مشاهد إنسانية واجتماعية، حيث نرى وجهًا آخر لمصر التسعينيات، ونتأمل لوحة تملؤها الألوان لحياة أهالى الحى العريق.

يتعمد «ريكا» على فترات المرور من أمام بيت «أم سلّوم»، فهى خالة حبيبته أمل، وقد تكفلت بتربيتها بعد رحيل أمها.

بجانب عملها فى بيع أنابيب الغاز، تتاجر «أم سلّوم» فى الأحذية الرياضية المستعملة، أغلبها من ماركة «باتا»، تبيعها مقابل مبلغ زهيد، توفر كذلك إمكان شراء فردة واحدة.

يأتى إليها شحاتة نباش الزبالة مرة كل أول شهر، يحمل فوق ظهره جوالًا كبيرًا مملوءًا بالأحذية القديمة، تشتريها «أم سلّوم» دفعة واحدة، تفرزها فى غرفة بالدور الأرضى فى منزلها، خصصتها لعرض بضاعتها، يرتادها الزبائن لاختيار ما يناسبهم.

طُليت الغرفة بالجير الأزرق الفاتح، لها سقف مرتفع وشباك كبير يطل على الحارة، ومنعًا للسرقة وضعت قضبانًا حديدية على الشباك. فى وسط الغرفة توجد كومة كبيرة من الأحذية المتنوعة، تختار منها الأفضل حالًا، تختار الحذاء الخالى من العيوب أو المتهالك، تضعه فى ركن خاص، تصنفه على أنه بضاعة فاخرة، تطلق عليها بلغة السوق «البضاعة الكريمة»، لا تتعامل التاجرة مع هذه النوعية من البضاعة مثلما تتعامل مع البضاعة العادية، «البضاعة الكريمة» مرصوصة ومرتبة، سهل التعرف على المقاسات المتاحة، ولا تُباع بالفردة الواحدة، أما من يريد أن يشترى زوجين كاملين من البضاعة العادية، فيخوض مهمة صعبة للحصول على فردتين متطابقتين فى الشكل والمقاس، يحتاج ذلك إلى قضاء وقت طويل وسط كومة الأحذية.

أمام البيت، كانت «أم سلّوم» تجلس على حجر رصيف وضعت فوقه كارتونة مطوية، وهى امرأة فى أوائل الأربعينيات، تتشح دومًا بالسواد، ترتدى عباءة وشبشبًا وطرحة شفافة تغطى منتصف رأسها، تجمع حولها بعض النساء، اللاتى جئن يتوسطن للصلح بينها وبين إحدى الجارات.

بجوار عملها، تعمل المرأة كبنك متنقل، تمنح سيدات المنطقة المتعثرات قروضًا، كذلك تلجأ إليها السيدات لشراء بعض الأدوات المنزلية، تسترد ثمنها على أقساط شهرية فى مدة لا تتخطى العام بفائدة ١٥ قرشًا عن الجنيه الواحد.

لا تمنح «أم سلّوم» تلك القروض للنساء فقط، يلجأ إليها الشبان من سكان الشارع، تمنحهم قروضًا حسنة بلا فوائد، يطلبون منها النقود عندما يلعبون مباريات الكرة على مراهنات، يردونها إليها فى حالة المكسب، أما فى حالة الخسارة، فتترك لهم الوقت الكافى لرد الأموال، تعتقد أنها تساعدهم على ممارسة اللعب، تقول: 

- ياخدوا الفلوس عشان يلعبوا الكورة بدل ما عيل يروح يشترى بيها سجاير واللا يشم كلّة. 

يحنُّ قلبها إذا جاءها أحدهم يطلب منها مبلغًا من المال لزوم اللعب أمام فريق من منطقة أخرى، تقول:

- عيال غلابة مش عاوزاهم يحسّوا إنهم أقل من أى حد، خليهم يلعبوا وينبسطوا.

فى المباريات التى تُجرى بنظام المراهنات، يدفع كل فريق من الفريقين المتباريين مبلغًا من المال، عشرة جنيهات، ربما أقل من ذلك أو أكثر، يُقسم مبلغ الرهان على لاعبى الفريق المكون من خمسة أفراد، تُوضع النقود فى عهدة حكم المباراة، يرشحون لمهمة التحكيم شخصًا أمينًا وذا شخصية قوية، قادرًا على إدارة المباراة والخروج بها إلى بر الأمان.

قد تنتهى هذه النوعية من المباريات بمشاجرة، وفلوس الرهان تزيدها حماسة وعنفًا، ولا تخلو أيضًا من الاعتراض على قرارات الحكم، يحصل الفريق الفائز فى المباراة على الأموال كاملة، ويحصل الحكم على جزء منها نظير تعبه. قد يصطحب قائد الفريق الفائز الحكم وزملاءه اللاعبين إلى أقرب كشك فى محيط ملعب المباراة، ويحتسى الجميع المياه الغازية احتفالًا بالفوز، بعد خصم هذه النفقات توزّع بقية النقود بالتساوى على لاعبى الفريق.

زحام أما بيت «أم سلّوم» بسبب خلاف نشب مع إحدى السيدات، تراكمت عليها الديون، وتعثرت فى السداد، كانت قد اشترت لها ثلاثة أطقم ملاءات سرير لاستكمال مستلزمات زواج ابنتها التى اقترب موعد زفافها، تأخرت فى سداد خمسة أقساط شهرية متتالية، تشاجرت معها «أم سلّوم» أمام الجيران، وقف «ريكا» وصاحبه يتابعان الموقف من بعيد.

قالت إحدى السيدات قاصدة تهدئة الأمور:

- يا أم سلّوم، الست غلبانة، اصبرى عليها لآخر الشهر، ينوبك ثواب تقفى جنبها عشان تجوز بنتها اليتيمة.

نظرت إليها بغضب، ووضعت يدها فى وسطها، رفعت سبابة اليد الأخرى إلى جبهتها قبل أن ترد وتعدد الامتيازات التى منحت المرأة المديونة إياها:

- دى بقالها خمس شهور ما بتدفعش، كل ده ما وقفتش جنبها، قلت لها متدفعيش أول شهرين، كمان اديتها ٦ فوط نقطة البت بنتها، أعمل إيه تانى؟ أنا براعى ربنا عندنا بنات زيها عاوزين نسترهم.

سريعًا تنتهى مثل هذه الأزمات، طيبة قلب «أم سلّوم» تمنعها من إيذاء جاراتها، لم تلجأ يومًا إلى قسم الشرطة، لم تستخدم «الكمبيالات» وسيلة للضغط على زبائنها، تكتفى بتوبيخ الزبائن وهى تنعى حالها:

- أنا واحدة بطولى فى الدنيا. جوزى مات وسابلى عيل حتة لحمة حمرا، من يومها وأنا شقيانة وبسترزق، أنتم كل واحدة فيكم عندها راجل مهنيها ومستتها وواقف فى ضهرها.

على ناصية الحارة الضيقة، لمح «ريكا» وصاحبه الشجار، استغل الموقف، تسلل إلى داخل البيت، وقف يتحدث مع أمل بينما وقف صاحبه يراقب الأجواء حتى لا يلمحهما أحد ويُكشف أمرهما، كانت تظهر عليه علامات القلق، طمأنته الفتاة:

- ما تخافش مش حايخلصوا دلوقتى.

بعد أن انصرفت السيدات، انتبهت «أم سلّوم» إلى وجود «عصفورة»، الذى حاول أن يليها فصاحبه لا يزال بالداخل. قال بصوت عالٍ كى تصل الإشارة إلى صاحبه:

- عاوز فردة شمال حالتها حلوة يا خالتى.

ردت عليه:

- مالك يا واد بتجعر ليه؟ أنا بينى وبينك شبرين. وبعدين جاى لوحدك ليه، فين صاحبك؟ الواد «ريكا» ده متربى وأنا بحبه، لو بإيدى آخده يعيش معايا.

قبل أن يرد، لمحت «ريكا» عند مدخل الشارع، فهم إشارة صاحبه، تسلل من شباك بالبيت يطل على الشارع الخلفى.

أذنت لهما بالدخول، وطلبت منهما أن يحملا أنبوبة غاز موجودة أمام البيت ويضعاها بالداخل، أوصتهما بالحرص حتى لا تقع وتصيب أحدهما.

أمام كومة من الأحذية ورائحة صعبة ملأت الغرفة، وقف الاثنان يبحثان عن فردة حذاء على مقاس «عصفورة»، أغلب البضاعة بحالة رديئة، ولم يعثرا على واحدة سليمة. اقترح «ريكا» على صاحبه أن يختار من الكومة المميزة، رفض الأخير؛ لأنه لا يمتلك سوى جنيه والنصف، ثمن فردة الحذاء العادية، وهو يحتاج فقط إلى فردة شمال، فلأنه أعسر تتهالك تلك الفردة أسرع من اليمنى، وبدلًا من أن يتحمل ثمن شراء حذاء جديد تسعفه بضاعة أم «سلّوم»، ليحل أزمته بأقل التكاليف.

طمأن «ريكا» صاحبه:

- خد من الكريمة وأنا هاتحايل على خالتى أم سلّوم تاخد الفلوس اللى معاك.

بالفعل نجح فى الوساطة مستغلًّا مكانته عند المرأة، كانت تحبه، تقول لأمه: 

- والنبى هاتيه يعيش معايا بدل الجاموسة اللى أنا مخلفاه، كمان كام سنة وأجوزه البت أمل.

كم تمنى الصبى موافقة أمه على هذا العرض.

تحفظ المرأة بضاعتها جيدًا، تترك لزبائنها حرية الاختيار، بينما تظل هى فى الخارج، تثق بأنه لا يمكن استغفالها، زبائن محددة فقط هم من يتعرضون للتفتيش؛ لأنهم اشتهروا بالسرقة، يشترون فردة حذاء ويخفون أخرى فى طيات ملابسهم.

ذات يوم، راهن أحدهم على قدرته فى الخروج بحذاء دون أن تضبطه «أم سلّوم»، لكنه خسر رهانه وفشلت مهمته، ذلك عندما حاول إخفاء الحذاء فى بنطلونه من الخلف، ارتابت فيه المرأة بخبرتها، أوقفته تحسست الجزء العلوى من جسده، لم تجد شيئًا، حاول الشوشرة على فعلته، قال بصوت عالٍ وهو يبتعد: 

- أنت بتشكى فىَّ يا خالتى، أنا هاسرق فردة جزمة؟

انصرف السارق، وظهرت مؤخرته منتفخة قليلًا برغم جسده النحيل، تيقنت المرأة أن شكها فى محله، سارت خلفه ببطء، أمسكت به، فى اللحظة نفسها، وصل «سلّوم». ظهرت سيارته آتية من أول الشارع، ألقى تحيته الشهيرة على شلة من شبان المنطقة كانوا يقفون على ناصية الشارع: 

- صباح خالى من التلوث.

شاهد ما يحدث من خلف زجاج سيارته، ترك السيارة فى منتصف الشارع، نزل مهرولًا:

- فى إيه ياما، الواد ده عمل إيه؟

كان السارق أحد رفقاء التسول. لم تلتفت إليه أمه، وجهت كلامها إلى السارق:

- طلّع ياد الجزمة بالذوق، بدل ما أمد أيدى جوه بنطلونك وآخدها.

قبل أن تكمل تدخّل «سلّوم» قائلًا:

- خلاص ياما سيبهولى أنا هاتصرف معاه.

سحبه إلى داخل البيت، شد سرواله فسقط الحذاء على الأرض، أخذ وجه السارق نصيبه من لُعاب «أم سلّوم»، دفعته بيدها فى صدره، نظرت إلى مؤخرته ثم قالت:

- شكلك متعوّد تخبى فيها الحاجة اللى بتسرقها.