قصائد من ديوان مخطوط.. ظهيرة حارس المشتل
يدُ الشِّـعـرِ
للشِّعرِ الآنَ يدٌ
لم تعُدْ تَعْزِفُ.
لستُ الأطولَ،
لستُ الأضخمَ بين أصابعِها.
أنا إصبعُ الدَّلالِ فى المَحبّةِ
إصبعُ الدَّلالِ فى الخِصامِ.
أسْنُدُ اليَدَ وقتَ الكتابةِ
وزمامُ القبضةِ
عندَ الطّعنِ..
فى يدِ الشِّعرِ؛ أنا الخِنْصِرُ:
حبّةُ عنقودِ اليدْ.
وحيدُ القَـرنِ
«إلى شَاعرِ رجْعىّ»
مسْكينُ يا وحيدَ القَرْنِ
أيّها الحَيوانُ الّلحِيمُ
صرتَ طاعنًا فى السّنِّ أكثرَ مما يجبُ
وتهدّلَ لحمُ جفونِكَ على عينيكَ
فَلَمْ تَعُدْ ترَ
وحينَ اسْتَعَنتَ بحَاسّةِ الشمِّ
على البَصَرِ المَفقودِ
صرتَ كُلّمَا شمَمتَ شجرةً
تَظنُّهَا عَدُوًّا؛
فتنطحُهَا..
وما أكثرُ أشْجارِ الغَابةِ
فهى تنمُو كلَّ يوم
المشَـقّـةُ
المشَـقّـةُ لم تكُـن فى القـتل
وهوَ يتفقّدُ أكوامًا منَ الجُثثَ
كانَ كَمَنْ يبحثُ عنْ حبّةٍ غاليةٍ
بينَ الحَصَاد
عيناهِ كانتا أكثرَ رُعبًا من القتلى.
رشاشُهُ الثَّقيلُ بدَا خفيفًا
وضعيفًا- فوقَ كتفهِ-
مثلَ عصَا خَشَبٍ تنظرُ بفُوّهةٍ بارِدةٍ
ناحيةَ السماءْ.
المَشَقّةُ
لم تكُن فى القتلِ..
ألفُ جثّةٍ، ألفانِ ربما، فى دقيقةٍ.
سوفَ يأكلُ ملحُ البكاءِ
جفونَ الملائكةِ النادرينَ
الذينَ بدَوْا- كعادتهِم- عاجزينَ عن فعلِ شيءٍ
ونادمينَ على بقائهِم إلى الآنَ
فى حياةٍ كهذهِ.
المشقةُ لم تكُن فى القتلِ
سوفَ يتعبُ المشيِّعونَ،
الأطفالُ الذينَ صَارُوا
رجالاً- فجأةً- بعدْ أن توارَتْ طفولتُهُم
- مع الآباءِ
المقتُولينَ للتوِّ-
تحتَ الترابِ.
وسوف تتعبُ المشيّعاتُ، الأراملُ
اللاتى أكَّدْنَ- دونَ
عويلٍ- على ضرورةِ لفِّ أجسادِ رجالهِنّ
بقماشٍ أبيضَ قبلَ الدّفنِ
معتذراتٍ للهِ البصيرِ
عن عدمِ غُسْلِ الموتى
لأسبابٍ عديدةٍ
ومتنازلاتٍ للقتلةِ الأجنبيينَ
عن النظرةِ الأخيرةِ
فى وجوهِ
من ماتوا
المَشَقةُ لم تكُنْ فى القتلِ،
ولا فى اقتِسامِ جثّةِ القتيلِ
بل فى البحثِ عن رمالٍ
خَلَتْ ذرّاتُها من حُطامِ عربٍ ميّتينَ
عن أرضٍ تقبلُ الجثثَ الجديدةَ- كلَّ يومٍ-
تحتَ عينِ اللهِ
فى الشّهرِ الحرامِ!
المَشَقةُ
كلُّ المَشَقّةِ فى النظرْ
والصمتْ.
العِـلّةُ التى أصَـابتْ حَـنْجَـرَتى
الآنَ
يمكنُ للباقينَ أحياءً بالمصادفةِ
أن يسلّمُوا سريعًا
إذا تقابَلُوا فى طريقٍ
ثم يمضونَ إلى مصائرِهم
مطأطئى الرءوسِ
كمَا يليقُ بعابرينَ فى الدُّنيا
التى ضاقتْ على الرّوحِ
كما تَضيقُ واحدةُ الحِذاءِ
على قَدمِ الفَقيرِ
وقبلَ أن يدخُلوا البيوتَ
التى ما عادُوا يشْعُرونَ بالرَّاحةِ فيها،
يبصقونَ؛
فالخارجُ ليسَ أكثرَ رحمةً
لَهُم أنْ يَرفَعَوْا عاليًا أصواتَ موسيقى صاخبةٍ
مثلَما قدْ يفعلُ المُقْعَدُونَ
وأُمُّهُم تُغتَصَبُ
فى الغُرفةِ المُجَاوِرَةْ..
أما أنا، سأقولُ: «نَحْنُ»
ولَنْ أمَلّ مِن تردِيدِهَا
كأنّنى الحارسُ الوحيدُ لآخرِ ما تبَقّى
من حقولٍ
«نحنُ»: العلّةُ التى أصَابتْ حَنْجَرتى
فى الوقتِ الأخيرِ
وقتِنَا المَسْجُونِ بينَ رَتابةِ
دقّتيْنِ فى المَكانِ نَفْسهِ
مثلُ العَقْربِ الضَّعيفِ فى سَاعةِ حائطٍ
تعطّلتْ
وقتُنَا الذى عوّدنَاهُ بصعُوبةٍ
على الهَواءِ المَسْمومِ
والجِيران..
وقتِنا «نحنُ»
ودفعْنَا فيهِ أحلامًا ثمينةً حقًّا
أحلامنَا التى صارتْ بعيدةً عنّا الآنَ
بُعدَ أصواتِ أحبّةٍ غابُوا
قبلَ أن نتمكّنَ
من الإصغاءِ إليهَا
إصغاءَ مُودِّعِينْ
نحنُ الذينَ هجَرْنَا بيوتَنَا الأُولى
صغارًا بأجنحةٍ ملوّنة
وتركنا الغيابَ ينامُ فى أَسِرَّتِنا
يمُدُّ يَدَهُ
لِيأكُلَ بينَ إخْوتِنا
ثلاثَ مَراتٍ فى اليومِ
والليلةِ
صرْنَا كبارًا فجأةً
ولنَا أجنحةٌ لكنّها مثْقوبةٍ
لكنَّنَا لا نَزالُ قادِرينَ
على الضَّحكِ، والمَشِى، والكلامِ
وربّما المَحبّةْ.