بطاقة حى بن يقظان.. مراوحات الذاكرة وبنية القص

- تتواتر صيغ سردية متعددة فى المجموعة، تتخذ أحيانًا وجهة ترميزية مثلما نرى فى قصة «الفرية»
- تبدو مأساة الفتاة الرقيقة فى قصة «هولا هوب» مسكونة بشجن صافٍ ومحملة بظلال رومانتيكية
مدارات إنسانية حميمة تعاينها المجموعة القصصية «بطاقة حى بن يقظان» للقاص أسامة ريان، والصادرة فى القاهرة حديثًا «الهيئة العامة لقصور الثقافة».
هنا قصص تأخذ صيغًا جمالية متعددة، تتوسل فى الغالب بالنوستالجيا، وتعتمد على تقاطعات الماضى والحاضر، وتحوى أحيانًا ثالثة نزعة ساخرة، تبدأ من «فايز» وتنتهى بقصة «يوم احتفوا بالفأر فى الكرار»، وتحمل طيلة الوقت موقفًا من العالم من قبيل قصته «أسماء»، حيث الروح المصرية المحاصرة بين الاستلاب للآخر من جهة، أو للماضى من جهة ثانية.
وتبدو فكرة الزمن جوهرًا أصيلًا داخل المجموعة، يعيد القاص تفكيكها وتركيبها، ويبدو مشغولًا بها، وقد تحضر عبر ظلال آتية من بعيد، فتترك ندوبًا فى الروح فى قصة «تشابك»، أو قد تحضر عبر نغمة تتهادى، أو عطر امرأة جميلة ينفذ إلى الروح فى قصة «أبلة قدرية»، وقد تحضر أيضًا عبر مساحات التقاطع بين الماضى والحاضر فى قصة «فايز»، وهكذا..

القصة المركزية
وفى القصة المركزية التى تحمل المجموعة اسمها «بطاقة حى بن يقظان»، يراوح النص بين الواقع والمتخيل، وتبدو حيرة السارد البطل أمام ماكينة السحب الآلى، مكونة ملامح السرد، ودافعة لاستحضار عالم تخييلى بامتياز بطله حى بن يقظان، حيث لا بطاقة هوية لدى الإنسان الأول على سطح جزيرة بعيدة، فى الحكاية التراثية الشهيرة، ليتجادل خطان للسرد هنا، أحدهما راهن واقعى، والثانى ماضوى متخيل، وعبر جدلهما الخلاق تتشكل بنية السرد داخل القصة، التى تبدأ بأنسنة الماكينة ذاتها: «ينتابنى هاجس شهرى كلما جاء أوان لقائها... تقف بدلال على الناصية، وتجاورها صاحبتها ويحرسهما شرطى... ألحظها، أشعر أنها تتفحصنى بشاشتها تضىء وتطفئ، وفى يدى كارت تعارفنا قبل أن تسمح لى بالعبث بأزرارها الملونة... توافق، فتمنحنى الأوراق المالية مقابل إدخال رقم أجتهد كثيرًا ألا يتسرب من رأسى بين أمور أخرى كثيرة تتسرب من رأسى الآن. أردد هذا الرقم كثيرًا كلما سنح الوقت، خاصة قبل أن أنام... أذكره بين ما أردده من الآيات والأوراد إلى أن أغفو، فيهاجمنى فى أحلامى كابوس نسيانه أو ضياع بطاقتنا، فأرانى وحيدًا فى مكان يشبه تلك الغابة على الجزيرة النائية... اجتهد الرسامون حول زمن الأندلس فى تصويرها مأوى لـ(حى بن يقظان) الذى قذفت به السفينة الغارقة رضيعًا إلى تلك الجزيرة... مثله، أرانى هناك... وحيدًا تسترنى نباتات، أتلفتُ حولى فزعًا استجابة لصوت كالفحيح لجوقة تسألنى متوعدة: (كم رقمك؟ أين بطاقتك؟)».
وتظل ثمة رؤية طليعية تتأمل الواقع، وتعيد النظر صوب المقولات الجاهزة عبر تفعيل منطق الحكاية، وتضفيرها بالمعرفى، ودمجه فى بنيتها بلا افتعال ولا تزيد. وتظهر فى عنوان القصة «بطاقة حى بن يقظان»، والتى ستحيلك على نمط عنوان المجموعة السابقة للكاتب ذاته «بجعات ابن حزم».
ثمة رجل يتعثر فى الزمن إذن، يقبض على رقم الفيزا، والرقم القومى، يحلم بهما فى صحوه ومنامه، ترى ماذا لو فقدهما. حتى يفقدهما بالفعل أو يتخيل ذلك. ويبدأ فى طرح الأسئلة حين يستذكر قصة حى بن يقظان. هل كان يمتلك رقمًا ثبوتيًا. كان المواطن الأول على الجزيرة النائية. وفى أجواء من التخييل القصصى المضفرة بالسخرية من الذات والعالم تتواتر القصة.

بنية السرد
يستهل الكاتب مجموعته القصصية «حى بن يقظان» بنصه «فايز»، التى تحيلك على منحى الشخصية الغائبة المحركة للسرد، فايز الذى يشى غيابه بحضور بارز فى ذاكرة المكان، والبشر، حيث رفاق الحى القدامى، ومن بينهم السارد البطل الذى يقابل الشاويش على فى الوحدة العسكرية، وتصبح نقطة التحول الدرامى مفعمة بالنوستالجيا، ومرتكنة على استحضار الماضى القريب، حيث فايز جرجس الشهيد الذى تعرف على جثمانه رفيقه «على» من الحذاء الأبيض الخفيف الذى يرتديه. وتنهض القصة أيضًا على تكنيك المفارقة، حيث يعتقد السارد أن فايز قد عاد، بينما لم يكن الأمر سوى هذا التماهى بين العم جرجس وولده الغائب، حين يرتدى ثيابه منتظرًا مروية جديدة أو حتى قديمة يحكيها السارد عن الابن الراحل.
تمثل الحكايات هنا حالًا من السلوى يفجرها الموقف السردى: «أول إجازة لى بعد هذا اللقاء مع لولو... مررت بمنزل فايز، متجهًا إلى بيتنا... لم يكن تفكيرى فيه قد توقَّف... كما لو كان واقفًا فى المدخل... خلفه ظلام الداخل... فى غَبَش المغرب... دقَّقت فيه مقتربًا غيرَ مصدِّق... أنفاسى متسارعة... كان أباه... مرتديًا بعضًا من ملابس ابنه... فايز... التشابه مخيف... خاصةً بالبيريه... التقطت أنفاسى:
- مساء الخير يا عم جرجس... إزّىّ صحّتك دلوقت؟».
يبدأ أسامة ريان إذن خط القص الرئيسى من لحظة راهنة، ثم يحدث ما يسمى ارتدادات الذاكرة عبر توظيف تكنيك الفلاش باك، مثلما نرى أيضًا فى قصة «تشابك»، حيث الحب المأزوم بين محب وفايزة، والمواضعات الاجتماعية الحائلة بينهما، لكن يبدأ ريان قصته من لحظة سردية تتلو النهاية، حيث يلتقى السارد بصديقه القديم «محب» فى مصادفة عابرة داخل الباص، ويبدو الزمن تاركًا أثره على محب، وتبدو الحكاية القديمة ملقية بظلالها الكابية عليه، فلا يلتفت لصديقه القديم المتهم بالخذلان لديه، وتصبح استعادة حكاية محب وفايزة والسياقات المحيطة بها جوهرًا للنص، وللذكرى معًا.
وفى «أبلة قدرية» تتسع مساحات البوح داخل القصة، وكشف المسكوت عنه فى العلاقات الاجتماعية، ويصبح نزول السارد وعائلته فى مسقط رأسه لتقديم واجب العزاء مشكلًا لمكونات السرد الاستيعادى الذى يظلل النص، حيث «أبلة قدرية» التى لم تزل تحتفظ بمسحة من جمال غابر يستهوى السارد، ويجعله يستحضر نزقًا قديمًا، ومشتركًا أيضًا بينه وبين «أبلة قدرية»: «ذلك اليوم البعيد، وقد وضح تفوقى فى نتيجة السنة السادسة الابتدائية، عدتُ فرحًا، وكانت جالسة على الكنبة فى ردهة شقتنا فى ضيافة أمى، فالتقطتنى فى حضنها الدافئ عقب زغرودة رقيقة لتقبِّلنى فى خدِّى، بينما أنا غارق ومسحور، تملأ أنفى رائحة (السوار دى بارِى).
للآن، لا أعرف كيف لنفس القنينة أن تعطى هذه الرائحة التى يحفظها وجدانى، بالرغم من أنها نفس القنينة عند أمى. ويبدو أننى كنت مستسلمًا تائهًا وهى تعَابِث شعرى، عندما جاء صوت أمى ليخرجنى من الجنة الخاطفة التى أشعر بها الآن ولا تبارحنى. لا أذكر ماذا كانت تقول وقتها، فهُرِعتُ إلى غرفتى.
توالت علىَّ ليالٍ لا أنساها. لا أعرف هل كنت أنام أم لا، برغم إرهاقى من لعب الكرة. تداهمنى الرائحة، وأشعر بأنفى متسللًا إلى صدرها يستنشق هذا العبق الحار، وأحيانًا يلامس هذا النهر الساحر الذى يعبر متخفيًا فساتينَها الجميلة، فأتوه فى تدفُّقات غريبة منتشية محيِّرة فى هجومها الليلى، فى هدوء وسرية، وتثير تساؤلات، يعقبها اشتياقٌ إلى زياراتِها».
وتبدو المزاوجة بين زمنى الحكاية والسرد هنا بارزة، وإحدى مكونات السرد القصصى.
تتواتر صيغ سردية متعددة فى المجموعة، تتخذ أحيانًا وجهة ترميزية مثلما نرى فى قصة «الفرية»، أو تنحو منحى استيعاديًا كما فى القصص المشار إليها من قبل، أو تتخذ وجهة واقعية رامزة مثلما نرى فى قصة «المؤسسة»، وعوالم الموظفين المدججة بالوشاية، أو تنحو صوب وجهة فلسفية كما فى قصة «أنا والفراغ»، أو تسائل المحو فى نص «بائد».
ثمة وشيجة بين قصة «بطاقة حى بن يقظان» وقصة «حلال العقد»، تبدو ماثلة فى الاستهلال القصصى المعبر عن حيرة السارد أمام الماكينة المربكة لبطل يقف على حافة العالم الجديد، ولذا تجد الماضى حاضرًا بامتياز فى المجموعة، ويزداد حضوره فى قصة «فى القِران».
فعلى الرغم من الحدث الاحتفالى المتمثل فى عقد قِران الابنة، وزفافها، إلا أن ظلال الأم الراحلة ينسج ملامح متشابكة من الشجن، والفقد، والارتباك.
تبدو مأساة الفتاة الرقيقة فى قصة «هولا هوب» مسكونة بشجن صافٍ، ومحملة بظلال رومانتيكية، وفى القصة الأخيرة «يوم احتفوا بالفأر فى الكرار» التى يختتم بها القاص مجموعته، تلوح عوالم المدرسة بتفاصيلها المضمرة، وتشابكاتها المتعددة.
وبعد.. عبر ست مجموعات قصصية «تانجو/ الأساتوك/ أن تكون بلا بهية/ ذلك المكان الآخر/ بجعات ابن حزم/ بطاقة حى بن يقظان»، يدشن الكاتب المصرى أسامة ريان مشروعه القصصى مستعيدًا الذكرى من قلب الراهن المعيش، ومراوحًا بين ما هو كائن، وما قد كان، مدفوعًا برغبة عارمة فى البوح، ومسكونًا بتأمل الواقع، والتفاصيل الصغيرة.