أسئلة الآثار المزمنة

موضوع الآثار فى مصر، موضوع طويل ممتد، بامتداد الطول التاريخى وحقب ما قبل التاريخ لمصر، وعريض، بعرض التنوع والغنى الحضارى الثقافى لمصر على مر العصور، لذا فإن الآثار فى مصر، رغم عظمتها وفرادتها، إنما هى إشكالية ضخمة فى الحياة المصرية المعاصرة وأسئلتها عويصة ومزمنة، وبعض هذه الأسئلة يصعب إيجاد إجابات شافية لها.
تتجلى الإشكالية الأثرية المصرى فى التضارب بين ضرورة الحفاظ على الموجودات الأثرية النادرة والفريدة، وبين ضرورة الارتقاء بالوضع العمرانى اللازم لحياة الناس والبشر فى مواقع تلك الموجودات الأثارية، فمن المعروف أنه فى كل بقعة سكانية عامرة بالبشر فى مصر، يوجد تحتها موقع أثرى أو بالقرب من هذه البقعة، وعلماء الآثار يؤكدون أن ما تم اكتشافه من آثار فى مصر، رغم كثرته، ورغم أنه يملأ معظم متاحف الدنيا، إلا أنه لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من الموجود الأثرى الذى لم يكتشف بعد.
هذا التناقض المشار إليه آنفًا والمُشكل لمسألة الآثار المصرية، يطرح دومًا سؤال ما العمل؟ هل نزيل بعض الآثار لصالح مشروعات عمرانية مهمة واستراتيجية تتعلق بالبنية التحتية، أم نُبقى على الآثار؟، بالأحرى الحى أو الميت، وقد تبدو الإجابة لدى البعض سهلة وبسيطة وهى: ولماذا لا نوفق بين التناقض هذا ونصالح أطرافه؟ طيب وفى حالة الاستحالة التوفيقية هذه.. ما العمل؟
لدينا وزارة كبيرة مسئولة عن الآثار فى مصر ولدينا من العاملين بها علماء ومتخصصون أجلاء، لكن هذا ليس معناه أن الدولة فقط مُمثلة فى هذه الوزارة هى المسئولة عن الآثار فقط فى مصر، بل أظن أن المصريين جميعًا يجب أن يكونوا أطرافًا فاعلة فى إشكاليات الآثار المصرية، وعلى نحو إيجابى يسعى لإيجاد الحلول، فالبعض ينقب عن الآثار خلسة وعلى نحو غير مشروع، بهدف الحصول على ثروات سريعة تتأتى من بيع هذه الآثار سرًا، ناهيك عن عمليات التدمير الفعلية للعديد من هذه الآثار بسبب الحفر الجائر الجاهل غير المتخصص، ولذلك فالدولة تجرم عمليات التنقيب هذه.
ولكن الدولة ذاتها وبينما هى تسعى لعمل مشروعات عمرانية تكون فى صالح الناس، ربما تدمر آثارًا مهمة، قد تبدو للبعض هامشية ومحدودة القيمة، بينما يرى آخرون أنها ذات قيمة أثرية وتاريخية كبيرة، فيصرخون ويرفعون المطالب بوقف عمليات الهدم والتخريب، وهو ما حدث عندما أزيلت مقابر الإمام الشافعى، لأن بها العديد من المقابر ذات القيمة التاريخية والأثرية المهمة، ولكن تناسى هؤلاء أن هذه الأبنية هى ممتلكات خاصة بالأصل، أى أن أصحابها ظلوا طوال الوقت ورغم قيمتها التاريخية والأثرية يتعاملون معها مقابر فقط، ولم يتعاملوا معها من هذا المنظور المختلف.
لقد ظلت هذه المقابر فى حالة تردٍ ومهملة، والذين صرخوا وهاجوا وماجوا عندما إزالتها لم يتناولوها من قريب أو بعيد قبل ذلك بمقترح واحد يطرح سؤال ما العمل بشأنها وكيف نوفق بينها وبين حالة النزوع العمرانى الراهنة لدى الدولة وأجهزها.
الصراخ والإدانة للدولة أمر غير موضوعى ولا يكفى ولا يقدم أو يؤخر، ولكن البحث عن حلول وتقديم ما هو عملى وقابل للتطبيق هو الأجدى والأهم وخصوصًا فى المدن الكبرى المكتظة بالسكان كالقاهرة والإسكندرية، لأن عمليات التغيير والتطوير إنما هى ضرورة حتمية بمرور الزمن، فلنتصور مثلًا مدينة القاهرة الآن لو لم يكن بها شارع صلاح سالم وهو الطريق الذى كان بالأصل منطقة مقابر تمت إزالتها بعد ثورة ١٩٥٢.
على الذين ينددون دومًا بالسلوك الخاطئ للحكومة تجاه الآثار، أن يتقدموا بحلول، ويضعوا تصورات ويقترحون ما هو ممكن وقابل للتنفيذ، لأن مناطق أخرى لا بد وأن تُزال بمرور الزمن، فالآثار إنما هى شأن كل المصريين وليست شأن الحكومة أو الدولة فقط، فالمقابر التى أزيلت كان من الممكن أن تكون مزارات أثرية سياحية بما تحويه من كنوز على مستويات متباينة، والحقيقة أننا بحاجة إلى التوثيق لكثير من الثروات المعمارية فى مصر، سواء أكانت مقابر أو غيرها، والدولة ليست وحدها المطالبة بذلك، بل الأفراد والجماعات وأصحاب العمل الأهلى، فكم من بنايات ذات جمال معمارى وخصوصية فنية تم هدمها ليس بسبب الحكومة أو الدولة ولكن بسبب أصحابها الساعين إلى المال ثم المال، ثم المال.
المخرجة التسجيلية الراحلة عطيات الأبنودى كان لديها مشروع مهم، لم تسعفها الأيام للقيام به وهو وصف مصر بالكاميرا، إذ كانت تسعى إلى تصوير كل الأبنية والمواقع القديمة فى مصر بالكاميرا ليكون مرجعًا وأرشيفًا لما كانت عليه البلاد فى وقت من الأوقات.
وزارة الآثار تقوم بجهد لا يمكن نكرانه وفى حدود الإمكانات المتاحة وبمناسبة شواهد القبور، فقد أصدرت هيئة الآثار المصرية كتابًا قيمًا راصدًا لزخارف وشواهد القبور الإسلامية قبل العصر الطولونى من إعداد د. آمال أحمد العمرى وصدر فى العام ١٩٨٦.
أظن أنه لا داعى للبكاء بين يدى زرقاء اليمامة، ولكن علينا أن نستعير عينى زرقاء اليمامة لننظر إلى آثارنا وكنوزها من منظور المصلحة العامة القريبة والبعيدة جدًا.