السبت 19 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مــوت الرواية الورقية: هل تكتب الطباعة فصلها الأخير فى زمن الكتب الرقمية؟

حرف

فى زمن تُحسب فيه الأرواح بالبيكسل، وتُوزن المشاعر بالبايتات، قد يبدو التمسك بالكتاب الورقى ضربًا من الرومانسية الزائدة أو الحنين المرضى لزمن «ريحة الورق». ومع صعود نجم الكتب الإلكترونية والصوتية، تُطرح الأسئلة المؤرقة: هل انتهى عهد الطباعة؟ هل سيتحول الكتاب الورقى إلى قطعة أثرية توضع بجانب الفوتوغراف؟ أم أننا بصدد مرحلة تعايش سلمى، حيث يجلس الورق والرقمى جنبًا إلى جنب على رفوفنا - أو بالأحرى فى شاشاتنا؟

لنبدأ من أصل الحكاية. البشر لا يتعاطفون مع الأرقام، ولا تثيرهم الإحصاءات. قُل لشخص إن ١٠ ملايين إنسان يعانون، سيهز كتفيه. لكن احكِ له عن «سعاد» التى فقدت كل شىء بسبب قرار اقتصادى ما، سيشعر بالأسى... وربما يتبرع. القصة تُحرك القلب، تحيى المشاعر، وتعيد تشكيل الوعى. وهذه ميزة الرواية، أيًا كان شكلها: الورقى أو الرقمى أو حتى المُلقى على أذنٍ عبر سماعة.

ومن الطريف أن التكنولوجيا، هذا الكائن البارد المصنوع من السيليكون، بدأ يتعلم منا - نحن الكائنات المعقدة التى تشم الورق وتُحب سطور دوستويفسكى. العلماء يحاولون تعليم الذكاء الاصطناعى شيئًا صعبًا اسمه «التعاطف»، وذلك من خلال قراءة الأدب. نعم، الروبوتات تقرأ تولستوى الآن، وربما تبكى سرًا من مشهد وداع ناتاشا لبيير.

فى كتابها عودة القارئ إلى الوطن، تؤكد ماريان وولف أن القراءة العميقة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة إنسانية. فهى لا تعزز فقط تعاطفنا مع الآخرين، بل تمنحنا القدرة على فهم أنفسنا. بمعنى آخر: الكتاب ليس فقط وسيلة للهروب من الواقع، بل وسيلة لفهمه... وربما إصلاحه.

لكن مهلًا، من سيقرأ هذه الروايات؟ جيل «الستوريز» و«الريلز»؟ فى عصر تآكل فيه التركيز، لم يعد الناس يحتملون جملة طويلة. تغريدة تكفى، ويفضل أن تكون مصحوبة بصورة قطة. مع ذلك، لا تزال الرواية الطويلة تُقاوم. ولعلّ السبب فى ذلك أن القصص المعقدة لا يمكن اختزالها فى ٢٨٠ حرفًا.

وقد أظهرت الدراسات أن قراءة الأدب الخيالى تحفز مناطق فى الدماغ مرتبطة بالتعاطف وتوسيع الأفق الأخلاقى. فى دراسة شهيرة عام ٢٠١٤، أدى مجرد قراءة قصة عن امرأة مسلمة إلى تراجع العنصرية لدى مجموعة من القرّاء الأمريكيين. إذن، فالرواية ليست مجرد تسلية، بل جهاز إعادة ضبط للقيم.

لكن إن كنتَ تعتقد أن القصة الجيدة تعنى بالضرورة ورقًا مطبوعًا، فدعنى أُخبرك عن الذكاء الاصطناعى الذى يقرأ تشيخوف ويعيد تأليف نهاياته على «شات جى بى تى». أو عن الكُتّاب الذين تستأجرهم شركات التكنولوجيا ليتخيلوا مستقبلًا لا نزال نحبو نحوه. والنتيجة؟ روايات من نوع جديد، مثل «١٩٨٤» ولكن مبرمجة على «الوضع الداكن».

الخيال العلمى، على سبيل المثال، أصبح ورشة مستقبلية تجريبية. رواية مثل حكاية الخادمة لمارغريت آتوود تبدو كأنها قادمة من المستقبل، لكنها تعتمد فقط على وقائع حدثت بالفعل. تكتب آتوود وكأنها تقول: «شوفوا، دا حصل... وممكن يحصل تانى، لو انشغلنا بالميمز ونسينا الكتب».

نيل غيمان يلخّص الأمر بجملة عبقرية: «الخيال كذبة تقول لنا الحقيقة». والجميل أن الكذبة المكتوبة على ورق ردىء فى كتاب مستعمل من سوق المستعمل، تُحدث نفس التأثير الذى تحدثه رواية فاخرة فى جهاز كيندل. السر ليس فى الوسيط، بل فى القصة.

لكننا، كائنات عاطفية بشكل فادح، ما زلنا نُحب ملمس الورق، صوت تقليب الصفحات، رائحة الحبر، والتوقيع بخط اليد. وربما لهذا السبب لا تزال سوق الكتب الورقية قائمة. لم تمت. فقط أُصيبت بإنفلونزا رقمية.

فى نفس الوقت، أصبح الذكاء الاصطناعى يقرأ أكثر منا، يتذكر أكثر منا، وربما يكتب بشكل أجود منا ولكن، هل سيشعر مثلنا؟ هل سيُصاب بالرعشة عندما يُقابل دون كيخوتى طواحين الهواء؟ هل سيبكى على موت «جيان فالجيان» أو يضحك من مكر «شكسبير»؟ لا نعلم.

العلماء مثل مارك ريدل وبرينت هاريسون جرّبوا تعليم الروبوتات «القيم الأخلاقية» عبر القصص. يقولان ببساطة: بما أن الإنسان يتعلم من القصص كيف يكون إنسانًا، فلِم لا نُعلِّم الروبوتات بنفس الطريقة؟ تخيّل روبوتًا لا يقتل لأنه قرأ أولاد حارتنا وتعلّم منها أن السلطة تُفسِد؟ ربما لا يكون هذا مجرد خيال.

لكن، لا نُبالغ. فحتى الآن، لا توجد خوارزمية تستطيع أن تفهم ألم جملة: «كان يمشى وحيدًا إلا من ظلّه الثقيل». وربما لا نريد لها أن تفهم. لأن خصوصيتنا ككائنات روائية - تُخطئ وتُحب وتُكابر وتُعيد القراءة - هى ما يجعلنا بشرًا. ولو تعلمت الآلات هذه المهارات، فلن يبقى لنا سوى أن نعود نقرأ على ضوء شمعة.

ومع كل هذا التقدّم، تظل الرواية الورقية حيّة، تتنفس، تُقاوم. لا لأن التكنولوجيا لا تستطيع منافستها، بل لأنها - ببساطة - تختلف عنها. إنها ليست أفضل، وليست أذكى، لكنها أكثر دفئًا. والدفء، فى زمن الأتمتة، عملة نادرة.

هل سنشهد نهاية الورق؟ ربما. لكن إن حدث ذلك، فلتكن نهاية عظيمة... نهاية تُكتب بحبر نازف على هامش رواية.

فى هذا العصر الملىء بالمساعدات الذكية والتطبيقات التى تعرف ماذا سنأكل قبل أن نشعر بالجوع، يبدو أننا بدأنا ننسى السؤال الأهم: هل نحن ما زلنا من يكتب القصة، أم أننا أصبحنا مجرد شخصيات ثانوية فى سرديّة تكتبها الآلة؟ الحقيقة المُربكة أننا لم نعد نعلم على وجه اليقين مَن المؤلف، ومَن المحرر، ومَن الـ«تشات جى بى تى».

الآلة لا تتثاءب، لا تشتكى من الضوضاء، لا تقطع اتصالها بسبب ضعف الشبكة، ولا تحتاج إلى قهوة سوداء مركّزة لتكتب مقالًا رائعًا عن معنى الوجود. كل ما تحتاجه هو أمر بسيط: «اكتبى». فتكتب. أما نحن، فنحتاج إلى شرود ذهنى، وانهيار عصبى بسيط، وتأمل فى سقف الغرفة، وربما بكاء خفيف قبل أن نبدأ كتابة أول سطر.

ومع ذلك، هل يعنى هذا أن الآلة قد انتصرت؟ هل الذكاء الاصطناعى هو الوريث الشرعى لعرش الإبداع البشرى؟ ربما، وربما لا. لأن السرد الجيد لا يُقاس بعدد الكلمات الدقيقة، بل بعمق التناقضات التى نحملها. الذكاء الاصطناعى لا يشعر بالعار حين يفشل، لا يكتب من وجع الطفولة، لا يُعانى من حب غير متبادل. ودون هذا التعقيد الإنسانى الفوضوى، كيف له أن يحكى قصة تشبهنا فعلًا؟

صحيح أن الذكاء الاصطناعى صار يُجيد استخدام الاستعارات، ويعرف كيف يُنهى جملة بنقطة درامية، لكنه لا يزال يفتقر لتلك «الزلّة البشرية» التى تجعل القصة حقيقية. الآلة لا تنسى اسم الحبيب فى منتصف القصة، ولا تخلط بين الواقع والحلم فى مشهد النهاية، ولا تكتب رسالة ثم تحذفها ثم تعيد كتابتها ثم لا ترسلها فى النهاية. وهذا بالضبط ما يجعلنا نحن - حتى الآن - نملك حق الحكى.

لكن احذر، يا من تتباهى بعبقريتك اللغوية، فالآلة تتعلّم. وتتطوّر. وربما قريبة من اللحظة التى ستتوقف فيها عن تقليدنا لتبدأ فى مفاجأتنا. وربما يومًا ما، ستُسرد قصة البشر من منظور الآلة: مخلوقات درامية عاطفية، كثيرة الكلام، تعشق الفوضى، وتبكى عند مشاهدة الإعلانات.

فى النهاية، لعل أكبر خدعة نُقنع بها أنفسنا هى أن الذكاء الاصطناعى يعمل «لخدمتنا». نحن فقط لا نريد الاعتراف بأننا أصبحنا نعتمد عليه فى كل شىء، من إعداد الطعام إلى اتخاذ القرارات المصيرية. صار هو من يُذكرنا بأعياد ميلاد أحبائنا، ومن يختار لنا قائمة تشغيل حزينة لتتناسب مع تقلباتنا المزاجية.

ولكن يا صديقى، يا من تكتب الآن عبر لوحة مفاتيح اختارها الذكاء الاصطناعى لك، وتقرأ هذا النص على شاشة صنعتها خوارزميات استهلاكية عبقرية: لست وحدك. الذكاء الاصطناعى لم يأتِ ليأخذ مكانك. جاء ليذكرك بأنك لا تزال قادرًا على الحكى. لا تزال قادرًا على الإحساس، على الخطأ، على الضحك، على الشك. وهذه أشياء - حتى إشعار آخر - لا تستطيع الآلة إتقانها.

فإن كان مستقبلنا مشتركًا، فلنكتبه معًا. نحن وهم. العقل والرقاقة. الورق والبيكسل. وربما، فى لحظة ما، عندما تكتب آلة قصيدة حب ويفهمها قلب إنسان، سنعرف أننا لم نخسر المعركة. فقط غيرنا شكلها.