السبت 19 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المقصية.. وقائع الإبعاد التعسفى لنوال السعداوى

نوال السعداوى
نوال السعداوى

تخبرنا الناقدة والباحثة المرموقة فدوى مالطى دوجلاس، بأنها تعرفّت على نوال السعداوى ككاتبة عام 1975 عندما كانت تتجول فى دمشق بين المكتبات، حيث التقتها مصادفة فى إحدى المكتبات السورية الشهيرة «مكتبة النورى» ككاتبة روائية، ووجدت لها كتبًا عديدة، ومن بين ما وجدته فى تلك المكتبة، اقتنت روايتين أثارتا فضولها، الأولى هى رواية «مذكرات طبيبة»، والثانية هى «امرأة عند نقطة الصفر»، وبعد أن قرأت فدوى الروايتين، تربعت بطلات نوال الروايتين فى مكتبتها، وفى عقلها، وفى روحها كذلك، ولم تكن قد تعرفت على بقية إبداع نوال الفكرى، ولا إنتاجها الإبداعى، ولكن الروايتين دفعتاها للتعرف عليها أكثر وأكثر، ولأن فدوى كانت تعيش فى أمريكا، ولم تكن نوال قد ترجمت بتوسع فى اللغة الإنجليزية، فقد تأخر تعرف فدوى الشامل على مجمل ما أدعته وكتبته نوال السعداوى، ولم تمرّ سنوات كثيرة، حتى التقت فدوى شخصيًا الدكتورة نوال فى منزلها ليصبح 25 شارع مراد بالجيزة المركز الطبيعى الذى تعود إليه فدوى كلما جاءت إلى عاصمة المحروسة القاهرة.

لم تستفض فدوى كثيرًا فى مقدمتها للحديث عن مجريات الصداقة وعلاقة العمل التى نشأت بينهما، وكان على ضفاف تلك العلاقة يقف الدكتور شريف حتاتة، زوج الدكتورة نوال آنذاك، وكان الاثنان يتعاونان مع فدوى فى الإجابة عن كثير من الأسئلة التى تواجه فدوى فى حديثها، وكانت «مالطى» قد شرعت فى محاولة كشف الأهمية التى تنطوى عليها كتابات «السعداوى» الأدبية، حيث إن كثيرًا من الباحثين والنقاد والأكاديميين، كانوا يعتبرون أن أدب ونصوص نوال السعداوى الإبداعية نصوص هتافية، وترجمة حرفية لكل أفكارها النثرية، والأمر لا يعدو أن يكون ذلك الأدب مجرد دعاية صارخة لتلك الأفكار التى تتناولها «السعداوى» فى كتبها الفكرية، ويكفى أن الكتاب الذى صدر عنها فيما بعد لجورج طرابيشى «أنثى ضد الأنوثة»، واعتبر فيه أن بطلات «السعداوى» كلهن تكره أنوثتها جدًا، وأن إحدى البطلات قررت ألا تكون أنثى، أى ضد أنوثتها بشكل مفرط، لأن الأنوثة قيد على جسد المرأة بشكل عام، وسوف نتعرض للأفكار التى طرحها «طرابيشى» حسب المفاهيم الفرويدية القاسية، وكان قد عبّر عن تلك الأفكار فى كتاب سابق له، وهو كتاب «الأدب من الداخل»، عندما اعتبر أن الرجل يكتب بعقله، أما المرأة فتكتب بأحاسيسها ومشاعرها، وذلك فى مطلع ذلك الكتاب الذى صدّره بدراسة عنوانها: «أنثى نوال السعداوى، وأسطورة التفرد»، يقول «طرابيشى» فى مقدمة الدراسة: «بالرغم من تسليم النقاد بأن (كل امرأة حبلى بروايتها)، فإن الرواية لبثت إلى مطالع القرن فى أوروبا، وإلى أيامنا هذه فى العالم العربى، فن رجال، شأنها فى ذلك أصلًا شأن العديد من مظاهر الحضارة الإنسانية الموسومة بوسم العنصرية الجنسية المعادية للمرأة، ولعله لا يكفى أن نقول إن الروائيات كن على الدوام قلة بالنسبة إلى الروائيين، بل ينبغى أن نضيف أنه حتى فى الأحوال القليلة التى كانت المرأة تتصدى فيها لفن الرواية، كان تناولها الفنى لها يختلف عن تناول الرجال، فالرجل، فى الرواية، يعيد بناء العالم، أما المرأة فالرواية بؤرة أحاسيس، وإذا أبحنا لأنفسنا اللجوء إلى لغة الثنائيات المتوارثة- والمرذولة- قلنا إن الرجل يكتب الرواية بعقله، أما المرأة فتكتبها بقلبها...»، ورغم كل الذرائع والكشوفات التى أشاعها جورج طرابيشى فى كتابة المرأة، ونوال السعداوى بشكل خاص، فإننا سنلاحظ أن ميلًا عدوانيًا بارزًا ظهر فى الدراسة، وفى الكتاب كذلك، تجاه كتابات نوال السعداوى الروائية، ولعب ذلك الكتاب دورًا واسعًا فى تعميق تلك الميول العدوانية الجاهزة تجاه كتابات «السعداوى» عمومًا، تلك الكتابات التى كشفت عوارًا واضحًا فى العلاقة بين الرجل والمرأة فى عالمنا العربى، ولقد تصدّت نول لكشف وفضح ذلك العوار منذ بداية مسيرتها الفكرية والأدبية والعملية كطبيبة، وقبل أن تصدر كتبًا وروايات وقصصًا قصيرة، تصدت بشكل واضح وجاد لكل أشكال العوار فى كل تجليّاته، وقد أفصحت عن ذلك فى كثير من كتاباتها التى كتبت فيها عن حياتها ومسيرتها.

وقبل أن نتعرض لكتاب فدوى مالطى دوجلاس المصادر أو الممنوع الذى تم تشويهه وسرقته، أريد أن أوضح بعضًا من مسيرتها الفكرية والأدبية، وكانت هناك بدايات مشاكسة ظهرت فى الصحف والمجلات، وكانت من أوائل تجليات ومواجهات نوال السعداوى المبكرة، على صفحات مجلة صباح الخير، ففى ٢٤ أبريل عام ١٩٥٨ كتب الدكتور مصطفى محمود مقالًا عنوانه «طريقة جديدة للحب»، وانتقد فيه التدليل الذى يمنحه الرجل للمرأة، وساق لنا حديثًا شديد الغرابة والقسوة، إذ جاءت فى ثنايا مقاله عبارات حادة، فيقول على سبيل المثال: «.. أليس من الطبيعى أن يكون الرجل هو الذى يتدلل، والمرأة هى التى تجرى حتى تدمى قدماها؟، أليس من الطبيعى أن تنحنى المرأة لتقبل يد رجلها، وتتوسل وتجرى بالمشوار، وتناوشه، وتغازله، وهو مثل يوسف عليه السلام يعطيها ظهره وينظر إليها بعينين ناعستين وأهداب مرخاة، وعيون فيها حور، ويهرب منها كلما طاردته..»، وفى موقع آخر من المقال الطويل يقول مصطفى محمود: «لقد جاء اليوم الذى يستعيد فيه الرجل عرشه، ومكانه الحقيقى، وينزل بالمرأة من عرشها المزيف، ويتركها تجرى وتلهث خلفه، وتتشمم آثاره، وتتمسح فيه كالقطة..»، هكذا يسترسل مصطفى محمود فى ذلك الحديث الذى يبدو وكأنه نوع من السادية الذكورية، رغم أنه منساق داخل حوارية جدلية، يطرح فيها الأفكار ويرد عليها، لكنه كان ميّالًا إلى تلك الأفكار التى تقول إن المرأة أخذت حقوقها أكثر مما يجب، وتدللت فى كل المجالات، وما علينا نحن كرجال إلا إنزالها من تلك العروش المغتصبة، ونعيد مجد الرجل بطريقة أو بأخرى، حتى تعود الأمور إلى نصابها الطبيعى.

بالطبع أثار المقال تحفظات كثيرة، وكانت الطبيبة الكاتبة الشابة نوال السعداوى، هى أول من تصدى لمقال الدكتور مصطفى محمود، ونشر لها أحمد بهاء الدين فى العدد التالى مباشرة، أى فى ١ مايو ١٩٥٨ مقالًا حادًا تحت عنوان «قديمة» مع كاريكاتير ساخر للفنان بهجت عثمان، وقدّم بهاء مقال «السعداوى» قائلًا: «.. كل من قرأ مقال مصطفى محمود (طريقة جديدة للحب)، يجب أن يقرأ هذا الرد»، وبدأت «السعداوى» مقالها بشكل ينم عن ذائقة أدبية واضحة، إذ قالت: «تعب الصياد من الجرى وراء اليمامة الذكية الخفيفة، وجف ريقه، ودميت قدماه، فألقى بندقيته إلى جانبه وهو يلهث، وأسند ظهره إلى جذع شجرة، وأرخى جفنيه فى دلال، وأغمض عينيه ليوهم اليمامة الماكرة أنه سينام فتكف عن محاورته وخداعه وتستقر فى مكان، وفشلت طريقة الجرى والرمح وابتدع الصياد طريقة جديدة ليوقع الصيد.. وبدأ الرجل عصر الدلال، والتقل.. والرجل والمرأة منذ قديم الزمان يدوران كالفلك بعضهما حول بعض، إذا توقفت المرأة، تحرك الرجل، بحيث تظل بينهما تلك المسافة الجذابة التى تبعث فيهما الشوق، واللوع، والحنين..». وهكذا راحت «السعداوى» فى رسم علاقة تاريخية شبه كاريكاتورية ساخرة، وذلك لوضع كل افتراضات مصطفى محمود فى مهب احتجاجها وتمردها، وكشفت عن أنياب ذكورية ظهرت بقوة وشراسة فى مقال الدكتور مصطفى محمود، وذلك دون أى هتافات وصراخ وخلافه، ولكن فى هدوء كامل، وأنيق إذا صح الوصف، مزقت «السعداوى» تلك الغلالة التى يغطى مصطفى محمود بها أغراض مقاله، وتلك كانت المواجهة الأولى التى برزت فى مسيرة الدكتورة نوال، وسوف نتابع فى الحلقة المقبلة الاشتباكات الأخرى، وعرض كتاب فدوى مالطى.