عدويــة.. عندما يغنى يأخذ العقل أجازة!

- أولى أغانى عدوية «السح الدح امبو» بيع منها ربع مليون أسطوانة فى عام 1973

لو حذفنا الكلمات العجيبة من أغانى عدوية. ولم نستسلم لأوهام أصحاب الشهادات. وبقدر الإمكان كنا محايدين لنحاول أن نحل لغز أغانى «الغرزة» التى يسمعها الأثرياء جدًا فى الملاهى ويدفعون عليها النقوط. هل بعد ذلك نقبل ظاهرة أحمد عدوية؟!
جمهور عدوية هم رواد الملاهى والأثرياء جدًا. يقول عدوية إن عبدالحليم حافظ أيضًا من جمهوره. أخذه معه أكثر من مرة فى حفلات الأمراء. وقدمه إليهم. وغنى فيها عدوية. يقول عدوية إنه هو الذى اقترح على عبدالحليم أن يعيد أغانيه القديمة. مثل أهواك وظلموه. وفعلًا اقتنع عبدالحليم وغناها من جديد فى الحفلات. والصور تشهد. عندى صورة مع عبدالحليم فى نفس اللحظة التى قلت له هذا الاقتراح.

يذهب الأثرياء جدًا إلى ملاهى شارع الهرم. يفرحون جدًا إذا ظهر عدوية. أمام أى ملهى عدد هائل من العربات الأنيقة. كل عربة تركها صاحبها ليسهر فى داخل الملهى، يأكل ويشرب، فى نفس الوقت يرى راقصة، ثم يسمع المطربين، إذا ظهر عدوية ضجت الصالة بالحيوية، وربما تركوا الأطباق والأكواب حتى يستمعوا إلى عدوية.
قلت لعدوية: إننى سمعت أغانيك.
قال: كم أغنية؟
قلت: على الأقل سبع ساعات لأعرف ماذا تغنى.
قال: ليست هذه كل الأغانى.
قال: ما رأيك؟.
قلت له: لمن تغنى يا عدوية؟ يعنى أننى أرى جمهورك من أسلوب أغانيك.
قال: لا تظلمنى. الكاسيت ليس كل عدوية، حقيقة عدوية أروع من ذلك. إذا غنيت للناس يكون للأغنية مستوى آخر.
انتظرت حتى سمعت عدوية مرة. الغريب أن الجمهور معه كأنه فى مباراة كرة. إذا ظهر عدوية يسرى الحماس فى الجمهور، يتناثر حوله الكلام. والتحية، كأنه يعرفهم وهم يعرفونه، فإذا غنى اندمج الجميع معه. رغم أن هؤلاء ليسوا الجمهور الحقيقى لأحمد عدوية.
أولى أغانى عدوية «السح الدح امبو» بيع منها ربع مليون أسطوانة فى عام ١٩٧٣، قبل أن تطبع على كاسيت، أغنية «سلامتها أم حسن» مثلها.
■ مَن يشترى الكاسيت والأسطوانة؟ هل هم الأغنياء فقط؟ هل هم المثقفون؟ هل هم الموظفون؟ هل البنات فى المدارس؟ هل أبناء البلد؟ من الذى يشترى ربع مليون أسطوانة؟
■ ليست الأغنية كلمات فقط. أضعف ما فى عدوية هو الكلمات التى يغنيها. نظلمه إذا اتهمناها بالخروج ليس فى الأغنية ما يخدش الحياء. إنما هى ألفاظ نوع من أبناء البلد، الذين يسهرون فى الغرزة، بين أكواب الشاى الأسود والأنفاس أيضًا، عادية أو غير عادية، ثم ينطلق الخيال. كل إنسان يحب. خيال الحبيبة هو الذى يسيطر على كلمات الأغانى. لكن الحبيبة تسكن فى حارة صغيرة. من داخل حارة. هى بنت بلد. بالمنديل أبو أوية والألفاظ التى يستعملها أبناء الغرزة فى الغزل، واللفظ يجر اللفظ والجملة تجىء بالجملة بعدها. لا يجرى الكلام بالمنطق المألوف فى الأغانى. الكلام فى أغانى عبدالوهاب له منطق. والكلام فى أغانى أم كلثوم. وعبدالحليم له منطق. منطق الذين يستعملون عقولهم دائمًا. أو أحيانًا. منطق الخيال الذى يحب بنت القصور أو فتاة الجامعة أو الموظفة من الطبقة المتوسطة. عدوية يغنى من منطق آخر هو منطق بنت البلد التى أبوها نجار وأخوها سباك وأختها تعمل فى مخبز أو فى بقالة. المستوى الذى ينساب فيه الخيال هو الحارة المسدودة. وبنت الحارة والسهر فى الغرزة حتى آخر الليل. لا يكون الكلام متماسكًا فى خياله بالمنطق المألوف. إنما بمنطق خاص به يشبه منطق الأحلام. تتداعى المعانى فيه لأقل ارتباط عدوية له أغنية اسمها بنت الأمير.

■ قريب لى مريض.. زرته فى المستشفى. بجانبه جهاز تسجيل. سألنى هل سمعت عدوية؟. لما دخلت المستشفى وجدت أكثر الأطباء لديهم تسجيلات له. والممرضات، سألنى طبيب من الأصدقاء هل سمعت عدوية الأفضل أن تسمعيه معى.. أحضر جهاز التسجيل وأسمعنى أغانيه.. وسمعت عدوية. ليس الكلام هو كل شىء.. اللحن فيه شىء. وهذا الصوت ماذا فيه.. لماذا أصبح شيئًا لازمًا فى أفراح عدد كبير من الأسر. فى الشارع تسمع ألفاظًا من أغانيه.. وقال لى قريبى إن بليغ حمدى لحن له أغنية «بنج بنج» وأغنية اسمها «اسملتين»، وأحمد فؤاد حسن لحن له أغنية «ميت فل وعشرة» وسيد مكاوى لحن له «سيب وأنا أسيب»، وفاروق سلامة لحن له «سلامتها أم حسن»، وحسن أبوالسعود لحن له «بنت الأمير»، عدوية نفسه لحن لنفسه.. إنه يجيد العزف على الناى.. أحيانًا يكتب الكلمات ويلحن مثلًا:
الناس لها حب واحد.. وانا ليه فى البلد خمسة.. آدى حب بحرى البلد وحب قبليها.. وحب غرب البلد.. وحب شرقيها. وحب وسط البلد.. وانا اللى أتوه فيها..
■ بلد الشهادات. التعيين بالبكالوريوس والليسانس. والذى لا يحمل شهادات لا يكون مثقفًا. عدوية بلا شهادات. ولا الابتدائية. إنه يفك الخط بصعوبة، لكنه وقف أمام الشهادات الموسيقية كلها. وأمام الإذاعة والتليفزيون وأمام النقاد. قال إننى هنا أغنى، فما رأيكم؟
ربما أكبر جمهور للمطربين الآن هو جمهور أحمد عدوية لأنه من قطاع ينمو فى المجتمع. فى بلدنا فرص كثيرة لأبناء المهن اليدوية لأصحاب الحرف. المؤهلات العليا يعملون موظفين. فى بلدنا فرص السفر صعبة لكن عمال النجارة والبناء. والسباك والكهربائى. أى عمل يدوى أو فنى مطلوب فى الدول العربية يسافر الكهربائى، يعود غنيًا لا يسافر فيرتفع الطلب عليه. وجد هذا القطاع الكبير فرصته فى السنوات الأخيرة. ووجد ديمقراطية. يستطيع أن يتكلم. ويعبر. لديه رغبة فى التعبير. ولا أحد يمنعه من التعبير، فإذا وجد من يرفع رأيه ويعبر عنه فإنه يتعلق به. فى السياسة أو الفن. عدوية وجد نفسه يعبر بالأغنية عن هذه الطبقة وهو منها يفكر مثلهم يتخيل بنفس أسلوبهم. ألفاظهم. التراكيب. منطق النظرة إلى الأشياء. لذلك انتشر بينهم، جمهور عدوية من أبناء البلد ومن الحرفيين ويمتد جمهوره إلى أى عامل. وأى فلاح.. امتد بعد ذلك إلى أى مثقف وأى واحد من الأثرياء.
■ الموهبة غير الشهادة. موهبة عدوية فى أنه يملأ الجو عندما يغنى. هذه حقيقة. لاحظت أنه يبدو أطول قامة. وأن بينه وبين الجمهور. ألفة عميقة. لا حواجز. الحوار مستمر بينهم وبينه. حتى وهو يغنى يخرج البعض يقف بجانبه. وتلمع الكاميرا لتسجيل هذا فى صورة. عدوية مستمر يغنى. يخرج غيرهم. يدفعون «النقوط» عشرة جنيهات ربما عشرين يأخذها عدوية دون مبالاة، كأنها من ابنه أو أبيه وهو مستمر فى الغناء.
ما الذى تشعر به وأنت تسمع إلى عدوية. تحاول تبين الأحاسيس بالدقة.. إنها نفس الأحاسيس مع عبد الحليم فى بداية الطريق أيام غنى: يا مفرقين الشموع قلبى فين الحب عمره سنة والهجرة عمره سنين.. أيام أغنية: خسارة خسارة.. فراقك يا جارة. لا تملك إلا أن تشعر بأن عبدالحليم ليس غريبًا كأنه أخ أو ابن. يعنى أن بينك وبينه صلة. هذا بالضبط ما ساعد عبدالحليم، موهبته الحقيقية أن فى قلبه رحمًا نسميها فى دراسات الإعلام «نظرية الاتصال» الإشعاع الذى يزيل الحوافز ليربط بين القلوب لا شأن لهذا الإشعاع بشهادات الجامعةع ولا المدارس. إنه موهبة وحده. أعطى الله منها لعبدالحليم وأعطى منها لأحمد عدوية. يختلف المستوى والدرجة. لكن الرحم موجودة. فإذا القلوب تتفتح له، حتى ولو لم يدخل المدرسة.
■ فإذا ذهب الأغنياء إلى الملهى تركوا عقولهم خارجه. الذى يدخل الملهى هو الجسد، الذى يريد أن يأكل ويشرب والرغبة فى الاستماع الذى لا يحرك العقل. إننا نذهب إلى الملهى لنعطى العقل إجازة، ولا نريد أن تستعمله ما دمنا هناك.
■ كيف يستمعون. ترقص الراقصة. الموسيقى مع الراقصة تكاد توقظ النيام فى آخر شارع الهرم. لأنها زاعقة. ضجة عالية، حتى تشد انتباه الجمهور. وأى واحد على مائدة، على مائدته ما يشده.. وعلى الراقصة أن تنزعهم من المائدة ليتلفتوا إليها. والمطرب أيضًا يغنى وعليه أن ينتزع رواد الملهى حتى لا يهتموا بالمائدة وما عليه أكثر منه.. لكن عدوية أكثر المطربين نجاحًا فى جذب الانتباه.. يقف ممدودًا. فيه اعتداد. واثق من شعبيته. يلاغى الجمهور.. الجمهور يلاغيه أيضًا. إذا بدأ يغنى يبدو أن قامته أطول وأنه تغير فأصبح وسيمًا وسرى فى الجمهور حيوية وحماسًا، عدوية يغنى بهذه الحيوية. إنه يفجر فى الكلمات التى لا معنى لها معانى من حيويته. لأنه مندمج بعمق. رغم أنه يلاغى الجمهور، ويستجيب لمعاكسات الجمهور، شىء غريب فى عدوية أنه ينشر الحيوية فى المستمعين له، وفى الكلمات التى يغنيها، وفى اللحن، ولا يتخلى عن اندماجه فى الأغنية أبدًا. هذه الحيوية التى يغنيها على جمهوره هى جزء من أسرار عدوية. تتحدد بها موهبته الأساسية التى منحها الله له. وهى التعاطف والتراحم الذى يذيب الحواجز والذى نسميه «القبول» وهذا القبول لا سلطان لأحد عليه.. إنه من عند الله.
■ لما ظهر عدوية فى السينما أحدث دويًا. يقول الناقد عبدالمنعم سعد فى كتابه الجديد «السينما المصرية فى موسم». عن هذه الظاهرة: «لعل أهم ما يلفت النظر فى فيلم (الفاتنة والصعلوك) هو ظهور المطرب الشعبى أحمد عدوية فى أول أفلامه السينمائية لمدة عشرين دقيقة فقط.. كبائع فول فى حارة يغنى أغنيتين هما (حبة فوق وحبة تحت)، ثم (كله على كله)وتهتف الجماهير ليس فى الصالة فحسب وإنما أيضًا فى مقاعد اللوج وتهتز دار السينما ويمتلئ طلعت حرب كل ليلة وكل حفلة بآلاف المشاهدين لسماع مطرب (السح الدح امبو)».
■ ماذا حدث وماذا جرى للسينما المصرية؟!
- استمر الفيلم خمسة عشر أسبوعًا وحقق إيرادًا ٤٤ ألف جنيه فى سينما ميامى فقط من أجل صوت عدوية، وكأن الجمهور يستمع إلى صوت أم كلثوم، أو كأنه يستمع إلى داليدا فى مسرح أوليمبياد باريس، أو عبدالحليم فى فندق شيراتون، أو ديمسيس فى نادى الجزيرة!!
لماذا يتهافت الجمهور على دار السينما ليسمع صوت عدوية؟ هل لأنه يغنى لسكان الحوارى والأزقة وهو يجسد كفاح مطرب بدأ من القاع. ويعبر عن ابن البلد المطحون؟ أو لأن صوته حرم من أجهزة الاتصال الرسمية من إذاعة وتليفزيون، فأصبح كالفاكهة المحرمة التى تغرى الناس ليذوقوها؟ ربما هل هو ظاهرة شعبية تحقق أملًا فى أكثر الطبقات وتمامًا كما نجح محمد الكحلاوى فى أفلام الأربعينيات والخمسينيات؟ ربما. هل لأنه يعبر عن مشاكل الناس التى تخنق تفكيرهم ولأنه يمثل الرفض العبثى؟ ربما. أو لأن عدوية يغنى كلامًا فارغًا فى وسط مجتمع منافق وهو نوع من الخطرفة اللا واعية تربح جدًا على أساس تفريغ الهموم؟ ربما. أو لأن أغانيه تخاطب الجانب المفتقد لدى الجموع الشعبية وهى المتناقضات وما يمكن أن تنبه له من أفكار وعواطف فى أغان لا معنى لها؟ ربما. أو لأن أغانيه مطلوبة كتعويض عن الأغانى الأخرى وهى نوع من التفريغ والتفريج عن النفس تمامًا كالأفلام البوليسية؟ ربما. فى تصورى أن صوت أحمد عدوية هو مزيج من هذا كله وهو نمط جديد فى حياتنا الغنائية الشعبية». انتهى كلام عبدالمنعم سعد.
■ عدوية فى خطر.. الخطر من داخل عدوية نفسه.. لأن الكلمات التى يغنيها لا تساعد فى أن تكون أغنية محترمة. وأى فن لا يكون محترمًا لا يستطيع أن يستمر طويلًا. كلمات أغانيه يجب أن تتغير إذا كان يريد أن يستمر نجاحه.
■ عدوية فى مأزق.. إما أن يخطو إلى الأمام ليملأ الجو، ويخطف الأضواء من بقية المطربين، وإما أن يكون مجرد موضة، ما تلبث أن تزيحها موضة أخرى.. وعدوية هو الذى فى يده مصير نفسه.