الثلاثاء 15 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

تحقيق خاص فى اتهام شاعر العربية الأكبر بالمثلية

العشق الممنوع بين المتنبى وسيف الدولة

حرف

- هناك شواهد كثيرة تقول إن الأمر لم يقف عند الجانب الأدبى أو حتى السياسى

- أوقف المتنبى شعره بالكامل للحديث فى وعن وحول سيف الدولة لمدة ٩ سنوات

لن تجد فى كتب التراث شيئًا صريحًا عن هذا الملف، فلو وجد، لما كان سرًا، ولما احتجنا مثل هذا التحقيق. الحديث هنا عن أشهر شاعر عربى على مر التاريخ كله، وهو أبوالطيب المتنبى، وعلاقته بأحد أمراء العصر العباسى شديدى التميز، وهو سيف الدولة الحمدانى. 

المتنبى هو أحمد بن الحسين، ذلك ما اتفقت عليه جميع الكتب، ما فوق ذلك من نسبه فيه اختلاف شديد، والأغلب أن جده كان اسمه الحسن، أما من هو والد جده؟ ومن أين جاء؟ وما هى قبيلته؟ فهى أمور غير محسومة، وعلى أى حال لم يكن له نسب ولا شبهة نسب يفخر بها، وربما كانت هذه هى مأساته التى لازمته أزمانًا طويلة.

أما سَيفُ الدَّوْلَةُ فهو أَبُواَلحَسَن عَلِىّ بْنُ أَبِى اَلهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانِ اَلحَمْدَانِىّ، ويُعرف باللقب الأكثر شيوعًا سَيفُ الدَّوْلَةُ «سيف الدولة العباسية» «303- 356 هـ/ 915- 967م»، وسيف الدولة هو مؤسس إمارة حلب، التى تضم معظم شمال سوريا وأجزاء من غرب الجزيرة، وأخ للحسن بن عبدالله «المعروف بناصر الدولة الحمدانى». وكان من أكثر الأعضاء بروزًا فى الدولة الحمدانية، خدم سيف الدولة تحت ولاية أخيه الأكبر فى محاولات من أخيه للسيطرة على الدولة العباسية الضعيفة فى بغداد فى أوائل 940 م. 

بعد إخفاق هذه المحاولات، تحول طموح سيف الدولة تجاه سوريا، حيث واجه طمع الأخشيد من مصر للسيطرة على المحافظة، بعد نشوء حربين معهم. كانت حلب مركز سلطته على شمال سوريا، والجزيرة الغربية مركزها ميافارقين، وقد اعترف الأخشيد والخليفة بسلطته، عانت مملكته من سلسلة من التمردات القبلية حتى ٩٥٥ م، لكنه كان ناجحًا فى التغلب عليها والمحافظة على ولاء أهم القبائل العربية.

التقى المتنبى بسيف الدولة بداية من عام ٣٣٧ هـ، ونشأت بينهما علاقة شهيرة هى موضع بحثنا، والشهير هنا هو الجانب المعلن من العلاقة، كشاعر يمدح أميرًا، ويلعب دورًا سياسيًا باعتباره ما يشبه وزير الإعلام، أو فلنقل الشئون المعنوية، وهو الجانب الذى أفاضت الكتب فى تناوله وشرحه واستعراض جزئياته، أما الجانب الذى نبحث عنه الآن، فهو طبيعة العلاقة الشخصية بين الشاعر والأمير، وإلى أى مدى وصلت، خصوصًا أن هناك شواهد كثيرة تقول إن الأمر لم يقف عند الجانب الأدبى، أو حتى السياسى.

الملاحظة الأولى فى تلك العلاقة هى المدى الزمنى لها، فقد استمرا على اتصال مباشر لمدة تسع سنوات متواصلة، كانت هى السنوات المزدهرة لكليهما، وقد يقول قائل إن تسع سنوات ليست بالزمن الطويل على نحو لافت، وقد يكون هذا وجيهًا، لكن عندما نعلم أنه خلال تلك السنوات، أوقف المتنبى شعره بالكامل للحديث فى وعن وحول سيف الدولة، فهذا أمر فريد لم يحدث فى تاريخ الشعر العربى.

وقد انقطع جماعة من كبار الشعراء المتقدمين منذ العصر الجاهلى إلى عصر المتنبى، لجماعة من الخلفاء وأشراف الناس، ولكنهم لم يقفوا أنفسهم على هؤلاء الخلفاء والأشراف كما فعل المتنبى مع سيف الدولة، وكما كان يفعل مع غيره من الأمراء والأشراف الذين حموه وأظلوه.

فلم يشغل زهير بهرم عن غيره، ولم يشغل به عن الشعر الخالص، ولم يشغل الحطيئة بعلقمة بن عُلاثَة، ولا بالزبْرِقان، ولا بالوليد بن عقبة عن غيرهم من الذين كان يتناولهم بالمدح أو بالهجا، وقد انقطع الأخطل ليزيد بن معاوية، ولكنه كان يقول الشعر فِى غير يزيد، وانقطع لعبد الملك بن مروان، ولكنه كان يقول فِى غير عبدالملك بن مروان، ومن قبل ذلك انقطع النابغة للنعمان، ثم فِى أيام الأخطل فرغ جرير للحجاج دهرًا، وفرغ الفرزدق لسليمان بن عبدالملك حينًا، وانقطع الكميت لبنى هاشم، وانقطع السيد الحميرى لهم أيضًا، واتصل بشار بجماعة من الخلفاء، واتصل أبونواس بجماعة منهم كذلك، وانقطع للأمين أثناء خلافته، وانقطع مروان بن أبى حفصة للمهدى والرشيد، وأكثر البحترى شعره فِى المتوكل، ولكن واحدًا من هؤلاء أو من غير هؤلاء لم يقف حياته الفنية وغير الفنية تسعة أعوام كاملة على مولاه، وإنما كانوا يُصْفون سادتهم وحماتهم بعناية خاصة، ولكنهم يبيحون لأنفسهم أن يمدحوا غيرهم من جهة، ويبيحون لأنفسهم أن يقولوا فِى غير المدح من جهة أخرى.

الملاحظة الثانية الأهم من الانقطاع، هى طبيعة الشعر والأبيات نفسها، نقرأ مثلًا:

عَذلُ العَواذِلِ حَولَ قَلبِ التائِهِ

وَهَوى الأَحِبَّةِ مِنهُ فى سَودائِهِ

يَشكو المَلامُ إِلى اللَوائِمِ حَرَّهُ

وَيَصُدُّ حينَ يَلُمنَ عَن بُرَحائِهِ

وَبِمُهجَتى يا عاذِلى المَلِكُ الَّذى

أَسخَطتُ كُلَّ الناسِ فى إِرضائِهِ

إِن كانَ قَد مَلَكَ القُلوبَ فَإِنَّهُ

مَلَكَ الزَمانَ بِأَرضِهِ وَسَمائِهِ

الشَمسُ مِن حُسّادِهِ وَالنَصرُ مِن

قُرَنائِهِ وَالسَيفُ مِن أَسمائِهِ

المتنبى هنا يبدأ ببيت غزلى، وظاهريًا فهذه هى عادة الشعراء العرب منذ القدم، أن يبدأ المدح بالغزل، لكن الغزل يكون فى محبوبة مثل «سعاد»، فى بردة كعب بن زهير الشهيرة «بانت سعاد»، سواء سمى الشاعر المحبوبة أو لم يسمها، أو منحها أسماء مختلفة.

فى حالة المتنبى، الغزل الذى بدأ به المدح فى سيف الدولة نفسه، وفى حدود علمنا لم نعلم شاعرًا تغزل فى أمير على هذا النحو الصريح، ولنتأمل البيت الأول، لا سيما الشطر الثانى منه: «وهوى الأحبة منه فى سودائه»، الأحبة هنا يقصد بها سيف الدولة نفسه على نحو لا لبس فيه ولا تأويل!

ما يزيد العجب هنا هو أن هذا مخالف لدين المتنبى، وعادته، ونظرته لنفسه وعصره وشعره، فهو الشاعر الباحث دائمًا عن الحرية، وعن الاستقلال، والمعتد بنفسه إلى حد اتهامه بالغرور، وما تسميته المتنبى إلا لأن الناس فهموا من شعره أنه يصل فى رؤيته لنفسه إلى حد النبوة، عندما قال فى شبابه:

أنا فى أمة تداركها الله غريب كصالح فى ثمود

فكيف لهذا الفرس الجامح أن يتوله فى حب أمير كل هذا الوقت حتى إنه يمنحه كل إنتاجه عن طيب خاطر؟.

ويمتاز شعر المتنبى فِى سيف الدولة بشيئين آخرين غير المدة، وهما الكثرة والتنوع، فمع أنَّ سيف الدولة هُوَ الموضوع الذى يدور حوله شعر المتنبى أثناء هذه الأعوام التسعة، فقد كان هَذَا الشعر مختلف الأنواع والألوان والفنون، ولم يكن هَذَا الاختلاف ناشئًا عن رغبة الشَّاعِر فِى التنويع والافتنان، وإنما كان ناشئًا عن أنَّ حياة سيف الدولة نفسه كانت مختلفة الأنحاء والوجوه، وشعر المتنبى فى سيف الدولة مستغرق فى تفاصيل تفاصيل حياة سيف الدولة، وهو ما يدل بوضوح على أن علاقة الشاعر بالأمير امتدت إلى أخص خصوصياته.

من ذلك مثلًا رثاء المتنبى لأم سيف الدولة، من هذا الرثاء نفهم أن علاقة المتنبى ببيت سيف الدولة كان كواحد من البيت، ليس رثاء سياسيًا رسميًا، بل هو يعرف تمامًا من هى المتوفاة، وما تأثيرها، وكيف تكون علاقتها بابنها وأفراد بيتها، ومن حولها، وكل هذا لن يتاح إلا بالقرب الشديد، وهذه أمور لا يمكن أن تمر مرور الكرام عند محاولة فهم عمق العلاقة بين الشاعر والأمير.

غير أن استعراض شعر المتنبى فى سيف الدولة أثناء اتصالهما، على تنوعه وخصوصيته وغرابته، وغرابة غزلياته، لا يشكل إلا جزءًا صغيرًا مما يمكن رصده ساعة الفراق وما بعدها. ولوعة الطرفين من وصول طريق العلاقة إلى منتهاه، وهنا يمكن الحديث عن ثلاث قصائد لافتة:

الأولى، 

وا حر قلباه ممن قلبه شبم

ومن بجسمى وحالى عنده سقم

فى تلك القصيدة كان قرار المتنبى بالرحيل، وهو رحيل ملتاع، صرح فيه أكثر من مرة بأنه يفارق حبيبًا، وعندما نقول «حبيب»، فالمعنى هو المباشر تمامًا بداية من مطلع القصيدة، الذى معناه أن قلبى يعانى الحرارة، وحبيبى قلبه أصبح باردًا تجاهى، وحبيبى لا يدرك أن النحول الذى أصاب جسمى كان نتيجة كثرة الحب والانشغال به. وكل هذه أمور أبعد ما يكون عن شاعر انقطعت صلته بأمير.

يقول أيضًا فى تلك القصيدة:

إن كان يجمعنا حب لغرته

فليت أنا بقدر الحب نقتسم

وهو من أرق أبيات الغزل والعتاب فى الشعر العربى، فهو يقول إن كان الأمير يقرب من حوله بناء على مقدار الحب، فليته يقسم القرب بناء على هذا الحب، فأنا المحب الأول له! والقصيدة مليئة بهذه المعانى، لكن نقف أمام بيت صريح لا لبس فيه:

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا كلَّ شىء بعدكم عدم

يعنى إذا وجدنا، أو حصلنا على، كل شىء فى فراقكم، فهو كله عدم، لأن ما نريده فعلًا هو الاتصال بكم.

لكن، لم الفراق إن كانت هذه هى الحال من اللوعة؟

كان هذا بناء على وشايات من رجال البلاط الحمدانى، حيث لم يحتملوا أن يكون هناك فرد له مثل هذا القرب من الأمير، وتلك الحظوة، فتكالبوا وتعاونوا على ما يفرق الحبيبين عن بعضهما البعض، وهو ما يلقى مزيدًا من علامات الاستفهام حول طبيعة العلاقة وحدودها.

القصيدة الثانية،

بم التعلل، لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كأس ولا سكن

وفيها نعلم أنه بعد رحيل المتنبى عن بلاط سيف الدولة، لم يتوقف الأخير عن الشعور باللوعة، وبالندم على فقدان الحبيب، حتى إن المقربين، الذين كانوا سببًا فى الفرقة، اخترعوا أو ألفوا خبرًا أن المتنبى لقى حتفه فى طريقه، عل الأمير يتوقف عن تذكره.

اللافت هنا أنه طوال بقاء المتنبى مع سيف الدولة كان الانتصار حليفه الدائم، وبعد الرحيل بدأت الدولة تضعف، وتعرف معنى الهزائم، والمصادر ترجع ذلك إلى انشغال الأمير بأخبار الشاعر الحبيب المفارق.

يتحدث المتنبى كثيرًا فى نونيته «بم التعلل» عن أخبار الموت الكاذبة، وكيف أنها حيلة بائسة هدفها جعل الأمير ينسى حبيبه، لكنها غير صحيحة

يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ

كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ

كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ

ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ

قَد كانَ شاهَدَ دَفنى قَبلَ قَولِهِمِ

جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا

ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ

تَجرى الرِياحُ بِما لا تَشتَهى السُفُنُ 

فهو يتحدث صراحة فى تلك الأبيات عن سيف الدولة وذكر خبر موت المتنبى عنده، غير أن اللافت أن تلك الأبيات تأتى مباشرة بعد أبيات يهاجم فيها العشق، ويتهمه بأنه سبب عذاب الإنسان:

مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ

هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا

تَفنى عُيونُهُمُ دَمعًا وَأَنفُسُهُم

فى إِثرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ

تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم كُلُّ ناجِيَةٍ

فَكُلُّ بَينٍ عَلَىَّ اليَومَ مُؤتَمَنُ

ما فى هَوادِجِكُم مِن مُهجَتى عِوَضٌ

إِن مُتُّ شَوقًا وَلا فيها لَها ثَمَنُ

وتقديرنا أن هذا الربط لا لبس فيه، وأن العشق المقصود هنا هو العشق الذى جمعه بسيف الدولة، ونلاحظ أنه استخدم تعبير «العشق» وليس «الحب»، الذى يمكن حمله على أنواع وأشكال متسعة من العلاقة، ولا يمكن القول إنه استخدم العشق لا الحب لدواعى الوزن الشعرى مثلًا، فالوزن لن يتأثر باستخدام أيهما، هو ذكر العشق ويعنيه تمامًا.

القصيدة الثالثة هى الأغرب، فهى أول ما قاله المتنبى فى مدح أمير آخر هو كافور الإخشيدى، لكن مقدمتها بالكامل تتحدث عن سيف الدولة، وتأثير فراقهما عليه، ولوعته من هذا الفراق، ومطالبته لقلبه أن ينسى هذا الحبيب! حتى إنه يصف فراقهما بأنه الموت، ننتقى منها:

كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى الْمَوْتَ شَافِيَا 

وَحَسْبُ الْمَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا

حَبَبْتُكَ قَلْبِى قَبْلَ حُبِّكَ مَنْ نَأَى 

وَقَدْ كَانَ غَدَّارًا فَكُنْ أَنْتَ وَافِيَا

وَأَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْنَ يُشْكِيكَ بَعْدَهُ 

فَلَسْتَ فُؤَادِى إِنْ رَأَيْتُكَ شَاكِيَا

فَإِنَّ دُمُوعَ الْعَيْنِ غُدْرٌ بِرَبِّهَا 

إِذَا كُنَّ إِثْرَ الْغَادِرِينَ جَوَارِيَا

أَقِلَّ اشْتِيَاقًا أَيُّهَا الْقَلْبُ رُبَّمَا 

رَأَيْتُكَ تُصْفِى الْوُدَّ مَنْ لَيْسَ جَازِيَا

فهو يتحدث بوضوح عن حبيب فقده، نتيجة لغدره به، وأنه لا يستطيع التجاوز، أو بلغة اليوم «موف أون»، ويطالب قلبه بالنسيان!

من كل هذه الأمور نستطيع القول إن علاقة الأمير بالشاعر لم تكن فقط على المستوى الرسمى سواء كان سياسيًا أو أدبيًا، وأن «علاقة خاصة» جمعتهما، وهذه الخصوصية كانت على مستوى المشاعر، ولا نستبعد أن تكون نتيجة علاقة حميمة جمعتهما.

على أى حال، هذا مجرد فتح لملف يبدو شائكًا، غير أن من يحاول الفهم، لا يمكن أن يتغافل عنه أو يتجاوزه ببساطة.