السبت 19 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ملوك المال.. قصة اليهود الذين شكّلوا أمريكا الحديثة

حرف

- كتاب يرصد دور اليهود المهاجرين فى تحويل أمريكا إلى قوة مالية عظمى

- كيف أثر المصرفيون اليهود الألمان على اقتصاد أمريكا وسياساتها؟.. وقصة ولادة أول جماعة ضغط يهودية

- من باعة متجولين إلى أقطاب وول ستريت.. رحلة صعود المهاجرين اليهود فى أمريكا

- كيف أسهمت الحرب الأهلية الأمريكية فى تحويل المهاجرين اليهود من تجار إلى مصرفيين؟

- كيف عزز اليهود المهاجرون مكانتهم فى الطبقة العليا من المجتمع الأمريكى؟

وصل جوزيف سيليجمان إلى الولايات المتحدة عام 1837، وفى جيبه ما يعادل 100 دولار. ثم جاء الأخوان ليمان «من تجار القطن»، اللذان افتتحا متجرًا عامًا فى مونتجمرى، ألاباما. ولم يتخلف عنهما كثيرًا سولومون لويب وماركوس جولدمان، من بين أعضاء «حركة الثمانية والأربعين» الفارين من ألمانيا، التى حطت من شأن اليهود إلى طبقة دنيا. 

سرعان ما انتقل هؤلاء المهاجرون المجتهدون من بيع الحلى وشراء سندات الدين لأصحاب المتاجر إلى تشكيل ما سيصبح بعضًا من أكبر البنوك الاستثمارية فى العالم - جولدمان ساكس، وكون لوب، وليمان براذرز، وجيه آند دبليو سيليجمان وشركاه.

لقد تصادموا وتعاونوا مع جى بى مورجان، وإى إتش هاريمان، وجاى جولد، وغيرهم من كبار رجال الأعمال المشهورين فى تلك الحقبة. 

وساعدت شركاتهم فى تحويل الولايات المتحدة من دولة مدينة إلى قوة مالية عظمى، مستفيدة من الصناعة الأمريكية ومكتتبة بعض الشركات الجوهرية فى القرن العشرين، مثل جنرال موتورز، ومايسيز، وسيرز لتجارة التجزئة.

وعلى طول الطريق، شكلوا مصير ليس فقط التمويل الأمريكى ولكن مصير ملايين اليهود من أوروبا الشرقية الذين تدفقوا من السفن البخارية فى ميناء نيويورك فى أوائل القرن العشرين.

فى كتابه «ملوك المال: القصة الملحمية للمهاجرين اليهود الذين غيّروا وول ستريت وشكّلوا أمريكا الحديثة»، يتتبع الصحفى والكاتب دانيال شولمان قصص الأصول المترابطة لهذه السلالات المالية. 

ويسجل مساراتهم نحو الهيمنة على وول ستريت (الحى المالى بأمريكا)، وهم يشقون طريقهم عبر الطبقة العليا فى العصر الذهبى، وتعقيدات الحرب الأهلية والحرب العالمية الأولى، والحركة الصهيونية التى اختبرت إمبراطورياتهم الناشئة وهوياتهم كأمريكيين وألمان ويهود.

ودانيال شولمان هو نائب رئيس مكتب مجلة «ماذر جونز» الأمريكية فى واشنطن، ونشرت أعماله فى مجلة بوسطن جلوب، وبوليتيكو، وفانيتى فير، وواشنطن بوست، وغيرها.

الكتاب صدر عن دار «كنوبف» الأمريكية فى منتصف نوفمبر ٢٠٢٣، فى ٥٩٢ صفحة، ويوثق التاريخ الاقتصادى لأسس الثروة اليهودية فى أمريكا فى مطلع القرن العشرين وتأثيرها العميق على وول ستريت والعالم.

ويظهر الكتاب التأثير الهائل للمصرفيين اليهود الأمريكيين من أصل ألمانى على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها وجغرافيتها السياسية، واليوم، يبدو عالم ما قبل أكثر من قرن، عالم «ملوك المال»، أقرب من أى وقت مضى.

جماعة ضغط

يحكى شولمان فى كتابه قصة ولادة أول جماعة ضغط يهودية فى أمريكا، من خلال الحاجة الملحة لبلد شاب مثل الولايات المتحدة إلى عمالة رخيصة، وحلم شعوب العالم بحياة أفضل.

وهكذا فتحت أمريكا أبوابها على مصاريعها للهجرة فى القرن التاسع عشر. ووصل حوالى مليونى مهاجر أيرلندى بين عامى ١٨٢٠ و١٨٦٠، بالإضافة إلى مليون ونصف مليون ألمانى. 

ومن بين هؤلاء كان هناك أكثر من مائة ألف يهودى، وكان نزوحهم مدفوعًا ليس فقط بالاضطرابات السياسية والاقتصادية التى كانت تعصف بأوروبا آنذاك، بل وأيضًا بالتمييز المعادى للسامية الذى أضاف طبقة إضافية من المشقة إلى حياتهم فى وطنهم.

حيث عاملت ممالك ألمانيا ما قبل التوحيد اليهود إلى حد كبير كطبقة دنيا دائمة، وقيدتهم من معظم المهن، ومنعتهم من امتلاك العقارات، وأملت عليهم أماكن إقامتهم.

ويشير المؤلف إلى أن هؤلاء المهاجرين اليهود سواء ليمان وجولدمان ساكس وهى الأسماء الشهيرة منهم. وآل واربورج وسيليجمان الأقل شهرة، أسسوا جميعًا أول نظام مصرفى حديث فى الولايات المتحدة الأمريكية. 

وذلك بعد أن استقر العديد من هذه العائلات فى الجنوب الأمريكى. وقد دفعت الحاجة إلى إنشاء مركز تجارى شمالى بعضًا من الإخوة ليمان إلى نيويورك، «العاصمة المالية للبلاد» و«حلقة الوصل الرئيسية إلى الموانئ الأوروبية مثل ليفربول، التى كانت تمر عبرها معظم واردات بريطانيا من القطن من الولايات المتحدة». 

حيث وجد ليمان وغيره من رواد الأعمال اليهود، فرصة فى الحاجة إلى التمويل من خلال السندات بعد الحرب الأهلية. سرعان ما أدى نشر كابل التلغراف عبر الأطلسى إلى تدويل السوق الأمريكية، ما تطلب الخدمات المصرفية والتجارية. 

ويوضح الكاتب أن وجود معاداة للسامية فى هذا الوقت أدى إلى ولادة «أول جماعة ضغط يهودية» - وتولى الكثير من غير اليهود زمام المبادرة، بما فى ذلك عائلة مورجان وهاريمان وروكفلر.

ووفر هذا المناخ للمصرفيين اليهود حافزًا إضافيًا لتوظيف أفراد من عائلاتهم وتعزيز شركاتهم من خلال الزواج المختلط. إلا أن خلط العائلة بالتمويل أدى أيضًا إلى تفاقم الخلافات حول الرواتب، وقبول شركاء جدد، والخلافة، «وأضفى طابعًا عاطفيًا وانفعاليًا على قرارات الأعمال».

وازدهرت العديد من شركاتهم لأكثر من قرن. ومع ذلك، وكما يوضح شولمان «من بين المؤسسات المالية اليهودية الألمانية العريقة التى رسمت ملامح حقبة من التمويل الأمريكى، لم ينج من ذلك سوى (جولدمان ساكس)، الذى انتظر حتى عام ١٩٩٩ لطرح أسهمه للاكتتاب العام... ليصبح البنك الاستثمارى الأبرز فى العالم».

دانيال شولمان

البيع بالتجزئة

ويتناول المؤلف بتفصيل أكثر أنشطة أوائل المصرفيين اليهود الذين وصلوا أمريكا فى منتصف القرن التاسع عشر، حيث بدأوا العمل كباعة متجولين وحققوا ازدهارًا ماليًا على جانبى الحرب الأهلية. 

ويصف كيف أتاح «النظام المالى الناشئ» غير المنظم فى البلاد خلال الحرب الأهلية فرصة لهؤلاء المهاجرين للارتقاء من باعة متجولين إلى أقطاب وول ستريت.

ويشير الكاتب إلى أنهم غالبًا ما كانوا يتجولون فى عمق المناطق الداخلية الأمريكية، بعيدًا عن أقرب البلدات والمدن، لبيع تشكيلة من المنتجات النادرة فى المزارع النائية ومجتمعات التعدين وغيرها من المناطق الريفية. 

كان هؤلاء الباعة المتجولون أشبه بالمتاجر المتنقلة، وكانوا يميلون إلى التخصص فى السلع الفاخرة «التحف والإكسسوارات الزخرفية»، والبذخ.

وفى كثير من الأحيان، بدا أنه لا نهاية لما يمكن للبائع المتجول أن ينتجه من حقيبته أو يستخرجه من عربته المحملة: التقاويم، والمرايا، وإطارات الصور، والخزف، وأدوات المائدة، ومفارش المائدة، وأغطية الأسرة، والشيلان، والمعاطف، والأحذية، والدانتيل، والحرير، وأنماط التطريز، والساعات، والمجوهرات، وماكينات الخياطة.

ويقول شولمان إن البيع بالتجزئة كان أكثر المهن الناشئة شيوعًا لدى المهاجرين اليهود الألمان، نظرًا لطبيعته المألوفة. وكان من الوظائف القليلة المتاحة لآبائهم وأجدادهم فى وطنهم الأم. 

وقد وفر البيع بالتجزئة دورة مكثفة فى العادات والتقاليد الأمريكية واللغة الإنجليزية، وكافأ المغامرين منهم. وبعد اكتساب بعض الخبرة وجمع رأس المال، كانت الخطوة التالية على السلم الاقتصادى للباعة المتجولين هى افتتاح متجر. 

ويأخذنا المؤلف هنا إلى رحلة صعود هؤلاء المصرفيين الأوائل إلى قمة وول ستريت، فيلفت إلى أن ماركوس جولدمان بعد أن ركز على البيع فى نيوجيرسى، أسس فى النهاية شركة ناجحة لبيع الملابس بالجملة فى شارع ماركت بفيلادلفيا. 

وبالمثل، يعود أصل «كون لوب»- بنك استثمارى كبير حتى ثمانينيات القرن العشرين- إلى شركة الملابس المزدهرة فى سينسيناتى فى أوهايو الأمريكية، والتى يملكها صهراه سولومون لوب وأبراهام كون «بدآ نشاطهما بالبيع فى إنديانا».

ويذكر الكاتب أن جوزيف سيليجمان باع سندات الاتحاد، بينما روج ماير وإيمانويل ليمان لديون الولايات الكونفيدرالية الأمريكية «١١ ولاية جنوبية»، وانخرطا فى السوق السوداء للقطن الجنوبى.

وبعد الحرب الأهلية، حصل الأخوان ليمان على عفو من الرئيس الـ١٧ للولايات المتحدة أندرو جونسون، وانتقلت عملياتهما من الجنوب إلى نيويورك، حيث أسهما فى تأسيس بورصة القطن فى المدينة.

بورصة وول ستريت

نقطة تحول

يتحرك شولمان فى كتابه بنشاط، عبر سلسلة من الأحداث التاريخية، لينقل القارئ عبر الحرب الأهلية الأمريكية الممتدة من عام ١٨٦١ - ١٨٦٥ وتداعياتها، والأزمات المالية المتعددة فى القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومساهمة بول واربورج فى تأسيس الاحتياطى الفيدرالى عام ١٩١٣، والحرب العالمية الأولى، ومعاداة السامية التى أعقبتها فى الولايات المتحدة وألمانيا.

ويروى المؤلف بتفصيل أكثر كيف شكّلت الحرب الأهلية نقطة تحول دراماتيكية، شملت حتى الشركات الناشئة التى أسهمت فى السنوات التالية فى دفع عجلة التحول الصناعى لأمريكا. 

وقد أشارت إلى تحولهم من تجار إلى مصرفيين، وكتب إيمانويل ليمان إلى أقاربه بعد بدء الحرب بمزيد من اليأس: «انتهى كل شىء!». كان إيمانويل قد أسس فرعًا فى نيويورك لأعمال ليمان فى مونتجمرى، والتى كانت تتوسع تدريجيًا من تجارة السلع الجافة إلى تجارة القطن. 

ويشير الكاتب إلى أن تاريخ الشركة الذى نشرته شركة «ليمان براذرز» عام ١٩٥٠ بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيسها، يتجاهل مسألة ما إذا كانت عائلة ليمان قد تعاملت فى السوق السوداء للقطن خلال الحرب الأهلية، إلا أن النسخة غير المنشورة الأطول والأكثر تفصيلًا، بعنوان «البذرة والشجرة»، لا تدع مجالًا للشك فى أنهم كانوا مهربين للحصار.

كما أبرمت عائلة ليمان صفقات تجارية كبيرة مع الولايات الكونفيدرالية الأمريكية، حيث أبرمت عقودًا لا تقل قيمتها عن ٢٠٠ ألف دولار لتوريد سلع تتراوح من القهوة والأرز إلى الأقمشة المستخدمة فى الزى العسكرى الذى ترتديه القوات الجنوبية. 

فى غضون ذلك، فى الشمال، ساعدت الشركات التى يديرها ماركوس جولدمان، وعائلة سيليجمان، وأبراهام كون، فى تجهيز قوات الاتحاد.

ويوضح شولمان أن الحرب سرّعت من عملية إضفاء الطابع المالى على الحياة الأمريكية، ما استلزم عمليات بيع سندات واسعة النطاق من كلا الجانبين، وأحدث موجة مضاربة محمومة فى وول ستريت، وخاصة فى سوق الذهب، التى شهدت تقلبات حادة بناء على آخر الأخبار على جبهة القتال. 

وانخرطت شركتا ليمان وسيليجمان فى مجال التمويل خلال هذه الحقبة، حيث باعتا أوراقًا مالية كونفيدرالية وأمريكية فى أوروبا خلال الحرب، على التوالى.

موهبة ريادية

يبرز الكاتب على طول صفحات كتابه، لمحات من حياة أبرز قادة الجالية اليهودية فى أمريكا التى نمت مع فرار الكثيرين من أوروبا عقب ثورتى ١٨٤٨ و١٨٤٩ على النظام الإقطاعى، وعلى رأسهم جوزيف سيليجمان، والذى كان من أوائل هؤلاء القادة.

ويروى شولمان أن سيليجمان كان الأكبر بين أحد عشر طفلًا، ثمانية منهم ذكور، قادمًا من بايرسدورف، وهى بلدة زراعية بافارية صغيرة تقع بين التلال الخضراء المتموجة شمال نورمبرج. 

عاشت العائلة فوق متجرها الصغير فى الحى اليهودى ببايرسدورف. وفى سن الثانية عشرة، كانت موهبة جوزيف الريادية قد بدأت بالظهور. عندما لم يكن يذهب إلى المدرسة أو يساعد والدته فى المتجر، كان يتسكع فى ضواحى بايرسدورف، يعرض خدماته كصراف - حيث كانت الولايات الألمانية المختلفة تستخدم عملات منفصلة - للمسافرين العابرين.

وفى الرابعة عشرة من عمره، التحق بالجامعة المحلية فى إرلانجن القريبة، حيث درس اللاهوت والطب، وأظهر مهارة فائقة فى اللغات: الإنجليزية والفرنسية والعبرية واليونانية. 

وكان كلما ازدادت معرفته، ازداد استخفافه بالنظام الاجتماعى الألمانى الذى قيد اليهود بقوانين إقصائية متعددة، وحصرهم فى الفقر والعيش فى مرتبة أدنى من الدرجة الثانية. 

ويشير المؤلف إلى أن سيليجمان بدأ رحلته إلى أمريكا عام ١٨٣٧ على عربة تجرها الخيول من بلدته الزراعية، وواصل مسيرته، ليجمع ثروة طائلة كمؤسس شركة «جيه آند دبليو سيليجمان وشركاه»- بنك استثمارى أمريكى بارز حتى القرن العشرين- التى اشتهرت بتداول ديون الحكومة الأمريكية. 

ويحكى الكاتب أنه فى عام ١٨٧٧، عانى سيليجمان من واقعة بارزة من معاداة السامية، عندما منعه فندق «جراند يونيون» فى مدينة ساراتوجا سبرينجز هو وعائلته من الدخول. وقد برز نزاع علنى على صفحات صحيفة «نيويورك تايمز» بين سيليجمان ومالك الفندق، هنرى هيلتون.

مليونير بالفطرة

ويذهب شولمان إلى جاكوب شيف، وهو الممول اليهودى ذو النفوذ الفريد، فهو الشخصية المحورية فى كتابه وغلاف الكتاب، ويحتل أكبر مساحة، ويتفوق على بقية القادة المهمين فى الجالية اليهودية فى أمريكا، فهو زعيمها والرجل الذى تولى قيادة المجتمع اليهودى، بعد وفاة سيليجمان عام ١٨٨٠.

فهو أهم مصرفى فى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، وأعظم فاعل خير يهودى فى القرن العشرين، حيث تبرع بسخاء للجمعيات الخيرية اليهودية وقتها، وعندما وصل إلى الولايات المتحدة كان يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا فى ٦ أغسطس ١٨٦٥، بعد ثمانية وعشرين عامًا من وصول جوزيف سيليجمان. 

وكان يكبر سيليجمان بعام واحد فقط فى ذلك الوقت، لكن كان لديه خمسة أضعاف المال فى جيبه وكان طموحًا وذكيًا. كما كانت لديه رحلة أكثر راحة بكثير وخبرة واتصالات مكنته من تخطى مرحلة البيع والانغماس مباشرة فى التمويل، حيث شارك فى تأسيس أول شركة وساطة له فى وول ستريت عام ١٨٦٧. 

ويذكر المؤلف أن أحد أصحاب العمل الأوائل قال إنه كانت لديه «مقومات» المليونير بالفطرة. فى غضون عشر سنوات، تمكن من المساهمة بمبلغ ٥٠ ألف دولار فى شركة كون لوب الاستثمارية المصرفية، والتى انضم إليها كشريك عام ١٨٧٥.

وكان الثانى فى النفوذ فقط بعد سليمان لوب، الذى أصبح صهره فى ٦ مايو ١٨٧٥. وعلى مدى العقود التالية، تولى زمام الأمور، وبنى كون لوب ليصبح قوة دولية، وأصبح رجلًا ثريًا للغاية.

ويلفت الكاتب إلى أن شيف نافس جى بى مورجان فى مكانته فى وول ستريت، ولم تتعزز سمعته إلا عندما دبر عملية إنقاذ شركة «يونيون باسيفيك» للسكك الحديدية فى أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، بعد أن تخلى مورجان عن مهمته. 

وحول شيف مئات الملايين من الدولارات - وربما مليارات الدولارات - من رأس المال الاستثمارى الأوروبى إلى الشركات الأمريكية، فى عملية تشكيل المسار الاقتصادى للبلاد. 

شركاء كون لوب فى عام 1932

إمبراطورية ضخمة

ويذهب شولمان إلى جولدمان ساكس وقصة تأسيس البنك الاستثمارى الأبرز فى العالم، حيث انتقل ماركوس جولدمان إلى نيويورك من فيلادلفيا عام ١٨٦٩ مع زوجته بيرثا وأطفالهما الخمسة.

وبرع ماركوس فى كونه يقدم قروضًا قصيرة الأجل للتجار المحليين، بعد أن لاحظ أن سماسرة الأوراق المالية قاموا بتعبئة هذه السندات - وهى سلف الأوراق التجارية - وبيعها بالجملة للبنوك المحلية بخصم، ما أدى إلى تجديد رأسمالهم لمعاملات اليوم التالى. وهو ما كان عملًا تجاريًا ضخمًا.

وأسس بعدها جولدمان الشركة التى ستصبح جولدمان ساكس. فى ذلك الوقت، لم تكن وكالة تقارير الائتمان «آر. جى. دان وشركاه» تولى اهتمامًا كبيرًا لمستقبله، معتبرة جولدمان «خجولًا للغاية» للقيام بأعمال كثيرة. 

ويشير المؤلف إلى أنه ليس من المستغرب أن يقلل خبراء تقارير الائتمان من شأن جولدمان. فلم يكن هناك فى خلفيته ما يوحى بأنه سيضع حجر الأساس لإمبراطورية مالية ضخمة وواسعة الانتشار، لدرجة أنه لا داعى اليوم لقول أى شىء أكثر من لقب مؤسسها.

ويعلق الكاتب هنا قائلًا: «لقد شارك هذه السمة - وغيرها الكثير- مع مجموعة مترابطة من عمالقة الأعمال الذين، انطلاقًا من أصول مميزة ومدهشة، أسهموا فى تحويل وول ستريت كما نعرفها».

ويوضح شولمان أن مدار السلالات الألمانية اليهودية التى شكلت دائرة «جاكوب شيف» الاجتماعية والمهنية لعب دورًا حيويًا فى تطوير الاقتصاد الحديث، والسياسات والمؤسسات التى تدعمه.

على سبيل المثال، كان بول واربورج، شريك شيف وصهره، أحد مهندسى نظام الاحتياطى الفيدرالى «البنك المركزى الأمريكى» ولعب دورًا حاسمًا فى تأسيسه. 

حيث كان بول، الذى تزوج نينا لوب فى عام ١٨٩٥، «مصرفيًا ومنظرًا ماليًا لامعًا»، غادر شركة كون لوب الاستثمارية فى عام ١٩١٤، ليشغل منصب أحد الأعضاء الأصليين فى مجلس الاحتياطى الفيدرالى، وسرعان ما أصبح نائبًا لمحافظه.

أما إدوين سيليجمان، نجل جوزيف سيليجمان، فكان اقتصاديًا فى جامعة كولومبيا، وقاد الجهود للتصديق على التعديل السادس عشر الذى يجيز ضريبة الدخل الفيدرالية. وكان أحد رواد الضرائب التصاعدية، التى يرتكز عليها النظام الضريبى الأمريكى.

وأسهم هنرى جولدمان وفيليب ليمان، صديقا الطفولة اللذان شارك والداهما فى تأسيس جولدمان ساكس وليمان براذرز، على التوالى، فى ريادة الاكتتاب العام الأولى الحديث، بعد أن طردتهما شركات الاستثمار الكبرى من تمويل السكك الحديدية.

ويوضح المؤلف أنهم ركزوا جهودهم على شركات التجزئة التى تجاهلتها كبرى شركات وول ستريت، مدرجين فى تقييماتهم عوامل غير ملموسة، مثل القدرة على تحقيق الأرباح فى المستقبل وسمعتها التجارية. 

وبالتالى ازدهر جيل من الشركات المعروفة - مثل بى. إف. جودريتش، وسيرز، وولورث، على سبيل المثال لا الحصر - نتيجة لابتكاراته المالية.

ويشير الكاتب، إلى أن أول الوافدين اليهود الألمان إلى أمريكا كان شابًا أعزب. ولكن بعد استقراره، كان ينضم إليه إخوته - ومن هنا جاء انتشار مصطلح «&Bros» (براذرز) فى أسماء الشركات الأمريكية الناشئة.

رحلة المهاجرين اليهود إلى أمريكا

دور عالمى

ولم يقف دور الجالية اليهودية عند تشكيل المسار الاقتصادى لأمريكا الحديثة، ولكن عززت الإدارة المالية لهم كمؤسسات ثقافية كبرى، مثل متحف متروبوليتان للفنون، والمتحف الأمريكى للتاريخ الطبيعى، وأوبرا متروبوليتان، وأوركسترا نيويورك، مكانتهم فى الطبقة العليا من المجتمع الأمريكى.

وعلى الصعيد العالمى، لعب جاكوب شيف دورًا محوريًا فى جمع الأموال لليابان فى الحرب الروسية اليابانية عامى ١٩٠٤ و١٩٠٥، ودافع عن حقوق اليهود فى روسيا، التى كانت آنذاك تحت وطأة القيصر. وجلب اليهود الروس إلى الولايات المتحدة خلال المذابح.

ويذكر شولمان، أن شيف احتفل بعيد ميلاده السبعين بتوزيع ٧٠٠ ألف دولار (١٦.٨ مليون دولار بأسعار اليوم) على جمعيات خيرية مختلفة.

ويرجع المؤلف اهتمام بعض «ملوك المال» اليهود فى أمريكا بالعمل الخيرى، حيث أتاحت لهم التبرعات للقضايا اليهودية، التعبير عن قلقهم على إخوانهم الأقل حظًا، مع ترسيخ مناصب قيادية فى المجتمع اليهودى.

ويذكر الكاتب أنه بالنسبة لليهود الأمريكيين، كانت الفترة الممتدة من ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى فترةً حافلة بالإثارة والتشويق، لكنها كانت مليئة بالتشاؤم.

فبينما جمع اليهود الألمان ثرواتهم فى وول ستريت، تدفق يهود روسيا وأوروبا الشرقية إلى جزيرة «إليس» الأمريكية (تقع فى خليج فى ميناء نيويورك) هربًا من المذابح المميتة.

وبالتالى نظم اليهود الألمان أعمالًا خيرية لإخوانهم اليهود، الذين حشر الكثير منهم فى مساكن عشوائية؛ كما ناشدوا الحكومة التدخل لدى القيصر الروسى لصالح إخوانهم فى الدين.

لكن حتى أثرياء اليهود كانوا يخشون تعريض مكانتهم الهشة للخطر فى أمريكا غير اليهودية. ومع تزايد الهجرة الذى أدى إلى دعوات لفرض قيود، وقع اليهود فى مأزق، متلهفين لمساعدة إخوانهم، لكنهم يخشون إثارة معاداة السامية فى الداخل.

ويشير شولمان إلى اختفاء شركة جاكوب شيف فى نهاية المطاف عن الأنظار، خاصة بعد اندماج كون لوب مع ليمان براذرز عام ١٩٧٧. ومع ذلك، يجادل بأنه «سواء كانوا يعلمون ذلك أم لا، فإن أقطاب وول ستريت الذين سيطروا على وول ستريت فى السنوات التى تلت وفاة شيف عام ١٩٢٠ ساروا فى ظله».