بعض من الخلل.. عالم النشر الغامض فى دار الوثائق

- موظف يتدخل لتعديل النصوص المقدمة حتى من حاملى الماجستير والدكتوراه
- باحثة تراث تولت مسئولية النشر لأن والدها رئيس سابق للمطبعة.. وفقط
- مفاجأة.. مسئول النشر فى «دار الكتب والوثائق».. «مُراجِع خطابات»
بعد الكشف عن أبرز التحديات التى تواجه الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية فى العدد السابق، تواصل «حرف» حملتها الصحفية لتسليط الضوء على تحديات أخرى لا تقل خطورة، تتمثل فى ملف سياسات النشر داخل أقدم مكتبة وطنية فى الوطن العربى.
الجزء الأول من تحقيق «حرف» كشف عن مشكلات الهيكل الإدارى والبنية التحتية، بينما يخوض هذا الجزء فى تفاصيل أكثر تعقيدًا تتعلق بآليات صناعة النشر وإصدار المطبوعات داخل هذه المؤسسة العريقة.
وتكشف السطور التالية النقاب عن آلية عمل سلاسل النشر المختلفة فى الدار، وعلاقات النشر مع المؤلفين، وكيفية توزيع المكافآت، مع تسليط الضوء على حالات محددة تظهر الخلل فى هذه المنظومة، من خلال وثائق رسمية وشهادات موثوقة، فى محاولة لفهم كيف تدار عملية النشر فى واحدة من أهم المؤسسات الثقافية فى مصر.
وتكشف، كذلك، كيف لا توجد سياسة نشر واضحة معلنة أو غير معلنة فى الهيئة، بالتزامن مع غياب هيكل وظيفى تنظيمى يتعلق بصناعة النشر كعملية متكاملة، رغم أن الدار تصدر عشرات الكتب والمجلات سنويًا، ما يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول معايير النشر وآليات اختيار العناوين وتحديد المكافآت.

المسئول الأول موظف تخصص فى مراجعة خطابات رئيس الهيئة
تسهم الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية بحصة ملحوظة، وإن كانت قابلة للتعزيز كمًا ونوعًا، فى النشر العام التابع لوزارة الثقافة. وتكمن أهمية هذا الدور فى كونه ينتمى إلى فئة «النشر النوعى»، الذى ينقسم إلى شقين رئيسيين: الأول يتمثل فى الإنتاج العلمى الصادر عن المراكز البحثية التابعة للهيئة، خاصة مركز تاريخ مصر المعاصر ومركز تحقيق التراث، والثانى يُعرف بـ«النشر العام»، الذى يصدر فى الغالب عبر مكتب رئيس مجلس الإدارة.

ويأتى هذا النوع الأخير عبر مسارين: الأول من خلال إصدارات تندرج ضمن «المجاملات»، وهو ما يمكن تلمسه من خلال عناوين الكتب أحيانًا، والثانى عبر طلبات رسمية يقدمها مؤلفون مباشرة إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة، وهو المسار الذى يشكل منفذًا للعديد من الشخصيات التى تتجنب الإجراءات «البيروقراطية» المعتادة فى المراكز البحثية.
وبرز فى عهد الدكتور محمود الضبع، الرئيس السابق لمجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، ما يُعرف مجازًا بـ«مسئول النشر»، وهى المهمة التى أُسندت إلى الموظف محمود عبدالحميد، خريج كلية اللغة العربية، الذى لم يسبق له العمل فى مجال النشر، وكانت مهامه الأصلية تقتصر على المراجعة اللغوية للخطابات الصادرة عن مكتب رئيس مجلس الإدارة.
ومع تسلمه ملف النشر، توسعت صلاحياته لتمتد إلى تقرير نشر الكتب أو رفضها، بل وتعديل نصوصها أحيانًا، بما فى ذلك الكتب البحثية المُعدة من قبل حاملى الماجستير والدكتوراه تحت إشراف لجان علمية متخصصة، وارتبطت فترة عمله بجملة من المشكلات الإدارية، كثير منها ذو طابع شخصى مع بعض المؤلفين.
وبعد انتقال «عبدالحميد» إلى وزارة الثقافة فى إطار ترقية، أوصى بتكليف مروة الشريف خلفًا له فى المنصب، وهى الباحثة فى مركز تحقيق التراث، وتحمل درجة «الليسانس» من دار العلوم، وحصلت لاحقًا على «الماجستير».
ولا تمتلك المذكورة خبرة سابقة فى صناعة النشر سوى ارتباطها العائلى بالمطبعة، والتى كان والدها مديرًا سابقًا لها، لذا أثار تعيينها فى هذا المنصب استياءً بين الباحثين، نظرًا لافتقارها للخبرة الإدارية والتأهيل العلمى الكافى مقارنةً بزملائها من الحاصلين على درجات علمية متقدمة وخبرات بحثية متنوعة فى المراكز العلمية بالهيئة.
وتُظهِر هذه التطورات إشكالية تتعلق بآليات اختيار القائمين على ملف النشر فى الهيئة، والتعامل مع هذا المنصب الحساس أحيانًا عبر اعتبارات غير مهنية، رغم وجود كوادر مؤهلة علميًا ومهنيًا فى المراكز البحثية التابعة، ليبقى السؤال حول مدى تأثير هذه الممارسات على جودة الإنتاج الفكرى والعلمى الصادر عن واحدة من أهم المؤسسات الثقافية فى البلاد.
مسئولة فى إجازة منذ 3 سنوات تتقاضى مكافآت على منصبين
تضم الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية ٦ مراكز علمية، هى: تاريخ مصر المعاصر، وتحقيق التراث، والترميم، والحاسب الآلى و«الببليوجرافيا»، وبحوث وأدب الطفل، والتدريب.
ويعد مركز تاريخ مصر المعاصر من أبرز المراكز البحثية فى الهيئة، ويصدر ٣ سلاسل علمية، هى: «مصر النهضة»، و«بحوث إفريقية»، و«أوائل المطبوعات»، بالإضافة إلى مجلة «مصر الحديثة»، ومن المفترض أن تصدر هذه السلاسل بشكل ربع سنوى.
وأسس سلسلة «مصر النهضة» الدكتور يونان لبيب رزق، وبعد وفاته عام ٢٠٠٨ تولى رئاسة تحريرها الدكتور أحمد زكريا الشلق، الذى يشرف عليها منذ ذلك الحين، مع مشاركة مدير المركز الحالى وزوجته فى إدارتها، وهو ترتيب ثابت منذ ٢٠ عامًا.
أما سلسلة «بحوث إفريقية» فأسسها الدكتور محمد صبرى الدالى والدكتور أحمد هلالى، فى عام ٢٠١٣، وصدر أول عدد فى يناير ٢٠١٤، وتولى رئاسة تحريرها فى البداية الدكتور السيد فليفل لمدة ٤ أعداد، ثم عُزل بعد ثبوت سرقته بحوثًا أجنبية ونشرها فى مجلة «مصر والعالم المعاصر»، التى أُلغيت لاحقًا.
وتولت الدكتورة إلهام ذهنى رئاسة تحرير السلسلة حتى ٢٠١٩، وصدر خلال هذه الفترة ١٦ عددًا، وعاد الدكتور السيد فليفل لرئاسة التحرير عام ٢٠١٩، ولم يصدر سوى ٦ أعداد حتى الآن، رغم أنه كان من المفترض إصدار ٢٤ عددًا خلال هذه الفترة.
وتأسست سلسلة «أوائل المطبوعات» عام ٢٠١٢، وكان من المفترض أن تصدر ربع سنويًا، لكنها لم تصدر سوى ١٠ أعداد حتى الآن. وتشرف حاليًا على تحريرها وسلسلة «بحوث إفريقية» الدكتورة آمنة حجازى. وتتقاضى د. «آمنة» مكافآت عن المنصبين، رغم وجودها فى إجازة رعاية طفل منذ ٣ سنوات، ورغم توافر ١١ باحثًا مؤهلًا، بينهم ٩ حاصلون على الماجستير والدكتوراه، يمكنهم تولى هذه المهام. أما مجلة «مصر الحديثة» فيرأس تحريرها الدكتور أحمد الشربينى، وتلاحظ تكرار نشر بحوث لنفس الأسماء فى أعداد متتالية من السلسلة.
وبصفة عامة، توجد ملاحظات حول تأثير «العلاقات الشخصية» فى عملية النشر، إذ تسجل القرارات فى محاضر اللجنة العلمية بشكل رسمى، بينما الواقع يشير إلى وجود «محسوبيات» فى اتخاذها.

جميع عناوين «بحوث إفريقية» رسائل بإشراف رئيس السلسلة
تتحكم العلاقات الشخصية فى النشر ضمن السلاسل العلمية التابعة للهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، ولعل أكثر ما يدل على ذلك أن جميع العناوين التى صدرت عن سلسلة «بحوث إفريقية»، فى ظل رئاسة تحريرها من قبل الدكتور السيد فليفل، هى فى الأصل رسائل علمية لطلاب أشرف هو شخصيًا عليها.
كما أن جميع الرسائل المطلوب نشرها يأتى بها رئيس التحرير فى يديه، ومن النادر جدًا أن تجد باحثًا تقدم بطلب مكتوب للنشر، وإنما الأمر كله يعتمد على العلاقة شخصية بين المؤلف ورئيس التحرير.
أما مركز «تحقيق التراث» فتعد عملية النشر فيه منضبطة إلى حد ما، مقارنة بما هو متبع فى مركز «تاريخ مصر المعاصر»، خاصة مع اعتماده على التحقيق، إما تحقيق مخطوطات أو كتب تراثية، إلى جانب إصدار مجلة «تراثيات»، وهى منتظمة إلى حد ما.
ومن الملاحظات المهمة الدالة على انضباط عملية النشر فى مركز «تحقيق التراث»، وجود عقود خاصة للنشر فيه- تم إلغاؤها منذ شهور قليلة- بعائد مادى يبلغ حوالى ٣٠٠ أو ٣٥٠ جنيهًا للملزمة، التى يقدر عدد أوراقها بـ١٦ ورقة، ودون حد أقصى. وبالنظر إلى أن حجم كتب التراث كبير، يكون المردود المادى للباحث المحقق مناسبًا إلى حد كبير.
وإن كان يؤخذ على آلية النشر فى مركز «تحقيق التراث» اقتطاع الأستاذ المشرف ٢٠٪ من مكافأة الباحث لنفسه، ويظل هذا الوضع أفضل بكثير مما هو متبع فى مركز «تاريخ مصر المعاصر»، الذى يتبع أسلوبًا لا مثيل له فى المكافأة، فكتاب التأليف غير الكتاب المحقق غير المعتمد على جمع مقالات غير الصادر عن ندوة، فلكل منهم «حسبته»، وله حد أقصى لا يزيد فى كل الأحوال على ٣٠٠٠ جنيه قبل الخصومات!
وبالانتقال إلى مركز «بحوث أدب الطفل» لا يمكن القول إنه مركز علمى حقيقى، فطبيعته تركز على أنشطة ثقافية وترفيهية للأطفال أكثر من العمل العلمى، وإن كانت به مجلة مُحكمة تنشر بحوثًا لبعض المتخصصين، إلى جانب إقامة بعض الندوات. كذلك لا يمكن القول إن «الترميم» مركز علمى، فطبيعته تركز على العمل الفنى فى ترميم الكتب والوثائق والمخطوطات، وتصدر عنه مجلة علمية محكمة، صدر منها عدد واحد فقط.
ويقتصر كل دور مركز «الحاسب الآلى والببليوجرافيا» على إصدار قوائم «ببليوجرافية» بالكتب التى تصدر عن الهيئة أو غيرها. ورغم أن مركز «التدريب» يفترض أنه تابع لرئيس مجلس الإدارة، وفقًا لقانون الخدمة المدنية، لا يقوم بأى نشاط بحثى أو علمى، ولا يصدر عنه إنتاج علمى، وإنما يعقد فقط دورات تدريبية متنوعة للعاملين.
وبالتالى، فإن قطاع المراكز العلمية فى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية فى حاجة إلى إعادة هيكلة أولًا، ثم تطوير، مع ضرورة توضيح الخطوط الفاصلة بين ما هو طبيعة عمله، العمل العلمى أو البحثى، وغيرهما.
إهدار آلاف الجنيهات على كتاب محتواه من الإنترنت
على هذا النحو السابق المشار إليه، لا توجد سياسة نشر واضحة ومحددة، ولا خطة استراتيجية معلنة أو سرية، فى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، والأمر مطلق الحرية للجان العلمية، ولرئيس مجلس الإدارة، ولمن يسمى بـ«مسئول النشر» فى الهيئة.
وحتى على مستوى المراكز العلمية لا توجد خطة لصناعة النشر، بل إنه عندما يُطلب من إدارة ما موافاتهم بخطة النشر يعد مدير عام المركز قائمة بالمشروعات العلمية «عناوين الكتب»، التى يعمل عليها الباحثون أو بصدد إصدارها من المطبعة، ويسميها «خطة النشر».
وإذا وافقت اللجنة العلمية على أى عنوان، يُنشر بغض النظر عن مضمونه، ودون خضوعه لمراجعة اللجنة العلمية، مقابل الاكتفاء بموافقة الأستاذ المشرف على الكتاب. ويتم التسجيل فى محضر اجتماع اللجنة بأن الكتاب كذا تم الانتهاء منه، وتوافق اللجنة على طباعته، من منطلق أنه «لا يصح للأساتذة أن يراجعوا وراء أستاذ زميل لهم»!
لكن هذا الإهمال كانت له نتائج كارثية، آخرها كارثة علمية مدوية لكتاب عنوانه «وثائق الاتحاد الإفريقى»، لصاحبيه الدكتور السيد فليفل والدكتور على متولى، والأخير هو أستاذ مساعد فى كلية الآداب بجامعة السويس باحث سابق فى المركز.
هذا الكتاب وافقت اللجنة العلمية على نشره، وظل العمل فيه أكثر من ٥ سنوات، حصل بموجبها الدكتور السيد فليفل على مكافآت شهرية من المركز، وحصل الباحث الآخر على مرتب- أثناء عمله فى المركز- وسيحصل كلاهما على مكافأة إصدار الكتاب ونسخ منه!
لكن فى النسخة الأخيرة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، انكشف أن الوثائق الواردة فى الكتاب جميعها مُتاح مجانًا على الإنترنت، بما يعنى إهدار آلاف الجنيهات بين تكلفة إنتاج وصناعة الكتاب والمكافآت، بينما يمكن فى جزء من الثانية تحميل أى من محتوى الكتاب بشكل مجانى من الشبكة العنكبوتية، وهو ما وصل بالفعل إلى رئيس مجلس الإدارة، دون اتخاذ أى إجراء.
كيف يمكن حل أزمات النشر فى أقدم مكتبة عربية؟
١- يتولى مسئولية النشر فى الهيئة باحث متمكن يحمل درجة «الدكتوراه»، يجمع بين التأهيل العلمى الأكاديمى، وسابقة عمله العلمى، وله إصدارات، مع أولوية لمن يحمل التأهيل المناسب فى دراسة إدارة الأعمال، بحيث يجمع بين العمل الأكاديمى والعلمى الوظيفى وإدارة الأعمال، إلى جانب معرفته بآليات الدراسات والصناعات الثقافية. ويمكن لمن يحمل هذه الإمكانات وضع استراتيجية لصناعة النشر، وخطط وبرامج تنفيذية وأهداف قابلة للقياس، وفى الوقت نفسه لديه الدراية العلمية عما يُنشر. اختيار هذا الشخص يمكن أن يكون عبر إعلان داخلى مفتوح وشفاف بين العاملين والباحثين فى الهيئة، ويتقدّم كلُّ منهم بمؤهلاته ورؤيته.
٢- إعادة هيكلة اللجان العلمية، فهناك من مرّ على عضويته فى اللجان أكثر من ٢٠ عامًا. ولا تشمل إعادة الهيكلة تغيير أعضاء وإضافة آخرين فقط، وإنما على المستوى النوعى أيضًا، بحيث تضم اللجان العلمية تخصصات بينية.
٣- تشكيل لجان مُحكمين من الخارج، بحيث لا تستحوذ اللجان العلمية وأعضاؤها على الأعمال العلمية استحواذًا احتكاريًا، وإنما يراجع المحكمون الأعمال التى ترد إليهم منزوعة من أسماء أصحابها ومشرفيها.
٤- تضع اللجان العلمية الداخلية ولجان التحكيم الخارجية خططًا خمسية بعناوين وموضوعات بحثية جديدة ومتنوعة ذات جدوى علمية واجتماعية واقتصادية، مع تنفيذ الأعمال العلمية وفق جداول وبرامج وخطط زمنية معينة يشرف عليها مسئول النشر.
٥- تنفيذ الموضوعات العلمية والمطلوب نشرها، جنبًا إلى جنب مع الاقتراحات الجديدة التى يتقدّم بها باحثو المراكز العلمية وتتم الموافقة عليها.
٦- إعادة هيكلة أسر تحرير السلاسل والمجلات العلمية الصادرة عن الهيئة، وإضافة مطبوعات جديدة مواكبة للقارئ ومستجدات العمل العلمى النوعى لكل مركز.
٧- وضع لائحة مالية خاصة بالنشر لا تميز بين الباحثين، وإنما تكون لائحة موحدة تشمل جميع أنواع الأعمال العلمية.