شعر العامية فى مصر بين النهوض والردة الفنية

- فى الثمانينيات والتسعينيات شهد شعر العامية المصرى نقلة نوعية غيرت ملامحه إلى حد بعيد
- شعراء الثمانينيات والتسعينيات والجيل الذهبى للعامية المصرية.. فتحوا آفاق القصيدة العامية لرؤية الإنسان فى - علاقته بالدنيا.. فأعادتها الأجيال الجديدة إلى الزجل وشعارات «الاستقلال التام» و«مطالبة السادات بدخول الحرب»
شعر العامية المصرى لم يكن يومًا مجرد لهجة بسيطة تحاكى الشارع، بل كان مرآة لوجدان الشعب، وصوتًا صادقًا يعبر عن همومه وأحلامه، من بيرم التونسى وفؤاد حداد وصلاح جاهين، إلى عبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود، وغيرهم. ثم فتح آفاقًا جديدة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت، عبر أصوات عديدة خاضت مغامرة التجريب خارج عباءة الآباء وسلطة ميراث الشاعر المنشد والشاعر النبى، وعلى الرغم من ظهور بعض أصوات قليلة مبشرة مع مطلع الألفية الجديدة، غير أنه فى السنوات الأخيرة يواجه تساؤلات حقيقية: هل يعيش شعر العامية حالة ردة فنية؟ وإن صح ذلك، فما هى الأسباب الكامنة وراءها؟

يمكن ملاحظة بعض المؤشرات التى يراها البعض دليلًا على التراجع:
انخفاض فى عدد الأصوات المؤثرة والجديدة التى تملك مشروعًا فنيًا واضحًا وخصوصية لغوية وجمالية.
ابتعاد المنصات الإعلامية والثقافية عن تسليط الضوء على شعر العامية، مقابل اهتمام أكبر بأنواع أخرى من المحتوى الفنى السريع.
تفشى لغة الإفيه والانفعال السطحى فى كثير من النصوص الحديثة على حساب العمق والرؤية.
تراجع دور المؤسسات الثقافية فى دعم شعراء العامية الجدد، مقارنة بما كان يحدث فى فترات مثل السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات.
لكن هل هو تراجع حقيقى؟
رغم هذه المؤشرات، لا يمكن القول إن شعر العامية فى مصر قد خفت أو تلاشى. فهناك تجارب شبابية لافتة تظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعى، وفى بعض الندوات المستقلة، لكنها غالبًا تفتقر إلى الاحتضان المؤسسى والنقدى، الذى يمكن أن ينقلها من الهامش إلى المتن.

الأسباب المحتملة للردة الفنية
سطوة السوق ومنطق المنصة: حيث يُفضل المحتوى السريع والمبهر على العمل الفنى العميق.
تفكك المشروع القومى الثقافى: لم يعد هناك حلم أو رؤية كبرى تجمع الشعراء أو تحفزهم.
غياب الحوار بين الأجيال: لم يعد هناك تواصل حقيقى بين الشعراء المخضرمين والشباب، ما أدى إلى فقدان التراكم والخبرة.
شعر العامية فى مصر يمر بلحظة حرجة، لكنه لم ينتهِ. ما زال يمتلك الروح، لكنه بحاجة إلى دعم ورؤية واحتضان حقيقى، سواء من الدولة أو من المبادرات المستقلة. الردة ليست قدرًا محتومًا، بل جرس إنذار يمكن أن يُطلق شرارة بعث جديدة، كما حدث أكثر من مرة فى تاريخه.
من الشفاهة إلى التدوين: انتقال أحدث زلزالًا جماليًا
فى الثمانينيات والتسعينيات، شهد شعر العامية المصرى نقلة نوعية غيرت ملامحه إلى حد بعيد. فقد انتقل من الاعتماد على جماليات الشفاهة- حيث الأداء الصوتى، والمباشرة، والإيقاع الغنائى— إلى جماليات التدوين، التى تعمّقت فى البنية، والانزياح، والتركيب، وصار النص يُقرأ لا يُلقى فقط، ويُستقبل كأدب مكتوب لا كأداء مسموع. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير شكلى، بل إزاحة لمقومات البلاغة التقليدية، التى سادت لعقود، وإحلال جماليات جديدة مكانها، تستند إلى اللغة المجازية المفتوحة، والرمزية، والتكثيف، والحس الوجودى أحيانًا.
هناك بعض شعراء، أعادوا تعريف العامية بوصفها لغة قادرة على حمل التأمل الفلسفى، والقلق الوجودى، والسخرية المرة، والتجريب الفنى. خرجت القصيدة من جلد الخطابة والمباشرة، ودخلت فى فضاء إنسانى أكثر رحابة، حيث الذات المتشظية، والمدينة الغريبة، والحب المعطوب، والزمن المتآكل.
وربما هذا التحول الكبير هو ما أدى لاحقًا إلى ارتباك لدى الأجيال التالية: هل يجب العودة إلى الشفاهة بحثًا عن جمهور؟ أم المضى قدمًا فى التجريب رغم صعوبة التلقى؟ وهو سؤال ما زال مطروحًا بقوة حتى الآن.
حفلات الشعر: بين الشعبية وابتذال الذائقة
فى مطلع الألفينات، بدأ نمط جديد يفرض نفسه على المشهد الشعرى العامّى: حفلات الشعر. وهى لقاءات تُنظم فى المقاهى أو المراكز الثقافية أو حتى قاعات الحفلات، لقاء تذكرة يتقاسم عائدها كل من الشاعر وصاحب القاعة، حفلات يُلقى فيها الشعراء قصائدهم وسط تصفيق وهتافات الجمهور، أحيانًا على وقع الموسيقى، وأحيانًا بطريقة أقرب إلى الـ«ستاند أب».
ورغم أن هذه الحفلات أسهمت فى إعادة الجماهير إلى الشعر، إلا أن لها جانبًا آخر أقل بريقًا: إذ دُفعت القصيدة أحيانًا إلى التخلى عن تعقيدها وجمالياتها الجديدة لصالح الإفيه، والإثارة السريعة، واللعب على ذائقة اللحظة. صار بعض الشعراء يكتبون لا لتأمل العالم، بل لإثارة الضحك أو الصدمة أو التصفيق، ما سطّح القصيدة وحوّلها إلى منتج ترفيهى أكثر منه عملًا أدبيًا.
الجوائز والتربح: الشعر كفرصة لا كنداء داخلى
فى العقدين الأخيرين، ظهر عدد من الجوائز والمسابقات المخصصة لشعر العامية، بعضها برعاية مؤسسات رسمية، وأخرى بتنظيم كيانات خاصة. ورغم أن الجوائز قد تُشجع على الكتابة، فإن كثرتها وتحولها إلى باب للتكسب دفع البعض إلى تعامل نفعى مع القصيدة، حيث تُكتب النصوص لمجاراة شروط لجنة التحكيم لا بحثًا عن صدق التجربة.
إلى جانب ذلك، ظهرت دور نشر تُعنى فقط بشعر العامية، لا بوصفه فنًا، بل كفرصة سوقية. هذه الدور تُصدر عشرات الدواوين سنويًا دون تدقيق حقيقى، أو اختيار فنى، ما خلق تراكمًا كميًا يفتقر غالبًا إلى الجودة، وأسهم فى تشويش الذائقة العامة، وتراجع مكانة القصيدة الجيدة وسط طوفان من النصوص السطحية أو المكررة.
وبعد، ليس الغرض من هذا المقال إعلان غياب شعر العامية، بل دعوة لتأمله بصدق، وإعادة طرح الأسئلة الصعبة حول مساره ومصيره. فكل موجة تراجع يمكن أن تتحول إلى لحظة وعى، وكل خفوت قد يُمهّد لصعود جديد، شرط أن نتحرر من الحسابات السطحية، ونعود إلى جوهر الشعر: أن نقول ما لا يُقال، ونرى ما لا يُرى، ونتكلم بلسان الحياة الداخلية للناس.
إن شعر العامية فى مصر لا يحتاج إلى مزيد من الجوائز، ولا حفلات صاخبة، ولا دور نشر متعجلة، بل يحتاج إلى مشاريع فنية جادة، ونقد حقيقى، وتراكم معرفى، وجرأة على التجريب، دون أن يفقد جذوره فى الوجدان الشعبى.
فهل نملك شجاعة العودة إلى القصيدة لا كأداة شهرة وتربح؟