رجال.. ونساء.. وآلهة.. قصة الكتاب الممنوع من النشرعن نوال السعداوى

- كانت هناك جهة رقابية لها تحفظات على الكتاب برمته
- الكتاب تم منعه وكذلك تمت سرقته بشكل ما وتشويهه تمامًا
فى مطلع القرن الحالى، قرر الناقد والأستاذ الجامعى المرموق الدكتور جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، أن يترجم كل ما كتبه النقاد والباحثون والأدباء الأجانب والعرب الذين يكتبون باللغات الأجنبية الحيّة والفاعلة عن مصر، وفى ذلك السياق جاءت كتابات كثير من المستشرقين الأجانب، وعلى رأسهم المستشرق روجر آلان الذى كتب كتابة عظيمة عن رواية «حديث عيسى بن هشّام»، وكتب مقدمة نقدية ضافية عنها، ونشرت فى المجلس آنذاك، كما ترجمت الكاتبة والروائية سحر توفيق كتاب «بلد الحبايب» للناقدة الأمريكية مارلين بوث، وهو كتاب فى غاية الأهمية عن بيرم التونسى، وأعتبر أن ذلك الكتاب أهم ما كتب عن بيرم، للدقة والإحاطة شبه الكاملة بكل الملابسات التى أحاطت بحياة بيرم الشائكة، وملابسات كتاباته الموزعة بين الزجل والمقامات والكتابات الصحفية والفكرية.

باختصار كان هناك حلم كبير يسير على قدمين بقيادة جابر عصفور، رحمه الله، وهو «أن نعرف وندرك ونستوعب كل ما كتبه الآخر المتعدد عن الذات المصرية والعربية»، وذلك فى الأدب والسياسة والفكر والدين والفنون الشعبية وهكذا، حلم طموح وجامح، كنت أرى الدكتور جابر يحلق فى سماواته العالية كعصفور حقيقى، وليس اسمًا فقط، ولكن ذلك الحلم كانت تعوقه أشياء كثيرة، على رأس تلك المعوقات، تلك المتاريس الرجعية والمتطرفة التى عطلت كثيرًا من الكتب فى الشعر والرواية والفكر، وكان الدكتور جابر لا يتصدى لتلك المعوقات كأمين عام للمجلس فقط، ولكنه كان يستثمر علمه ومنهجه وإدراكه فى الكتابة عن تلك الإبداعات التى دونها لكى ترقى ثقافتنا.
فى ذلك السياق، قام الدكتور جابر، بتكليف الدكتور فخرى لبيب بترجمة كتاب عن الدكتورة نوال السعداوى، وهو مترجم «رباعية الإسكندرية» للورانس داريل، وهى رواية ضخمة عن الإسكندرية المصرية، وكان الاختيار صادف أهله، لأن الدكتور فخرى لبيب كانت له وجهة نظر فى الترجمة، فهو كان يترجم ما يكتب عن مصر، وكذلك كان قريبًا من شخص الدكتورة نوال، وكذلك كان رفيق عمر زوجها الدكتور شريف حتاتة، وكانت قد جمعته بشريف حبسات قديمة فى عقدىّ الخمسينيات والستينيات، وكذلك ضمه مع الدكتورة نوال الاعتقال الذى حدث فى ٥ سبتمبر ١٩٨١ الشهير، والذى ضم رموزًا واسعة من كبار الكتّاب والمبدعين والمثقفين المصريين، أى أن الدكتورفخرى لبيب ستوفر له تلك العلاقات التاريخية بنوال وشريف أى معلومة فى الكتاب الذى سيقوم بترجمته، والكتاب كان للناقدة الأمريكية من أصل فلسطينى، فدوى مالطى دوجلاس، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا، وهى باحثة مرموقة للأدب العربى فى أمريكا، ولها عدد من المؤلفات عن الأدب والتراث العربيين، وقد ترجمت أغلب تلك المؤلفات المكتوبة باللغة الإنجليزية، إلى اللغة العربية، وأبرزها كتاب «بناء النص التراثى»، دراسات فى الأدب والتراجم، ونشرت ترجمته فى الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ سنوات خلت قبل أن تكتب كتابها المهم عن نوال السعداوى، وهو دراسة عميقة لفكر ونصوص السعداوى فى السرد الروائى، وكان عنوانه «رجال ونساء وآلهة»، ونشر فى طبعته الأولى فى مطبعة جامعة كاليفورنيا عام ١٩٩٥، فى الوقت الذى كانت الدكتورة نوال السعداوى تتعرض فيه لقصف رجعى متطرف من جهات عديدة، ويكفى أن تلك الجهات العديدة كانت تتربص بها يومًا بيوم، وخلف كل فكرة تصدر لها فى مقال أو كتاب، وهناك كتاب شهير صدر فى عام ١٩٩٣ عنوانه «المواجهة.. د نوال السعداوى فى قفص الاتهام»، والكتاب فيه الكثير من التسخيف والتكفير والتقزيم لكل ما أتت به السعداوى فى قضايا مثل: الختان، والجنس، والاختلاط، والزواج، والحجاب، وتعدد الأزواج، وخلاف ذلك من قضايا إشكالية، آثرت السعداوى أن تقول ما لم تستوعبه وتواجهه تلك العقليات الرجعية.

أنجز الدكتور فخرى الترجمة فيما يقترب من العام، وقام بتسليمه للمجلس الأعلى للثقافة، ولكن الكتاب وجد كثيرًا من المعوقات بين الدكتورة نوال التى كانت لها ملاحظات على بعض المفردات، وكذلك الدكتورة فدوى كانت متحفظة على لى عنق بعض المفردات، من ناحية ثالثة كانت هناك جهة رقابية لها تحفظات على الكتاب برمته، رغم الانتهاء من ترجمته كاملًا وبكل احترافية بتكليف رسمى من أعلى سلطة فى المجلس، وتحرير عقد بذلك، وحصول المترجم على مكافأته وحقوق الترجمة، أى أن الكتاب لم يكن منتظرًا سوى عملية الطباعة والنشر، لكنه دخل فى تلك الأضابير الرقابية، وكانت الكواليس غير واضحة، وحتى الدكتور فخرى لم يكن يعرف سوى أن جهة رقابية حاسمة اطلعت على الكتاب ورفضته شكلًا وموضوعًا، رفضت المكتوب، والمكتوب عنها أساسًا، ولم يستطع الدكتور بكل سلطاته الوظيفية والفكرية أن يقف فى وجه تلك الرقابة العاتية، وبالتالى تم منع نشر الكتاب دون قرار معلن، ولكنه كان ينتظر تسويفات كالعادة، ثم التجاهل التام.

وبعد تلك الوقائع بعدة شهور، هاتفتنى الدكتورة منى طلبة لكى تسألنى عن كتاب كان قد صدر عن الدكتورة نوال السعداوى، ومن تأليف الدكتورة فدوى مالطى دوجلاس، والكتاب قامت بترجمته الكاتبة سمر إبراهيم، ونشر عن دار المستقبل، وكان صاحبها رءوف سلامة موسى، وبالطبع لم أصدق الكلام، وتساءلت: «لو كان ذلك صحيحًا، فكيف تسرّب الكتاب إلى المعربة، وكيف سمحت الدار لنفسها بنشر الكتاب دون موافقة المؤلفة أصلًا، ودون الحصول على حقوق الترجمة من الناشر الأصلى؟»، لكننى لم أضيع الوقت بعد أن أخبرت الدكتور فخرى بهواجسى التى ترتبت على مكالمة الدكتورة منى، وفى اليوم التالى، ذهبت إلى الدار التى كان موقعها فى شارع الفجالة برمسيس، قبل أن تنتقل إلى الإسكندرية، وكنت أمنّى نفسى بألا يكون كل ما سمعته من الدكتورة منى صحيحًا، ولكن للأسف وجدت الكتاب فعلًا، تحت عنوان طويل، هو: «نوال السعداوى.. ومنظومة الحركة النسائية العربية.. رجال ونساء وآلهة»، وفوجئت بأن كُتب فى الصفحة الأولى من الكتاب بالبيان التالى: «ترجم بإذن خاص من المؤلفة ودار النشر، جميع الحقوق محفوظة للناشر»، الطبعة الأولى ٢٠٠٣!!!!، ولا أعرف هل ذلك الإذن الخاص الذى كتب على تلك الطبعة كان المقصود به المجلس، أم دار النشر؟، وهل جامعة كاليفورنيا سوف تعطى حقوق الترجمة لجهتين فى وقت واحد، أى المجلس، وكذلك دار المستقبل؟، وهل حدث أن الدكتورة فدوى قد اطلعت ووافقت بالفعل على تلك الترجمة؟، بالطبع كانت كل الملابسات مثيرة، خاصة عندما راجعت بعض فقرات الكتاب، فوجدت تشابهات كثيرة وبالنص بين الكتابين، فضلًا عن أن ترجمة دكتور فخرى كانت دقيقة وكاملة، وحاصلة على موافقة كل الجهات المعنية بالنشر، إلا جهة الرقيب المجهول، أو المتخفّى، إذن الكتاب تم منعه، وكذلك تمت سرقته بشكل ما، وتشويهه تمامًا.

سارعت بالكتابة عن تلك الواقعة فى جريدتى أخبار الأدب، والحياة، كان المقالان مجرد إبلاغ عن الواقعة، ورغم أن المقالين أثارا جدلًا آنذاك عند كثيرين، إلا أن كل أطراف الموضوع لم يكتب منهم أحد عن الواقعة، وتمت «الطرمخة» على الموضوع، وصار الأمر كأنه غامض عند كل الأطراف، وقبل أن يرحل الدكتور فخرى لبيب، كان الدكتور وحيد عبدالمجيد قد تولى منصب الإشراف على مركز الترجمة والنشر فى مؤسسة الأهرام، وكان على علم بأمر ذلك الكتاب، فطلبه لكى يكون من أوائل كتب المركز، ولكن الدكتور وحيد عبدالمجيد خطفه العمل السياسى المباشر فى البرلمان، وترك مركز الأهرام، وبالتالى لم ينشر الكتاب، ودخل مرة أخرى فى أضابير المجهول، ورحل الدكتور فخرى عام ٢٠١٦، وكان حزينًا لكل ما حدث للكتاب من كبوات، وكان قد أعطانى نسخة مصورة، وهى الآن فى حوزتى، وفى الحلقات المقبلة إن شاء الله، سوف أعرض لها بشكل تفصيلى، كما سأعرض للمحطات التى عاشتها الدكتورة نوال السعدواى، منذ بداياتها فى العمل الأدبى والفكرى العام.