الخميس 30 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سعادة محفوفة بالمخاطر.. قراءة جديدة من «هارفارد» لمشروع ثيودور أدورنو الفكرى

بيتر جوردون
بيتر جوردون

- كتابات أدورنو القاسية فى نقد اللا عقلانية السائدة مليئة بلمحات عن السعادة التى يمكن أن تتحقق

- الفيلسوف الأمريكى بيتر جوردون: جميع النظريات جزئية ولا حل سحرى لجميع مشكلاتنا

- الصورة النمطية المنتشرة على نطاق واسع لأدورنو باعتباره متشائمًا تمنعنا من فهم أعماله

قلة من المفكرين فى القرن العشرين قد رسّخوا صورةً للتشاؤم مشابهة لتلك التى ارتبطت بثيودور أدورنو؛ فتصوره للمجتمع الحديث، كما قد يظن البعض، هو تصور لليأس المطلق. وقد قال الزعيم الشهير لمدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية فى إحدى المناسبات: «كل صورة عن الإنسانية، غير الصورة السلبية، هى أيديولوجيا». ومع ذلك، فى كتابه «سعادة محفوفة بالمخاطر»، يجادل المؤرخ والمفكر من جامعة هارفارد بيتر جوردون بأن القراءات التى تصوّر أعمال أدورنو على أنها تشاؤمية بشكل مطلق هى قراءات خاطئة من الأساس؛ ويرجح أن مشروع أدورنو موجّه نحو تصور للسعادة والتقدم البشرى فى عالم محطم. بالتالى، رغم تأكيد أدورنو على مدى الدمار فى العالم، يمكن مع ذلك السعى نحو السعادة فيه، ومن هنا تأتى طبيعة تصور أدورنو للحياة الطيبة.

أجرت مجلة The nation حوارًا مطولًا مع مؤلف الكتاب حول تصور أدورنو للسعادة، وفكره النقدى وعلاقته بالماركسية. هنا جانب من الحوار يتحدث فيه جوردون عن أطروحة كتابه الرئيسية، ويفصّل ماضى مدرسة فرانكفورت الشهيرة وواقعها اليوم. 

■ قلة من الفلاسفة فى القرن العشرين يمكنهم أن ينافسوا سمعة أدورنو فى رؤيته للعالم الحديث بشكل متشائم تمامًا. كتابك يجادل بأن هذه الرؤية عنه خاطئة. ولكن قبل أن نناقش أسبابك، هل يمكنك أولًا أن تقول شيئًا عن السمات المميزة للنظرية النقدية كما تطورت فى معهد البحوث الاجتماعية؛ المدرسة الشهيرة للنظرية الاجتماعية الألمانية التى شارك أدورنو فى تأسيسها قبل أكثر من ١٠٠ عام؟ وكيف ارتبط هذا بالرؤية التقليدية التى تصور أدورنو فقط بصفته ناقدًا للمجتمعات الحديثة؟

- تأسس معهد البحوث الاجتماعية فى فرانكفورت عام ١٩٢٣، وفى سنواته الأولى تخصص بشكل أساسى فى أرشفة تاريخ الطبقة العاملة والمساهمة فى مشروع تحرير أعمال ماركس وإنجلز. ولم يصبح موطنًا لما نطلق عليه اليوم «النظرية النقدية» إلا فى أوائل الثلاثينيات عندما تولى ماكس هوركهايمر إدارته، لكنه ظل جامعًا للمثقفين، من بينهم فريدريك بولوك، هربرت ماركوزه، وطبعًا ثيودور أدورنو، وغيرهم.

كانت النظرية النقدية، ولا تزال، ممارسة متعددة ومتنوعة تتبنى كلًا من السوسيولوجيا والفلسفة، ولكنها لا تحمل حدودًا أيديولوجية صارمة. لقد تحوّلت بشكل دراماتيكى مع مرور الوقت، والنظرية النقدية مليئة بالعديد من الخلافات، بل وأحيانًا بخطوط من التصدعات الحقيقية.

إحدى العلامات المميزة للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت هى أنها دائمًا ما استلهمت من إرث المثالية الألمانية، من كانط وهيجل، ومن التحول المادى لهيجلية اليسار كما طورها ماركس. التوجه الأساسى للنظرية النقدية هو تطوير رؤية أفضل للأمراض البنيوية للمجتمع الحديث التى تسبب معاناة واسعة النطاق وتمنع ظهور مجتمع حر وعقلانى حقًا. إنها ممارسة نقد عقلانى موجهة بهدف تحررى. لكن النظرية النقدية اليوم لا ينبغى الدفاع عنها وكأنها عقيدة شاملة مغلقة أمام المناهج الأخرى. فهى اليوم أكثر بمثابة «أسلوب تفكير» من كونها نظرية ثابتة أو مكتملة.

■ تشير إلى أن جوانب التفسير الأكثر اعتيادية لأدورنو باعتباره متشائمًا ليست خاطئة تمامًا. فعند أى نقطة تحديدًا تقع القراءة الخاطئة لأدورنو؟

- أدورنو كان جزءًا من «الجيل الأول» من المفكرين النقديين الذين فروا من الفاشية الأوروبية فى الثلاثينيات. نجا معظمهم من الحرب، إلا أن فالتر بنيامين، (الذى كان مرتبطًا بالمعهد وكان يقيم بشكل أساسى فى باريس بعد عام ١٩٣٣)، توفى بشكل مأساوى أثناء سفره. ومع مرور الوقت، بدأنا نحن المهتمين بالجيل الأول فى إدراك تنوع آراء أفراده. ولا يزال أدورنو يثير الاهتمام بفضل توجهه الفلسفى المميز، خاصة كما طرحه فى عمله المتأخر «الديالكتيك السلبى»، الذى نُشر لأول مرة عام ١٩٦٦، أى قبل ثلاث سنوات من وفاته.

لقد أسهم العديد من الدارسين فى تفسير أعمال أدورنو، ولا أريد المبالغة فى حداثة افتراضاتى. غالبًا ما يُنظر إلى أدورنو على أنه متشائم كليًا، كرّس نقده فقط للبحث فى ما هو «سلبى» أو «غير عقلانى» فى المجتمع الحديث. 

لا تزال الصورة النمطية المنتشرة على نطاق واسع لأدورنو باعتباره متشائمًا تمنعنا من فهم أعماله. أعتقد أن هذه الصورة تظلم تعقيد تفكيره. حجتى هى أن أدورنو كان أكثر تعقيدًا أو، لاستخدام المصطلح الدقيق، ديالكتيكيًا، مما تسمح به القراءة التقليدية له. باعتباره منظرًا نقديًا، كان هدفه الكشف عن السلبيات، لكن مع توجه استباقى نحو الإمكانية غير المحققة للتطور البشرى.

كتاباته، رغم أنها غالبًا ما تكون قاتمة وقاسية فى نقدها اللا عقلانية السائدة فى الحاضر، فإنها مليئة بلمحات عن السعادة التى يمكن أن تتحقق. هذه التوقعات تبقى غير مؤكدة، لأننا فى عالم مدمر نرى من خلال ما يشبه الزجاج المعتم. ولكن، مفهوم «الخير غير المحقق» موجود ضمنًا فى نقد ما هو سيئ.

وفى رد على الفكرة الهيجيلية التى تقول إن مهمة الفلسفة هى فقط رسم رمادية العالم باللون الرمادى، أوضح أدورنو ذات مرة أن الوعى يدرك الرمادى أو السلبى لأن لديه تصورًا عن لون مختلف لا يغيب أثره المتناثر فى الكل السلبى.

ثيودور أدورنو

■ ما هى السمات الرئيسية لما تصفه بـ«سعادة محفوفة بالمخاطر» فى فكر أدورنو؟

- المثل الأعلى للسعادة أو تقدم الإنسان له جذوره فى الفلسفة الكلاسيكية؛ فى أفكار أفلاطون، وأرسطو، والرواقيين مثل سينيكا. فى فلسفة كانط، اكتسب هذا المثل أهمية مركزية، فقد كان يرى أنه يجب علينا أن نفترض تلاقيًا نهائيًا بين سلوكنا الفاضل وما نستحقه من جزاء. كان كانط يعتبر هذا التلاقى هو الخير الأسمى. وهذه الفكرة تعنى أن مطالب الأخلاق والتوقع الطبيعى للسعادة لا تتعارض من حيث المبدأ. بالطبع، كان كانط يعتقد أنه من أجل تصور هذا التلاقى، يجب افتراض وجود حياة ما بعد الموت.

فى الديالكتيك السلبى، يستند أدورنو إلى تفكير كانط، ولكنه يرفض تمامًا الاستنتاج القائل إن الخير الأسمى يكمن فيما وراء الحياة الفانية. كما يوضح، فإن جوهر فلسفة كانط هو «عدم القدرة على التفكير فى اليأس»، ولكن يمكن الحفاظ على مطلب السعادة دون اللجوء إلى فرضية كانط عن الأبدية. 

على العكس من ذلك، يقول أدورنو إنه يمكننا تأكيد فرضية السعادة إذا فقط «تسللت الميتافيزيقا إلى المادية». أجد هذا الاستنتاج مثيرًا للاهتمام. أدورنو واقعى بما يكفى فى نقده الاجتماعى ليعترف بأننا لا نملك تصورًا أكيدًا أو كاملًا عما قد تتكون منه سعادتنا. وجهة نظره الأساسية هى أنه فى عالم مدمر، فإن جميع مثُلنا أيضًا مدمرة؛ وهذا يعكس تردده الماركسى فى ملء أى صور عن اليوتوبيا. لهذا السبب، فإن جميع التلميحات الحالية عن السعادة هى كما يقول محفوفة بالمخاطر، ومتشابكة مع اليأس.

■ احتفلت مدرسة فرانكفورت بمرور ١٠٠ عام على تأسيسها العام الماضى. قد يتساءل البعض عن مدى صلتها بقضايا اليوم، هل لديها ما تقوله عن النيوليبرالية، والحروب المستمرة، وما إلى ذلك، أو مَن هم جيل الباحثين الحاليين المتأثرين بمدرسة فرانكفورت؟ 

- تُعتبر فكرة «الصلة بقضايا اليوم» مزعجة للغاية بالنسبة لى. أحد أسوأ الأمور التى يمكن أن نمارسها تجاه أى نظرية هى أن نعرضها أمام مشكلات زمننا الحالى، ونستنتج أنه إذا لم توفر إجابة شافية لكل هذه التحديات، فهى لم تعد ملائمة ويجب التخلص منها. هذه الممارسة، رغم أنها شائعة بين المؤرخين الفكريين، تظل نزعة تاريخية يجب أن نقاومها. 

يذكرنى ذلك بالتشكيك فى الماركسية، إذ يُقال إن ماركس كان مفكرًا من القرن التاسع عشر ولا علاقة له بمشكلات العصر الحديث. الحقيقة أن جميع النظريات تقدم رؤى جزئية وغير مكتملة، ولا توجد نظرية واحدة قادرة على الإجابة عن كل القضايا. إذا كنا نسعى إلى حلول شاملة، قد نجد ذلك فى الدين (وكانت هناك اتهامات فى فترة الحرب الباردة تقول إن الماركسية كانت دينًا علمانيًا، لأنها لا يمكن دحضها وتقدم إجابة لكل شىء). عندما نقر بأن أى نظرية لا يمكن أن تكون حلاً سحريًا لجميع مشكلاتنا، نصبح أكثر قدرة على التفكير بحرية دون الانصياع لعقيدة واحدة.

من مزايا النظرية النقدية فى الوقت الراهن أنها ليست محصورة فى دائرة مغلقة، ففكرة «مدرسة فرانكفورت» قد تكون مغلوطة هنا. هى أكثر من مجرد موقف فكرى: فهى تعزز من انفتاحنا على التناقضات وتسمح بتطوير رؤانا وفقًا للظروف المتغيرة. عملية التعلم والتكيف مع التغيرات هى جزء جوهرى من النظرية نفسها.

أضيف هنا أن المدير الحالى لمعهد فرانكفورت هو ستيفان ليسينيش، وهو عالم اجتماع ويُضفى على المعهد تركيزًا أكبر على البحث التجريبى. والآن أصبح من الواضح إلى حد ما أن أدورنو نفسه لم يكن يتمتع بموهبة كبيرة فى التفكير بالتفصيل فى المسائل الرسمية المتعلقة بالسياسة أو الاقتصاد، بل كانت قوته تكمن فى مجالات أخرى. 

رغم ذلك، لا أتوقع من أى مفكر أن يقدم حلولًا شاملة لجميع القضايا التى تشغلنا اليوم. لذا، أرفض فكرة أن النظرية النقدية فى أزمة؛ هذا مبالغة. ولكن من ناحية أخرى، أخشى أن يكون التفكير النقدى بشكل عام مهددًا الآن، بسبب الاتجاهات السائدة فى المجتمع، سواء كانت اقتصادية، هيكلية، أو ثقافية. أرى أن النقاشات الفكرية اليوم قد أصبحت مفرطة فى الصراع والمهاترة، بدلًا من التأمل العميق.