رسالة إلى السباعى «الصغير» نحن زملاء أبيك.. فلا تشتم أمهاتنا
شرف الصحافة على مذبح الجنازات

- قصة تصوير الجنازات صارت مطية لمن يريد استعراض بذاءته ضد مهنة عظيمة «خيرها على الكل»
- لو نظر زوج الممثلة إلى ألبومه العائلى ما تجرأ على سب الصحفيين
- الصحفى مدحت السباعى حقق فى مقتل عمر خورشيد ونشر صورًا خاصة من جنازته فهل يجرؤ الابن على شتم أبيه؟
- حاملو التليفونات «أم كاميرا» أعطوا الحق لمن لا يسوى فى إهانة الصحافة وكأنها تخترع العجلة
يبدو أن شهر أبريل لم يعد معروفًا فقط بكذبته الشهيرة، بل صار مقترنًا أيضًا بالهجمة الشرسة على الصحافة والصحفيين من بوابة مفتوحة لا ولن تنغلق أبدًا، وهى بوابة موت المشاهير وكيفية تعامل الصحافة مع جنازاتهم أو أيامهم الأخيرة، حيث اعتدنا كل مرة على ظهور بعض المزايدين الذين يحاولون استغلال أخطاء الصغار من حاملى الموبايلات «أم كاميرا» وأصحاب الصفحات المدرة للدولارات، لكى ينقضوا على مهنة شريفة تحيط أعناق هؤلاء المشاهير بالأفضال التى تستحق الشكر لا النكران، وآخرهم زوج ممثلة- لا أتذكر اسمه- أخذ صورًا مقتطعة من الجنازة أغلبها لهؤلاء الصغار أثناء سباقهم المحموم تجاه الترند الدولارى فى جنازة الفنان الطيب سليمان عيد، وكتب عليها لفظًا جارحًا يمس شرف أمهات الصحفيين، وهى لفتة شجاعة منه بالطبع تحمل طابعًا نضاليًا قويًا من خلف الكيبورد التاتش الذى يتزين به تليفونه الحديث، والذى يتفوق بالتأكيد عما يملكه هؤلاء الشباب المساكين حاملو الموبايلات الرخيصة «أم كاميرا»، واستكمالًا للنضال العائلى فقد دخلت الممثلة نفسها التى هو زوجها لتعلق على شتمته البذيئة بتعليق نضالى جميل يقول «قلة أدب وقلة رباية».. تقصد المصورين المشتومين بالطبع ولا تقصد زوجها الشاتم حتى لا يذهب عقلك بعيدًا. وهو ما يجعلنا نترحم على جده الوحش فريد شوقى وجدته الأيقونة هدى سلطان وعلى أمه المنتجة العظيمة ناهد فريد شوقى وعلى أبيه وعلى كل الأحِبّة على قلوبنا من عائلته.

فى البداية دعونا نرسخ أولًا لمبدأ عام بسؤال مؤسس: هل أنا مع ما يحدث من تجاوزات تفتقد للكياسة والحكمة من بعض الصغار حملة الموبايلات فى سباقهم المحموم تجاه الترند؟
الإجابة بالطبع لا، وألف لا.. نفى واضح وصريح وقاطع بل امتعاض من بعض السلوكيات الغريبة والشاذة التى لا تراعى حرمة ميت ولا انكسار قلب أهل؟

ستقول لى إذن ما المشكلة.. فأنت تقف على جبهة واحدة من رفض تلك السلوكيات المشينة وتتفق مع رأى زوج الممثلة هذا الذى لا تتذكر اسمه؟

الحقيقة أن هناك مشكلة فعلًا، وهى أننى بينما أرفض سلوكيات حاملى الموبايلات فأنا فى الوقت ذاته أدرك وأؤكد على أهمية وجود الصحافة والإعلام وعدسات المصورين الجادين فى توثيق موت المشاهير كما وجدت فى حيواتهم وكانت ضرورية، لأن موتهم هو الجزء الأخير من تاريخهم الشخصى وإتمام لصورتهم الكاملة فى كتاب التاريخ سواء الفنى أو السياسى أو الأدبى على حسب المجال الذى اكتسب فيه الميت شهرته.

وعلى الرغم من ذلك لا أستطيع أن أنكر أرضية مشتركة تجمعنى مع زوج الممثلة فى جبهة واحدة كان يجب أن تكون جبهة دفاع عن الصحافة ورسالتها السامية. تلك الأرضية عنوانها صحفى مهم نشط امتلأت صفحات مجلة «صباح الخير» العريقة فى السبعينيات والثمانينيات بكتاباته الواعية وتحقيقاته الجريئة اسمه مدحت السباعى، الذى صار بعد ذلك المخرج والمؤلف مدحت السباعى وصاحب الأعمال السينمائية والتليفزيونية.. وللمفارقة هذا الصحفى المهم هو نفسه والد زوج الممثلة الذى عمم شتمته الخائضة فى عرض أمهات الصحفيين المحيطين بجثمان الراحل الطيب سليمان عيد.

وللعجب أننى أمتلك تحقيقًا بالغ الثراء والجمال كتبه مدحت السباعى نفسه بعنوان «وداعًا ملك الجيتار.. هل قتل عمر خورشيد؟».. يبحث فيه وينقب مدحت بروح الصحفى وراء موت خورشيد الغامض، وامتلأ الموضوع بصور بالغة الخصوصية من جنازة عمر خورشيد يبكى فيها الأصدقاء والعائلة خلف جثمانه المسجى داخل الصندوق الخشبى الذى يشبه صندوق الراحل سليمان عيد تمامًا، ولا أعتقد أن أحدهم حينها قد قذف مدحت السباعى وأطلق عليه نباشًا للقبور مثلًا أو شتمه بأمه مثلما فعل زوج الممثلة وابن الصحفى.

قبل عام تقريبًا وفى شهر أبريل أيضًا أثيرت كالعادة نفس القضية فى جنازة عمنا صلاح السعدنى، الفنان العملاق الذى أثقل كاهل وجداننا بعظيم الأثر وجزيل العطايا، وقد حدث حينها انفعال مفهوم من ابنه الفنان الموهوب المثقف أحمد السعدنى على بعض حاملى الكاميرات، ما دفع نقابة المهن التمثيلية للدخول على خط الهجوم على الصحافة والوقوع غير الواعى فى التعميم المخل، الذى يضع الصحافة الجادة المؤرخة بجوار غث السوشيال ميديا الذى احترف صانعوه فى الركوب على أكتاف الصحافة والاختباء داخل عباءتها لتحقيق مآربهم الشخصية. حينها وبعد أن تفجرت القضية بدا أننا أمام مفترق طرق يدعو إلى تظافر الجميع للخروج من تلك الدائرة المفرغة، عبر وضع معايير وأسس واضحة لتغطية الجنازات أو اللحظات الأخيرة فى حياة الفنانين والمشاهير على وجه الأرض قبل أن يواريهم التراب، وقد تلقف الدكتور محمد الباز الخيط هنا فى ملحق «حرف» فى عدده ٢٣ أبريل ٢٠٢٤ عبر مقال بالغ العمق والثراء- لمن يريد أن يفهم- وعنوانه «دروس الأستاذ هيكل فى تغطية الجنازات»، وأكد فيه ما هو مؤكد بالفعل من أن مَن يقومون بالفوضى فى الجنازات والعزاءات ليسوا مندوبى الصحافة وأكثرهم أصحاب صفحات على «فيسبوك» تبحث عن الدولارات، لكن الأهم الذى فعله الباز فى مقاله، الذى أتمنى الرجوع له، أنه أرّخ لمواقف كبار الصحفيين الذين لا يشوب ضميرهم المهنى شائبة وعلى رأسهم محمد حسنين هيكل «بجلالة قدره»، وكشف كيف تعامل هؤلاء الأكابر مع مواقف موت المشاهير، والتى لولا تعاملهم الواعى لما استطعنا أن نشارك السابقين دموعهم وأحزانهم التى رصدتها أهم عدسات كبار المصورين عظيمى الشأن فى جنازات عبدالناصر وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم ونجيب الريحانى ورشدى أباظة وغيرهم.

وبالتأكيد الصورة العظيمة لأحد هؤلاء كانت ستظل منقوصة إن لم تكتمل باللقطات بالغة الإنسانية لوداع الأحبة لهم.
ولتدرك الأمر أكثر تعال نتخيل أن أم كلثوم ماتت فرفض رئيس تحرير الأهرام أن يرسل كتيبة مصرية لتغطية الحدث، على اعتبار أن ذلك تعدٍ على لحظات خاصة ولنترك الأسرة تعيش أحزانها دون أن نقتحم عليها خلوتها بفلاشات الكاميرات، وفعل ذلك باقى أولى الأمر فى الصحف والمجلات، بدافع إنسانى جميل وشعارات حق يراد بها باطل من قبيل أن للموت حرمة وغيرها، ومثلها يفعل التليفزيون ويمسك على كاميراته من الذهاب وراء النعش لأنه «عيب وميصحش»، بالتأكيد لو تم ذلك السيناريو الخيالى لكانت ستصبح جريمة فى حقنا وكانت صورة كوكب الشرق حينها ستظل منقوصة لدينا نحن الأجيال تعيسة الحظ التى لم تعاصر معجزة الست.. وهذا القياس ينسحب على كل المشاهير.

ولكى لا نعيد الكلام ونزيد الثرثرة حول الحلول المقترحة والمبادئ العامة التى ذكرت فى مقال الباز، فيكفى فقط أن نسترجع معًا التقليب فى بعض الصور الخاصة التى اقتنصها المصورون بعدساتهم فى جنازات مختلفة عبر عقود عدة علها تذكرنا أن هناك فرقًا بين الغث والنفيس، وبالمناسبة ستجد من ضمنها صورًا من جنازة عمر خورشيد تشهد انهيارًا تامًا لأخته شيريهان وباقى عائلته فى وداع النعش.. نُشر بعضها ضمن تحقيق الزميل الصحفى مدحت السباعى عن مقتل عمر خورشيد بداية الثمانينيات.
