ثــورة الترجمة بالـ«AI».. إعلان دار نشر كبرى عن ترجمة الأدب آليًا يثير القلق
- الترجمة الرديئة يمكن أن تدمر رواية أو مجموعة قصائد
- الذكاء الاصطناعى يساعد البشر فى توسيع نطاق الوصول إلى الأدب والثقافة العالمية
جدل كبير تصاعد بالآونة الأخيرة بين الكُتاب والمترجمين على خلفية إعلان دار نشر «فين بوش آند كيونينج»؛ أكبر ناشر فى هولندا؛ عن عزمها تجربة استخدام الذكاء الاصطناعى فى ترجمة عدد محدود من عناوين الأدب التجارى.
بالتزامن مع هذا الإعلان الذى أثار حفيظة المترجمين ومخاوفهم، كانت شركة «هاربر كولينز»، وهى واحدة من أكبر دور النشر فى العالم، قد طلبت من المؤلفين إذنًا لاستخدام «بعض عناوين الكتب غير الخيالية» لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعى لمجموعة «مايكروسوفت».
ما بين هذا وذاك، وفى ظل التطورات الكبيرة التى تشهدها نماذج الترجمة الآلية باستخدام الذكاء الاصطناعى، نما خوف واسع النطاق من أن هذه النماذج قد تجعل المؤلفين والمترجمين فى المستقبل جزءًا من الماضى. رأى البعض أن هذا التطور يمثل بداية النهاية للمترجمين البشريين، بينما اعتبره آخرون فتحًا لعالم جديد من الفرص، يتيح تقديم الأدب لعدد أكبر من الناس.
ومع تسارع وتيرة تطور الذكاء الاصطناعى، تزداد هذه الجدالات وضوحًا وحدّة. وفى هذا السياق، نُشِر مقالان يناقشان القضية ذاتها؛ الأول للكاتبة نيلانجانا روى فى صحيفة «فاينانشيال تايمز»، والثانى للكاتب آندى ميا فى موقع «ذا كونفرسيشن».
تهديد للإبداع البشرى
سلّطت الكاتبة نيلانجانا روى فى مقالها الضوء على التهديدات الحقيقية التى يحملها التطور فى الذكاء الاصطناعى على مجال الترجمة الأدبية تحديدًا، فأشارت إلى أنه فى يناير ٢٠٢٤، أجرت «جمعية المؤلفين» استبيانًا، طلبت فيه من الأعضاء آراءهم حول تأثير الذكاء الاصطناعى التوليدى على الوظائف الإبداعية، وعكست نتائج الاستبيان تهديد الترجمات الآلية لهم، فقد قال أكثر من ثلث المترجمين (٣٧٪) إنهم جربوا الذكاء الاصطناعى التوليدى، وفقد ٣٦٪ منهم وظائف بسبب الذكاء الاصطناعى التوليدى، واعتقد ٧٧٪ أن الترجمة الآلية ستؤثر سلبًا على دخلهم.
قالت روى: أنا شخصيًا أُفضل الترجمات البشرية بشدة، لكن متحمسى الذكاء الاصطناعى يجادلون بأن ليست كل الترجمات البشرية استثنائية، وأن الترجمة الرديئة يمكن أن تدمر رواية أو مجموعة قصائد. الترجمة البشرية تتطلب وقتًا ويمكن أن تكون مكلفة بالنسبة للناشرين، بينما يعد الذكاء الاصطناعى إذا تقدمت نماذج الذكاء الاصطناعى فى الاتجاه الصحيح بفتح عوالم جديدة من الأدب للقراء. وبالنسبة للناشرين الذين يفضلون أن تبقى الكتابة الإبداعية فى يد خبير بشرى، فإن استخدام الترجمة الآلية للكتب المدرسية والكتب غير الخيالية قد يكون مغريًا. وأضافت الكاتبة: على الرغم من التطورات المنتظرة فى الترجمة الآلية، فإن بعض المهارات التى يمتلكها المترجمون مثل الإبداع، واختيار الكلمات بدقة، وفهم نية الكاتب، هى أعمال بشرية تمامًا. وكوسطاء للكتاب والكتب، لا يمكن لأى نموذج ذكاء اصطناعى أن يحل محل شخصية المترجم، فالمترجمون هم فى الأساس كُتّاب، والترجمة مرتبطة بشكل كبير بالعاطفة، والخيال، والتجربة الشخصية.
ورغم أن الذكاء الاصطناعى التوليدى يزداد تطورًا، وهناك مجالات قد يكون فيها مفيدًا لتوفير الوقت، يجب على الناشرين أن يفكروا جيدًا فى مدى تأثيره على الإبداع الأدبى. فى عام ٢٠١١، قالت المترجمة الشهيرة مارجريت جول كوستا إن «كل مترجم سيقدم نسخة مختلفة، لأن كل قارئ يسمع ويقرأ بطريقة مختلفة». كانت ترى أن جمال الترجمة الجيدة هو أنها «تكون مغرية وجديدة تمامًا كما هى النسخة الأصلية».
عواقب سلبية
فى مقاله الذى جاء بعنوان «ترجمة الخيال.. كيف يمكن للذكاء الاصطناعى أن يساعد البشر فى توسيع نطاق الوصول إلى الأدب والثقافة العالمية»، تحدث الكاتب آندى ميا عما تتيحه التطورات الحالية والمتوقعة مستقبلًا فى الترجمة الآلية من إمكانات هائلة تسمح بزيادة عدد الأعمال المترجمة من مختلف لغات العالم ووصولها إلى الجميع، متطرقًا فى الآن ذاته إلى الجانب القاتم من القصة لا سيما فيما يتعلق بترجمة الأعمال الأدبية تحديدًا.
قال آندى: ترجمة الأعمال الروائية، بما تحمله من لغة معقدة، ودلالات عاطفية، وفروق دقيقة، كانت مجالًا مخصصًا للمترجمين البشريين المهرة، ولكن هذه المبادرة لاستخدام الذكاء الاصطناعى فى ترجمة الروايات قد تكون خطوة أولى نحو زعزعة ما يُعتبر غالبًا آخر معقل لأحد أعظم إنجازات البشرية، وربما الأكثر استحالة فى استبداله؛ القدرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية المعقدة من خلال الكلمات.
لذلك، يثير قرار استخدام الذكاء الاصطناعى فى ترجمة الكتب سؤالًا مهمًا يتصل بأساس مخاوفنا بشأن تفوق الذكاء الاصطناعى على الجهد البشرى؛ هل يمكن للآلة أن تلتقط الفروق الدقيقة التى تمنح الأدب عمقه، أم أن ذلك ببساطة معقد للغاية بالنسبة لخوارزمية؟
دفاعًا عن العنصر البشرى، فإن اللغة، خاصة فى الأدب، لا تقتصر على الكلمات فحسب. بل ترتبط بالسياق الثقافى، والدلالات الخفية، والصوت المميز للكاتب. لذلك، فإن الإنسان الذى يفهم اللغتين والثقافتين فقط هو القادر على ترجمة جوهر القصة بدقة دون أن يفقدها روحها.
نبدو اليوم وكأننا فى مرحلة حاسمة من تطور الذكاء الاصطناعى، فقد أصبحت قدراته اللغوية تقترب بشكل كبير من الأداء البشرى فى سياقات متنوعة، بدءًا من روبوتات الدردشة لخدمة العملاء، إلى الأدوات الصحية المتطورة المستخدمة فى التشخيص. حتى منظمة الصحة العالمية طوّرت ونشرت «مساعدًا صحيًا» يعتمد على الذكاء الاصطناعى.
بالطبع، من الصحيح أيضًا أن المترجمين البشريين، رغم خبرتهم، قد يفوتون بعض التفاصيل الدقيقة أو يرتكبون أخطاء. وهناك إيمان راسخ بين النقاد الأدبيين بأن الفهم الحقيقى لنية المؤلف يتطلب قراءته بلغة النص الأصلية.
من غير الممكن بالطبع تعلم كل لغة لقراءة كل كتاب. لكن عدم فهم لغة معينة قد يحرمنا من اكتشاف أعمال أدبية عظيمة قد لا تُترجم إلى لغاتنا. ومن هنا، يمكننا أن نطرح حجة من منظور العدالة الاجتماعية لصالح استخدام الترجمة بالذكاء الاصطناعى لتوسيع الوصول إلى رؤى ثقافات متعددة ولغاتها المتنوعة. من هذا المنطلق، يعتبر منع استخدام الترجمة بالذكاء الاصطناعى أكثر إشكالية أخلاقيًا من السماح بها.
وهنا يكمن وعد الترجمة بالذكاء الاصطناعى بتوسيع الوصول إلى الأدب لأولئك الذين قد لا تتاح لهم الفرصة للتفاعل معه. الإمكانات هنا هائلة. فقط جزء صغير من الأدب العالمى يُترجم إلى لغات أخرى. إذا تمكن الذكاء الاصطناعى من زيادة هذا الرقم، فسيتيح الوصول إلى أصوات وأفكار متنوعة، ما يثرى المشهد الأدبى العالمى، وبالنسبة للأعمال التى قد لا تجد مترجمًا بشريًا بسبب التكلفة أو اللغة أو محدودية الانتشار، قد يكون الذكاء الاصطناعى هو الوسيلة الوحيدة لتقديم هذه الأعمال لجمهور جديد.
ومع ذلك، فإن صعود الذكاء الاصطناعى فى مجال الترجمة ليس خاليًا من العواقب السلبية. إذا حل الذكاء الاصطناعى محل المترجمين البشريين، فإننا نخاطر بفقدان فهمهم الثقافى العميق الذى يقدمونه. ورغم أنه من السهل القول إن الذكاء الاصطناعى يجب أن يُستخدم فقط فى الأعمال التى لن تُترجم بدونه، فإنه قد يؤدى إلى تقليص الطلب على المترجمين البشريين.
لكن لا يجب أن يكون الأمر خيارًا بين هذا وذاك. يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعى أداة لتعزيز، لا لاستبدال المترجمين البشريين. يمكن للمترجمين أن يشاركوا فى تحسين نماذج الذكاء الاصطناعى، لضمان دقة وجودة أعلى، واختيار الأعمال التى ينبغى ترجمتها.
ختم آندى مقاله قائلًا: تخيلوا عالمًا يعمل فيه المترجمون والذكاء الاصطناعى معًا، يوسعان حدود ما يمكن تحقيقه. إذا ساعد الذكاء الاصطناعى فى ترجمة المزيد من الكتب، فإن التعاون بينهما قد يؤدى إلى توفير وصول أكبر إلى الأدب العالمى، ما يعزز فهمنا المشترك للثقافات المتنوعة.
على المدى الطويل، إذا استطاع الذكاء الاصطناعى أن يقربنا من عالم تتاح فيه كل الكتب بكل اللغات للجميع، فإنه سيكون رؤية استثنائية تستحق الدعم. سيتطلب الأمر توازنًا استخدام الذكاء الاصطناعى لتوسيع نطاق الأدب، مع الحفاظ على وتقدير فن الترجمة البشرية الذى لا يُمكن استبداله. ولكن، يبدو بشكل متزايد أننا فى بداية استكشاف الإمكانات الواسعة التى تقدمها هذه التكنولوجيا الجديدة.
تعبير عن الرفض
فى وقت سابق، وعقب إعلان دار النشر الهولندية لقرارها بترجمة عناوين من الروايات التجارية باستخدام الذكاء الاصطناعى، أصدرت منظمة «PEN America»، وهى منظمة أمريكية معنية بحقوق المؤلفين، بيانًا عبّرت فيه عن قلقها من هذا السعى قائلة: التمييز المزعوم بأن هذه التجربة مخصصة للأعمال الروائية التجارية وليس للأعمال الأدبية يكشف عن نقص تقدير صناعة النشر العالمية لفن الترجمة والدور الحيوى الذى يقوم به المترجمون الأدبيون فى تقديم السياق، والأسلوب، والنبرة، والدقة للنصوص التى يترجمونها إلى لغات أخرى.
وتابع البيان: نكرر الدعوة إلى حث الناشرين على معالجة النقص الحاد فى الاستثمار فى الأدب المترجم، لا يمكن الاستعاضة عن المترجمين الأدبيين بالذكاء الاصطناعى. الثقافة لا يمكن أتمتتها دون التسبب فى أضرار للأدب والثقافة العالمية، إننا ندعوهم إلى إعادة النظر فى قرارهم.