تعفن الدماغ.. كيف دمرت الإنترنت عقول البشر؟
- المحتوى القصير والمباشر يدرب العقول على السعى وراء المكافآت السريعة
- التعرض المفرط لمحتوى الإنترنت يؤدى إلى التبلد العاطفى
- التواصل مع الطبيعة أحد الأساليب الفعالة لتحسين الصحة النفسية والتغلب على الكسل الذهنى
بعد تصويت عام شارك فيه أكثر من 37 ألف شخص، أعلنت جامعة أكسفورد أن كلمة العام 2024 هى «تعفن الدماغ» brain rot بعد ملاحظة الاستخدام المتكرر للمصطلح بنسبة زيادة 230% بين عامى 2023 و2024.
يُعرّف المصطلح المختار على أنه «تدهور الحالة العقلية أو الفكرية للفرد، لا سيما نتيجة لاستهلاك مفرط لمواد تُعتبر تافهة»، وقد رأى الخبراء أن المصطلح يعبر عن القلق بشأن تأثير الاستهلاك المتزايد للمحتوى ذى الجودة المنخفضة عبر الإنترنت خاصةً على وسائل التواصل الاجتماعى، ومن ثم يعبر هذا الاختيار عن الاهتمام المجتمعى الزائد بتطور حياتنا الافتراضية وتأثير ثقافة الإنترنت على جزء كبير من هويتنا ومحادثاتنا.
ما تفعله الإنترنت
يمثل هذا الاختيار لمصطلح «تعفن الدماغ» فرصة لإعادة النظر فى كيفية التعاطى مع التطورات الرقمية التى تتسارع بضراوة، حاملة وعدًا بفرص حياة أفضل، بينما هى على الجانب الآخر تنخر فى البنى الذهنية والفكرية والاجتماعية والثقافية للأفراد بمختلف أنحاء العالم، سواء أكانوا منتمين إلى صانعى هذه التطورات أو مستهلكين شرهين لها كما هو الحال بمجتمعاتنا العربية.
بوقت سابق، كان الكاتب الأمريكى نيكولاس كار قد سلّط الضوء على التأثيرات السلبية التى يحملها التعرض المكثف للمحتوى عبر الإنترنت على التفكير والتركيز والقدرات العقلية عمومًا. يقول فى كتابه «السطحيون.. ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا»: «على ما يبدو فإن ما تقوم به شبكة الإنترنت هو تقليص قدرتى على التركيز والتأمل. فبغض النظر عن كونى متصلًا بالشبكة أم لا، فإن عقلى الآن يتوقع أن يحصل على المعلومات على طريقة الشبكة، أى على شكل سيل حثيث من الجزئيات. فقد كنت فى يوم ما غواصًا فى بحر الكلمات. أما الآن فإننى أتنقل بسرعة على السطح كمن يقود دراجة مائية».
ينوه كار فى كتابه بـأن عشرات الدراسات التى أجراها علماء النفس وعلماء الأحياء العصبية وعلماء التربية ومصممو الشبكة تصل إلى نتيجة واحدة، وهى أننا حين نتصل بالشبكة ندخل بيئة تدعم القراءة السريعة والتفكير العجول والمتشتت والتعلم السطحى، فالشبكة تقدم أنواعًا من المحفزات الحسية والإدراكية المتكررة ذات المفعول الإدمانى، والتى ثبت أنها تفضى إلى تغييرات قوية وسريعة فى وظائف الدماغ.
المحتوى المفسد للدماغ
فى حديث مع موقع وقناة «kfvs12» الأمريكية، قال الإخصائى النفسى شون جايلينج إنه وفق دراسات أُجريت حول قدرة الدماغ البشرى على استرجاع المعلومات المهمة أثناء التعرض لما يُسمى بـ«المحتوى المفسد للدماغ» يصبح المرء أقل قدرة على تذكر الأشياء المهمة بينما هو منغمس فى تشغيل أو مشاهدة محتوى جاذب للانتباه ومثير له، وهو ما عبّر عنه بعض الأطباء بمصطلح «تآكل مدى الانتباه» أو «تآكل القدرة على التركيز».
اقترح جايلينج السعى نحو تقليل تأثير «إفساد الدماغ» من خلال إيجاد سلوكيات بديلة مثل التركيز على المحتوى المفيد المهم، ومحاولة الخروج من المنزل والمشاركة فى أنشطة مع الآخرين، وتحقيق التوازن بين الوقت الذى نقضيه على الإنترنت والوقت الذى نشارك فيه الآخرين.
تأثيرات عقلية ونفسية
وفى مقال بموقع «فوربس» الأمريكى، تحدّث عالم النفس الأمريكى مارك ترافرز عن تأثيرات سلبية للمحتوى الرقمى على الصحة العقلية والنفسية وهى تراجع القدرة على التركير، وضعف التفكير العميق، وارتفاع معدلات القلق والتوتر، والإرهاق العاطفى، والشعور بالوحدة.
أوضح ترافرز أن الاستخدام المفرط للمحتوى الرقمى يجعل من الصعب التركيز على المهام الطويلة والمعقدة، مثل القراءة أو حل المشكلات. فالمحتوى القصير والمباشر يدرب عقولنا على السعى وراء المكافآت السريعة، مما يضعف قدرتنا على التركيز، كما أن التمرير المستمر للمحتوى السطحى يُضعف مهارات التفكير النقدى والتحليل، فقد أظهرت دراسة نشرت فى عام ٢٠٢٣ أن مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى الذين يعانون من «الخوف من تفويت شىء» كانوا أكثر عرضة للتشتت، خاصة عند الإفراط فى استخدام هذه المنصات.
وأشار ترافرز إلى أن الحياة الرقمية السريعة تُرهق عقولنا، فالأخبار المستمرة ووسائل التواصل الاجتماعى وثقافة المقارنات تسهم فى زيادة مستويات القلق والتوتر، كما أن كثرة المعلومات والتعرض للتنمر الإلكترونى، تسبب الإنهاك العاطفى، وتعمق الشعور بالعزلة.
استراتيجيات للمواجهة
بيّن ترافرز بمقاله أن إدراك الآثار السلبية للعالم الرقمى هو الخطوة الأولى نحو حماية عقولنا واستعادة صفاء ذهننا، مقترحًا أربع استراتيجيات تساعد على تقليل الآثار السلبية للاستخدام الرقمى وهى استهلاك المحتوى الرقمى بوعى، ومراجعة الحسابات والفيديوهات والمقالات التى نتفاعل معها، ووضع ترتيب لأولويات الاستهلاك الرقمى بتخصيص الوقت الأكبر لمحتوى مفيد ومؤثر، مع تحديد صارم للمدة الزمنية المحددة للتعرض إلى مواقع التواصل الاجتماعى.
ودعا عالم النفس الأمريكى إلى تخصيص وقت أطول للتركيز على أنشطة مثل التأمل وممارسة التمارين الرياضية والكتابة، وتحديد فترات زمنية للعمل العميق بدون مشتتات، واكتشاف الأنشطة والهويات غير المعتمدة على الاتصال بالشبكة والمعتمدة على تواصل فعال مع الطبيعة.
ووفقًا للرابطة الأمريكية لعلم النفس، يعد الاستمتاع بالطبيعة من بين أفضل الطرق للتغلب على الشعور بالكسل الذهنى. تقول عالمة النفس الكندية ليزا نيسبيت إن هناك أدلة متزايدة من العديد من الباحثين تُظهر أن الارتباط بالطبيعة يعزز المزاج ويسهم فى تحسين الصحة النفسية.
تغيرات هيكلية فى الدماغ
سلّط تقرير نشرته صحيفة «الجارديان» الضوء على التأثيرات السلبية للتكنولوجيا الحديثة على الأدمغة، مستندًا إلى أبحاث من جامعات مثل هارفارد وأكسفورد. كشفت الدراسات أن الاستخدام المفرط للإنترنت يُقلّص المادة الرمادية فى الدماغ، مما يؤدى إلى ضعف التركيز، وتدهور الذاكرة، وتشويه العمليات المعرفية.
وأوضح التقرير أن الإنترنت تُضعف القدرة على الانتباه عبر تشتيت التركيز بين مصادر متعددة، ويسبب تغيّرات هيكلية فى الدماغ. ففى دراسات امتدت لعقد كامل، ثبت أن الاستخدام المكثف للمنصات الرقمية أدى إلى انخفاض متوسط فترة التركيز من دقائق إلى ثوانٍ معدودة.
لكن المشكلة لا تقتصر على طبيعة الاستخدام فقط، إذ صُممت التكنولوجيا عمدًا لاستغلال أدمغتنا من خلال ميزات مثل «التمرير اللا نهائى»، التى تحفز مراكز المكافأة فى الدماغ بطريقة إدمانية، مما يُبقى المستخدمين عالقين فى حلقات تفاعل مستمرة دون وعى.
من أبرز التحذيرات التى وردت فى التقرير، وصف عالم الأعصاب إيرل ميلر الوضع الحالى بـ«العاصفة المثالية للتدهور المعرفى». كما أشارت الباحثة جلوريا مارك إلى تراجع مثير للقلق فى قدرة البشر على التركيز، إذ انخفض متوسط فترة الانتباه على الشاشات من دقيقتين ونصف فى ٢٠٠٤ إلى ٤٧ ثانية فقط بحلول ٢٠١٦. وفقًا للتقرير، هذا التدهور ليس مجرد مسألة فردية، بل مشكلة مجتمعية تتطلب انتباهًا فوريًا.
تأثير على النمو العقلى
فى تقرير نشره الموقع الهندى new Indian express، أوضح الأطباء أن قضاء أكثر من ساعتين يوميًا فى مشاهدة المحتوى الافتراضى بشكل متكرر للأطفال دون ١٢ عامًا يمكن أن يؤثر سلبًا على نموهم الإبداعى والذهنى، وحذروا من أن التعرض المفرط للمحتوى عبر الإنترنت، خاصة إذا كان يتم دون تفاعل أو مشاركة نشطة «مجرد المشاهدة دون القيام بأى نشاط ذهنى»، قد يؤدى إلى حالة من التبلد العاطفى، مما يجعل الطفل أقل قدرة على فهم أو الاستجابة للمشاعر فى الحياة الواقعية.
أوضح الأطباء أن الاستهلاك المستمر للمحتوى يؤثر سلبًا على قدرة الدماغ على التكيف وتكوين وصلات عصبية جديدة، وهى ما يُعرف بـ«المرونة العصبية»، مما يقلل من مرونة التفكير وقدرة الطفل على حل المشكلات، وأن الإفراط فى استخدام المحتوى الرقمى يؤثر أيضًا على الطريقة التى يستجيب بها الدماغ للمكافآت، فالاعتماد على الإشباع السريع الذى توفره المحتويات الرقمية يؤدى إلى صعوبة فى الاستمتاع بالأنشطة الواقعية.
لفتت إخصائية علم النفس سوشما جوبالان إلى أن هذه العادات الرقمية تثير القلق بشأن تأثيرها على وضوح التفكير والنمو العقلى، منوهة بأهمية اتخاذ خطوات عملية مثل تقليل وقت الشاشة، والتركيز على اختيار محتوى عال الجودة، واعتماد فترات راحة من الأجهزة الرقمية لتنظيف العقل من تأثيرها السلبى.
عادات لتجنب تعفن الدماغ
تناول المختص فى علم الأعصاب، برايان روبنسون، فى مقال نشره بموقع «فوربس» الأمريكى، استراتيجيات علمية لتجنب «تعفن الدماغ» وتعزيز الصحة العقلية بالمقابل.
أوصى روبنسون بضرورة قضاء وقت فى الطبيعة كعامل توازن مهم للوقت الذى يُقضى أمام الشاشات. وأوضح أن الدراسات أظهرت أن الأشخاص الذين يمضون وقتًا فى الحدائق أو الغابات يتمتعون بصحة نفسية أفضل وقدرة على التفكير بوضوح.
وبيّن أن التعرض لتجارب جديدة وتحديات ذهنية مثل حل الألغاز أو تعلم مهارات جديدة يعزز من لياقة الدماغ، ما يمنع التراجع المعرفى ويحفز الإبداع، كما أشار إلى أهمية الحركة والنشاط البدنى المنتظمين ودورهما فى تعزيز الدورة الدموية للدماغ، مما يساعد فى تحسين التفكير الإبداعى وتقليل خطر فقدان الذاكرة أو الإصابة بالخرف.
ونصح روبنسون بالاهتمام بتعزيز الأمان النفسى الذى يعد من أهم احتياجات العقل ليعمل بكفاءة، كما أن نوعية الأطعمة التى نتناولها تؤثر بشكل مباشر على صحة الدماغ، إذ يمكن أن تؤدى الأطعمة الجاهزة إلى ما سماه «تلف الدماغ». على الجانب الآخر، تسهم الأطعمة الصحية مثل البروتينات الموجودة فى اللحوم والدواجن ومنتجات الألبان، وأوميجا ٣ الموجود فى الأسماك الدهنية، والفيتامينات الأساسية فى تحسين المزاج وتعزيز الوظائف العقلية. كما أكد أن النوم الجيد لا يقل أهمية عن العوامل الأخرى، فالحرمان من النوم يؤدى إلى ضعف التفكير والتركيز، بينما يعيد النوم الكافى نشاط الدماغ ويعزز قدرته على التعامل مع التحديات وضغوط العمل.
وأضاف روبنسون أن تبنى «الرؤية الواسعة» يساعد على التغلب على الضغوطات اليومية ورؤية الصورة الكاملة بدلًا من التركيز على الإخفاقات، كما يمكن للتفكير الإيجابى أن يكون مضادًا فعّالًا فى مواجهة «تعفن الدماغ»، مشيرًا إلى أهمية التأمل والتنفس الواعى، فى تهدئة العقل وتقليل التوتر. هذه التقنيات، وفقًا له، تخفض مستويات الكورتيزول وتساعد على التركيز بشكل أفضل، مما يرفع من كفاءة الأداء المهنى. واختتم حديثه بالإشارة إلى أهمية التنظيم فى الحياة اليومية، فالعقل يعانى من الإرهاق عند القفز بين المهام المختلفة فى وقت واحد. وبيّن أن تعدد المهام يؤثر على الكفاءة ويزيد من التوتر، مما يؤدى إلى «تعفن الدماغ». وشدد أيضًا على أهمية الدعم الاجتماعى، لافتًا إلى أن التواصل مع الآخرين يسهم فى تعزيز صحة الدماغ والإبداع والمثابرة المهنية.