الأسطى حسن.. فقه الخلاف حول «أرابيسك»

- لم يسلك «أبو كيفه» تجارة المخدرات ويتخذها غاية تبرر الوسيلة يصل بها إلى مبتغاه
- الأسطى حسن لم يستخدم نبرة صوت تخترق طبقة الأذن لتصيب الخصم بالرعب
- أرابيسك تهزم «بشويشة» بالقاضية.. ودراما عكاشة «سترت» الحارة المصرية.. فلماذا نكشف غطاءها الآن؟
لم يكُن هينًا أن تمر الهجمة النقدية التى تعرضت لها أعمال ودراما الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، أسطى الدراما الشعبية المصرية فى حقبة الثمانينيات والتسعينيات، دون أن تستنهض داخل مريديه ردة فعل مستنكرة وسريعة، خاصة أن تلك الحالة النقدية التى صوبت سهامها إلى الأديب والسيناريست الكبير كان فرسانها كاتبان كبيران يُشار لهما بالبنان، هما الكاتب الكبير الدكتور محمد الباز، والروائى الشهير أحمد الصغير.
وقدم «الصغير»، فى العدد قبل الماضى من جريدة «حرف» الثقافية، التابعة لمؤسسة «الدستور»، ما يشبه المحاكمة النقدية والفنية لما أسماها «آلهة العجوة»، واضعًا نُصب عينيه بالتحديد الكاتب أسامة أنور عكاشة، والذى أقام له «الصغير» ما يشبه «مقصلة»، رفع عليها مجمل أعماله، وتحديدًا مسلسل «أرابيسك».
عنوان المقال أو الموضوع الذى كتبه «الصغير» كان: «محاكمة دراما الزمن الجميل». وهُنا لا أعرف كيف هان على الروائى الكبير أن يصف زمن «عكاشة» بالجميل، ثم يعود ويَصمه بما قال وفند، ليجعلنا نتساءل: ماذا لو لم يكُن بـ«الزمن الجميل»؟!
وانطلاقًا من مساحة حق الرد المكفول، كان لزامًا أن يجد الكاتب أسامة أنور عكاشة من يرد عنه غيبته، ليس دفاعًا عنه فحسب، ولكن ردًا لديون عديدة، رحل الكاتب الكبير وتركها معلقة فى رقبتى ورقبة أبناء جيلى الذين تربوا على محبة «حسن أرابيسك» وأبطال رواياته...
جيل تعلق وتلهف لرؤية البطل المغوار، حتى لو طوى فى شخصيته العديد من السلبيات. جيل أدرك أن لـ«عكاشة» ديونًا أغرقنا بها خلال سهرات ٥ أجزاء من رائعة «ليالى الحلمية»، ديونًا للفن الهادف الأصيل، ديونًا لكل ما هو قديم ومتجدد، ولكل ما هو نفيس لم ولن يندثر مهما طال الزمان.

الادعاءات أو الاتهامات -إن صح الوصف- التى وجهها الروائى والناقد أحمد الصغير على صفحات «حرف»، تضمنت ما قال عنه «خطايا مسلسل أرابيسك»، والتى عاب فيها على «عكاشة»، وبطل الرواية الشهيرة «الأسطى حسن أرابيسك»، وهو الدور الذى جسده الفنان الكبير صلاح السعدنى، ظهوره بشخصية ابن البلد والصنايعى الفاشل الذى بدد صنعة والده وحرفته وثروته، فى إشارة إلى ورشة «المحروسة».
عاب عليه تبديده للورشة وحرفة «الأرابيسك»، اللتين تركهما له والده «الحاج فتح الله النعمانى»، واصمًا «الأسطى حسن» بـ«البلطجى المتعاطى» والكسول المهمل، بل وزاد من الاتهامات بيتًا، حينما وصف إياه بـ«المبتز»، الذى يتكبر ويرفض العمل وتمثيل بلده فى المحافل العالمية بفنه وصنعته.
اتهام ساقه الروائى الكبير ليجعل من «حسن أرابيسك» وصمة عار. وعلى الرغم من أن أغلب تلك الاتهامات فى طياتها شرف وفخر لـ«الأسطى حسن»، الذى رفض وأصر على موقفه المشرف وهو ألا يمثل بلده فى محفل دولى يضم بين أروقته ممثلين عن الكيان الصهيونى الغاصب المحتل، الذى حاربه «حسن النعمانى» جنديًا فى معركة العزة والشرف عام ١٩٧٣، وحصل حينها على تكريم الدولة ونوط الشجاعة الذى صمم له إطارًا ذهبيًا معلقًا خلف مكتبه فى ورشة «المحروسة»، يضعه فوق رأسه حتى لا ينسى يومًا عدوه وعدونا، حتى لا يبُدى يومًا مصلحة زائلة أو منفعة مادية على وطنه وشرفه.
ترجم «حسن أرابيسك» ذلك حينما أشار إلى أخيه «حسنى/ هشام سليم»، وصديقه «المهندس شريف/ شوقى شامخ»، فى ظل إصرارهما على مشاركته فى المعرض الدولى للأثاث والتحف بفن «الأرابيسك»، ملوحًا بيده إلى النوط الذى حصل عليه، ثم قال: «مش هحط إيدى فى إيدهم ومش هخون الوسام اللى فوق دماغى»، فى موقف لا يقل وطنية وبطولة عن بطولات «حسن» فى الحروب التى خاضها دفاعًا عن بلده جنديًا بين صفوف جيشها، فكيف تتحول تلك البطولة إلى سُبة ووصمة عار؟!
واتساقًا مع النفس، وحتى لا نتحول بدافع الحُب لدراما أسامة أنور عكاشة إلى أسرى نغُض الطرف عن الغث ونقدم النفيس، لا يمكن بالتأكيد إغفال أن شخصية «حسن أرابيسك»، التى اتخذ منها الروائى أحمد الصغير مسلكًا لنقد دراما «عكاشة»، حملت العديد من السلبيات، ولكنها تظل تندرج تحت بند السلبيات التى لا يخلو منها إنسان، فمن لا يعُاب عليه كسله أو تسكعه على المقاهى؟! من لم يُبدد ما امتلك من صحة أو مال أو موهبة دون أن يدرى؟

لكن ألم ترجح جدعنة «الأسطى حسن» كفّته، حينما كان يقف مدافعًا عن بسطاء وأرامل وأيتام «خان دويدار»؟ ألم يشفع له إيواؤه للجارة «عدولة» وشقيقاتها فى منزله حماية لهما من غدر الشارع بعد انهيار منزلهما فى زلزال ١٩٩٢، ألم يشفع له شهامته وتصدقه على رجل كفيف وتكفله ببناء كشك يتكسب منه قوت يومه لمجرد أنه جاره فى الحى الشعبى؟!
سُبة أخرى أراد فرسان نقد دراما «عكاشة» أن يَصموا بها أبطال أعماله، حينما وصفوا «حسن أرابيسك» بالمتعاطى أسير الكيف وسهرات المزاج وقعدة البرج، واتخذوا منها منصة يوجهون منها سهامهم لاغتيال «حسن أبو كيفه»، شاهرين سيوف النصر وكأنهم عثروا على ورقة التوت التى لو أزاحوها عن «الأسطى حسن» لانكشفت مساوئه.
لكن، هل من وصم «حسن» بما فيه، منح نفسه برهة لينبش فى مساحته الضيقة، ويخرج لنا ملائكة لم يسقطوا يومًا فى فخ التعاطى والإدمان؟! الكافيين إدمان، ودخان لفافات التبغ التى تُباع جهارًا نهارًا إدمان، وحجر الشيشة إدمان، وكل ما يريح العقل والهوى ويذهب الهم إدمان.
وحتى لو قصد وعمد مجردو «حسن أرابيسك» من جدعنته وشهامته تعاطيه لـ«الدخان الأزرق» المحرم شرعًا وقانونًا، والذى لجأ إليه «حسن» هربًا فى بعض الأحيان من واقع يرفضه، فليمنحونا الحق أن نسألهم، وهما يسنون أقلامهم لذبح بطلنا الأسطورى: كم من مُبدع اعتبروه أستاذًا ونبراسًا كان لهذا السُم أسير؟ هل كانت تلك السقطة هى القشة التى قصمت ظهور أساطيرهم؟ بالطبع لا وألف لا، لأنهم أرادوا متعمدين أن يروا منهم الجانب المضىء متغافلين أحيانًا وساترين أحيانًا كثيرة للجانب المسىء.
نتفهم ويتفهم أبناء جيلى أن منتقدى «حسن أرابيسك» لم تكن رغبتهم أن يهيلوا التراب على شخصيته وعلى دراما أسامة أنور عكاشة، التى وصفتها أقلامهم بأنها «دراما الزمن الجميل»، من باب الهجوم أو التجنى، بل فى إطار مقارنتهم لهذا اللون من الدراما بما يُعرض فى الآونة الأخيرة من دراما تنقل هى الأخرى صورة للحارة المصرية.. صورة يراها مهاجمو «عكاشة» واقعية تليق بهذا الزمان، ويراها أسرى «دراماه» تشويهًا ونقلًا خاطئًا ومجتزأ لهذه المنطقة العريقة من تاريخ المحروسة.
فمساوئ شخصيات أبطال روايات «عكاشة»، وإن تشابهت مع سلبيات دراما هذا الزمان، نجح صناع دراما الزمن الجميل فى إحاطتها بورقة من «السوليفان»، كما وصفها الكاتب الكبير الدكتور محمد الباز، خلال مقارنته التى سطرها عبر صفحات العدد الأخير من جريدة «حرف»، فى مقاله: «هل التراث الدرامى مُقدس؟.. فهد البطل فى مواجهة حسن أرابيسك».

ورقة «السوليفان» أو «التغليفة» تلك، وإن أراد منها «الباز» أن يوحى للقارئ بأن صُناع هذه الدراما تعمدوا تضليل المشاهد وإخضاعه للتعلق بشخصيات تعج بالسلبيات عبر تجميل صورتها، كانت طوق النجاة وسر نجاح «توليفة» أسامة أنور عكاشة وحبكته الدرامية.
«التغليفة» تلك التى أراد بها «الباز» ترجيح كفة «فهد البطل» على كفة «حسن أرابيسك»، اللذين وضعهما الكاتب الكبير على ميزان واحد، رجحت كفة «حسن أرابيسك» على «فهد البطل»، الشخصية التى قدمها الفنان أحمد العوضى فى مسلسله الذى عُرض فى شهر رمضان المُنصرم... ترجيح دون «تطفيف» أو محاباة أو تحيز على الإطلاق. ترجيح بمعيار من ذهب، هو نبض الشارع وحب الناس.
وصف «التغليفة» أو «ورقة السوليفان»، مع دقته والذكاء فى اختياره، كان بمثابة نوط شرف ووسام لدراما أسامة أنور عكاشة، حين أبى ملك الدراما الشعبية أن يقدم الحارة المصرية إلا «مستورة»، رافضًا أن يَصمها بما ليس فيها.
فـ«الأسطى حسن» لم نجده يسفك دمًا للثأر، لم يستخدم نبرة صوت تخترق طبقة الأذن لتصيب الخصم بالرعب، بل كان يكفيه نظرة، كان يكفيه سيرة أنه البطل المغوار الذى يهرول أمامه كل ظالم أو جائر على حق مسكين. لم يشهر سلاحه يومًا، لم يسلك «أبو كيفه» تجارة المخدرات ويتخذها غاية تبرر الوسيلة يصل بها إلى مبتغاه، حتى ولو كان صاحب حق.
لم يقسم «حسن» إلا بالله، وأحيانًا بـ«حياة أم حسن» و«رحمة فتح الله النعمانى». لم يتورط فى جريمة قتل أو خطف، لم يخدع ولم يضلل.. عفوًا يا «دكتور» لم نتذكر «حسن أرابيسك» ونحن نشاهد «فهد البطل»، لسبب وحيد أن «حسن أرابيسك» لم ولن يكون «فهد البطل».

«زيارة واحدة إلى أرشيف الصحف تمكننا أن نعرف من خلاله ما تعرض له هؤلاء الكُتّاب من نقد عنيف، ربما يتجاوز بمراحل النقد الذى يلاقيه الآن كُتّاب الدراما فى عصرنا».. تلك الدعوة التى وجهها الدكتور محمد الباز لمنتقدى دراما «بشويشة»، ظن بها أن تلك الزيارة ستجعلنا نُبتلى بصدمة تخرس ألسنتنا، عندما نجد أرشيف الصحافة الفنية مزدحمًا بمقالات وكتابات «ذبح عكاشة».
أصاب «الباز» حينما وجه هذه الدعوة، ولكن من قال إن النقد شىء مستهجن أو مرفوض؟ فالنقد الذى طال دراما «عكاشة» فى زمانه، كان تفنيدًا لبعض الملاحظات على الحبكة الدرامية، أو نقدًا لاختيار بعض الأبطال فى أدوار غير ملائمة، نقدًا أراد من أطلقه تصويب الخطأ الفنى، انتقاد جاء من كُتّاب وأسطوات كِبار رصدوا سلبيات لن يراها رجل الشارع العادى الذى أصابته صدمة دراما « بشويشة» «وعرض أختى» وفيض الخيانات الزوجية وزنا المحارم، والذى صور الحارة المصرية وكأنها مستنقع لمواطنين درجة ثالثة أو على الهامش. صدمات أصابت سكان الحارة المصرية، أصدق ما بقى فينا من رائحة وعبق الماضى، بالخزى والعار. بينما رفعت هامات هؤلاء دراما أسامة أنور عكاشة، حين وصفهم بالشهامة والجدعنة والأصالة والتاريخ، وجعلتهم يفتخرون بحارتهم وشموخها الصامد على مر الزمان.
قرائن الكاتب الصحفى الكبير محمد الباز، التى ساقها فى خضم مقارنته لدراما «فهد البطل»، أو الدراما الحديثة بصفة عامة بنظيرتها من دراما «الزمن الجميل»، استند فيها إلى نقطة غاية فى الأهمية حين كتب: «حسن أرابيسك ابن وقته وكاتبه وثقافة زمنه، وفهد البطل ابن وقته وكاتبه وثقافة زمنه».
أراد «الباز» من ذلك الإشارة ضمنيًا إلى أن الدراما تستمد مادتها الخصبة من الزمان الذى تُصنع فيه، وهذا الرأى الصائب بلا جدال، ومن وجهة نظرى، ظل هو المعيار حتى نهاية حقبة التسعينيات، حين كانت الدراما بحق بوصلتها الشارع المصرى والحارة الأصيلة والحياة اليومية للمواطن البسيط، سواء فى بدايات القرن الماضى وما قبل ثورة التكنولوجيا، أو حتى فى نهايته حين بدأنا نتلمس الحياة الحديثة رويدًا رويدًا ونطرق أبواب الألفية الثالثة.

وقتها، كانت تحية المواطن العادى فى القصر والمنزل «سعيدة يا هانم» و«ليلتك سعيدة يا أفندى»، تترجم تلقائيًا على الشاشة بنفس ذات المعنى والمصطلحات، دون تغيير من صانع العمل السينمائى أو الدرامى.
استمرت تلك المعايير الركيزة الأساسية التى يبنى عليها الكاتب شخصيات أعماله، إلى أن انقلبت البوصلة وتبدلت الأدوار، وجاءت الألفية الثالثة لتكون معها الدراما بوصلة الشارع المصرى وليس العكس، يراها المشاهد ويتابعها ثم يبدأ مع ظهور تترات نهاية الحلقة فى تصدير ما رآه فى العمل الدرامى، بل ويظن أن تلك هى الحقيقة.
ليس أدل على ذلك من انتشار مصطلحات وخِصال لم نرها طيلة حياتنا إلا عن طريق هذه الدراما، فدعنا نتحدَ أن يأتى شخص، قبل دراما «فهد البطل» على سبيل المثال، يقف فى وسط حارته الشعبية ليصيح «ومصحف ربنا»، أو تجد صديقًا لك يقسم «وعرض أختى»، وغيرها من المصطلحات التى افتخر صناعها بأنهم أصحابها والذين زرعوها، ليعترفوا بألسنتهم بأنهم من صدّروها إلى الشارع المصرى، ولم يستوردوها منه على غرار دراما أسامة أنور عكاشة.

فى الختام، نعود إلى فكرة «ورقة السوليفان» و«التغليفة» التى تحدث عنها «الباز»، تلك الورقة، التى إن رآها البعض مُضللة، نراها نُحن ساترة، ساترة لكل عيب ووصم، ورقة توت يريد صانع الدراما توصيل رسالته من خلالها دون أن يجرح المشاعر ويهتك الأخلاق، ورقة «سوليفان» تغلف دراما تدخل البيوت دون استئذان لتجد من ينتظرها ويستقبلها على الرحب والسعة، لا يحتاج أن يداريها أو يلفظها أو يخشى أن تخترق كلماتها هدوء داره، دراما «حسن أرابيسك» و«الدكتور برهان» و«الأستاذ وفائى»، دراما «سليم البدرى» و«العمدة سليمان غانم»، دراما جعلتنا نجلس نشاهدها وكأن على رءوسنا الطير رغم مرور ما يقرب من نصف قرن على عرضها، بل ونتذكر أبطالها وأحداثها، دراما مغلفة بـ«ورق سوليفان» لا ورق بفْرة تنُسى كأنها لم تُكن، دراما تقول: «الأسطى حسن بطل كل الأزمنة».