الأحد 05 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كعكتى المفضلة.. فيلم يواجه «شرطة الأخلاق» الإيرانية

كعكتى المفضلة
كعكتى المفضلة

- «الجارديان» تصف الفيلم بأنه من أكثر أفلام العام شجاعة وجرأة 

- الفيلم يستعيد تحولات المجتمع الإيرانى قبل وبعد الثورة الإسلامية 

على مدار شهور عرضه فى المهرجانات الدولية التى كان آخرها «مهرجان القاهرة السينمائى الدولى»، نال الفيلم الإيرانى «كعكتى المفضلة» عددًا من الجوائز منها جائزة الاتحاد الدولى للنقاد بمهرجان برلين السينمائى، كما حظى بتعليقات المشاهدين والنقاد الإيجابية، مع عرضه فى عدد من دور السينما بمختلف البلدان حول العالم. وأخيرًا، اختارت صحيفة «الجارديان» الفيلم ليحتل المركز الثانى فى قائمتها لأفضل أفلام عام 2024. 

«كعكتى المفضلة» هو فيلم إيرانى للمخرجين بهتاش صناعى ومريم مقدم، يقدم لمحة عن الأوضاع الاجتماعية بإيران فى ظل حكم ثيوقراطى يُخضع جميع الأفراد، ولا سيما النساء، لقوانينه الصارمة. لا يختار الفيلم النقد المباشر والعنيف لهذه الأوضاع بل يصور بنعومة شذرات من حياة امرأة مسنّة تواجه وحدتها القاسية مع جملة من المحرمات تجعل من روتينها اليومى سجنًا أبديًا، تسعى هى للخروج منه طمعًا فى لحظات من البهجة قد تكون الأخيرة. 

الحب فى خريف العمر والوطن

يروى الفيلم قصة «ماهين»، وهى امرأة سبعينية تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها وهجرة ابنتها، وتسعى للخروج من أسر وحدتها بأحاديث هاتفية مع ابنتها، أو صديقاتها المسنات اللاتى يقطن فى أماكن بعيدة عنها ما يجعل لقاءهن لا يتكرر سوى مرة سنويًا، أو حتى فى مشاهدة التليفزيون والتماهى مع قصصه العاطفية التى تبدو بالنسبة لها ماضيًا قد انقضى دون رجعة، غير أن كل هذه المحاولات لا تنجح فى إخراج ماهين من حقيقة قسوة وحدتها. 

تتلمس ماهين نصيحة تلقيها إحدى صديقاتها فى لقائهما بالبحث عن الحب والسعادة، غير أنها تدرك أن ليس فقط مظهرها، الذى لم يعد لافتًا فى شىء، هو ما يعوق رحلة سعيها تلك، بل إن سياج المحرمات المفروض حول رقاب النساء والذى يقرر لهن مصائرهن وخياراتهن سيجعل من رغبتها فى سعادة تولدها لحظات من الأنس أملًا بعيد المنال. 

ومع ذلك، تتشبث ماهين بأمل كسر عزلتها، حتى لو اضطرها الأمر إلى مواجهة القوانين الظالمة والتصدى لشرطة الأخلاق الإيرانية وأعوانها، الذين ينصّبون أنفسهم رقباء على حياة الآخرين. تتحدى البطلة واقع الوحدة القسرية، التى تُفرض باعتبارها الخيار الأوحد على نساء فى مجتمع يرى فى خصلة شعر مكشوفة ذريعة لسجنهن ومعاقبتهن بوحشية.

تتجلى شجاعة ماهين فى الفيلم من خلال اختيارها الواعى لخوض رحلة البحث عن أنيس يبدد وحدتها، حتى لو هز ذلك الصورة النمطية عنها كأرملة مسنة ظلت وفية لذكرى زوجها الراحل منذ ثلاثة عقود، ولحياة كانت تعج بالصخب والحيوية بوجود أطفال كبروا وهاجروا خارج إيران ليبنى كل منهم حياة مستقلة. تجلس ماهين وحيدة فى المقاهى والمطاعم، تطالع وجوه المحيطين بها بحثًا عن الرفيق المناسب، وحين تجده، لا تتردد فى دعوته إلى منزلها وقضاء الليلة برفقته.

يتخلل طريقها مع فارامرز، سائق التاكسى السبعينى الذى يعانى وحدة مطلقة لا يكسرها سوى مكالمات العمل النادرة، حديث ودى يبدو عابرًا فى ظاهره، لكنه يمثل للاثنين استعادة لجوانب مغيّبة من روحيهما بفعل قسوة القوانين الاجتماعية المفروضة.

تفاصيل صغيرة يصير تشاركها مع فارامرز، المحارب القديم الذى يحتفظ بإصابات بالغة من خدمته العسكرية ويعيش بدون أصدقاء أو عائلة منذ أعوام بعيدة، بمثابة سعادة كبرى لا تروق للكثيرين من حراس الأخلاق مع أنها لا تمثل أذى لأحد. تنجح ماهين أخيرًا فى ساعات وربما دقائق معدودة فى أن تجد من يشاركها فى الاستماع إلى الموسيقى والتمايل على أنغامها، من تتحدث معه عن روتينها اليومى بدون أن يمثل ذلك عبئًا يضاف على كاهله أو يشغله عن وتيرة حياته المتسارعة، ومن يشاركها كأسًا من النبيذ يضفى على أيامهما القاحلة بعضًا من السرور الطفيف، ومن يتقاسم معها كعكة تخبزها كل يوم على أمل أن يأتى من يشاركها فيها. يضىء فارامرز مصابيح حديقة ماهين التالفة منذ سنوات، وكذلك حياتها القاحلة لبضع دقائق لم يكتب لها القدر أن تطول قليلًا.

ومع ذلك، لا تقتصر شجاعة ماهين على خياراتها الشخصية التى تكسر القيود المجتمعية فى بلدها، بل تمتد لتشمل رفضها الصريح للهيمنة المفروضة على النساء وانتقادها الجرىء لهذه القيود. يتجلى ذلك بوضوح فى مواجهة حاسمة مع شرطة الأخلاق، عندما تتدخل بشجاعة لمنعهم من القبض على فتاة بسبب ظهور خصلة من شعرها. بجرأة لافتة، تقف ماهين أمام الشرطة، مما يدفعهم للتراجع عن موقفهم.

تغمر الفتاة مشاعر الامتنان تجاه السيدة التى أنقذتها من قبضتهم، غير أن ماهين لا تكتفى بتقديم العون، بل تغرس فى الفتاة درسًا جوهريًا عن الشجاعة قائلة إن التصدى بشجاعة لهؤلاء هو السبيل الوحيد لئلا يتجرأوا على فرض سطوتهم. بهذه المواقف، لا تظهر ماهين باعتبارها أيقونة للتمرد الفردى فقط، بل كمثال يلهم نساءً أخريات على تحدى القوانين الجائرة وإعادة التفكير فى الأدوار الاجتماعية المفروضة عليهن.

يطرح الفيلم بدون صخب مفتعل وبدون أحداث أو تحولات كبرى للمصائر والمآلات أسئلة عن الجوهرى فى الحياة البشرية، وكيفية استعادة وهج الحياة فى خريف العمر، فى بلدان تصر على أن تفرض معاييرها الخاصة حول الحياة والسعادة والأخلاق على الجميع. تصير أحداث الماضى التى تستدعيها ذاكرة كل من ماهين وفارامرز بمثابة استعادة لبلد قضى عليه التحول التام منذ تاريخ الثورة الإسلامية الإيرانية التى صار معها الاستمتاع بمباهج الحياة أمرًا يتطلب إذنًا غير مسموح به فى أغلب الأحيان. 

يمكن القول إن الفيلم فى التقاطاته الحساسة للمشاعر الرهيفة فى حياة امرأة مسنة ورجل فى خريف العمر لا يصدقان أنه أخيرًا قد صار بإمكانهما إيجاد رفقة تجلب لهما السعادة ولو للحظات، يبدو أقرب إلى التجسيد المرئى لقصيدة «رفاق» للشاعر اللبنانى وديع سعادة، فى ابتكارها لحكايات عن أناس يعيشون على هامش القيود، ويحملون شوقًا للحرية والأمل وسط عالم خانق. تبدو ماهين فى الفيلم وكأنها تتبع نصيحة سعادة فى قصيدته: لديك ما يكفى من ذكريات/ كى يكون معك رفاق على هذا الحجر/ اقعدْ وسلِّهمْ بالقصص/ فهم مثلك شاخوا وضجرون/ قُصَّ عليهم حكاية المسافات التى مهما مشت تبقى فى مكانها/ أخبرْهم عن الجنّ الذى يلتهم أطفال القلب/ عن القلب الذى مهما حَبِلَ يبقى عاقرًا/ حدّثْهم عن العشب الذى له عيون/ وعن التراب الأعمى/ عن الرياح التى كانت تريد أن تقول شيئًا ولم تقلْ/ وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التى دقَّت على بابك فى ذاك الشتاء كى تدخل وتتدفأ/ لديك رفاق على هذا الحجر/ لا تدعْهم يضجرون/ رفاقك مثلك شاخوا ويقعدون على حجر صغير/ اخترعْ لهم مسافات. 

أكثر الأفلام جرأة

وصفت «الجارديان» الفيلم الإيرانى «كعكتى المفضلة»، فى مراجعتها بعد اختياره فى المركز الثانى ضمن قائمة أفضل أفلام العام، بأنه من أكثر الأفلام جرأة لهذا العام، لمعالجته قضايا جريئة تتحدى القيود الاجتماعية والسياسية فى إيران، مشيرة إلى التبعات التى واجهها فريق عمل الفيلم، فقد تعرض المخرجان لضغوط هائلة من السلطات الإيرانية، إذ تم سحب جوازى سفرهما ووضعهما تحت الإقامة الجبرية بعد استجوابهما لساعات طويلة ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد قامت قوات الأمن بمداهمة منزل كاتب الفيلم ومصادرة الأقراص الصلبة الخاصة بالعمل لكن لحسن الحظ كانت هناك نسخ من الفيلم محفوظة فى باريس مما مكّن الفريق من مواصلة عرضه دوليًا.

وأشارت المراجعة إلى الاعتراضات التى أثارتها السلطات الإيرانية على مشاهد اعتبرتها مخالفة للقيم المحافظة، مثل ظهور البطلة ماهين بدون غطاء رأس، وهى تشرب الكحول وترقص مع رجل، وكان المشهد الأكثر إثارة للجدل هو مواجهة البطلة لشرطة الأخلاق فى إحدى الحدائق العامة، وهو ما اعتبرته السلطات انتهاكًا صارخًا للقوانين الصارمة.

وجاء فى المراجعة: يكشف «كعكتى المفضلة» بشجاعة عن واقع الحياة اليومية فى إيران مركزًا على القمع الذى تتعرض له النساء ورفضهن للاستسلام. يحمل الفيلم رسالة قوية عن الحرية الشخصية وحقوق الإنسان وهو ما جعله ليس فقط عملًا فنيًا بل بيانًا سياسيًا جريئًا. هذا المزج بين الفن والمقاومة جعل من الفيلم أيقونة سينمائية تعبر عن صوت من لا صوت لهم رغم القمع والمخاطر التى تعرض لها فريق العمل. هذا الفيلم القوى والمهم يعكس الواقع الحالى، فقد توفيت مهسا أمينى، البالغة من العمر ٢٢ عامًا، فى ظروف غامضة داخل المستشفى بعد أن اعتقلتها دورية الإرشاد الإيرانية لعدم ارتدائها الحجاب، ويذكرنا الفيلم بالمُتظاهرة الطالبة التى لم يُكشف عن اسمها، والتى لا تزال رهن الاعتقال دون أى ضمانات لصحتها بعد أن تجولت بملابسها الداخلية فى الشارع احتجاجًا على قوانين اللباس.

بعد أن تعرض مخرجا الفيلم للمحاكمة بدعوى تجاوزهما للخطوط الحمراء، أجرت صحيفة «الجارديان» حوارًا معهما، قالت فيه مريم مقدم فى سؤال عن طبيعة الخطوط الحمراء التى تجاوزها الفيلم: بعد الثورة، اضطرت المرأة إلى أن تعيش حياة مزدوجة. نحن كما كنا قبل الثورة، الناس العاديون يرقصون ويغنون. فى الخارج، نحن مجبرون على أن نكون شخصًا آخر، وأن نتظاهر بأننا متدينون جدًا، وأن نرتدى الحجاب، ومن المحرم عرض ذلك فى الأفلام. خلال ٤٥ عامًا، كل الأفلام التى شاهدتها تظهر نساء بالحجاب الإلزامى، حتى فى المنزل. وهذا ليس صحيحًا.

وأضافت: لا يمكنك أن تكون جزءًا من كذبة كبيرة وتتوقع أن تتغير هذه الأكاذيب الكبيرة الممنهجة. يجب عليك التراجع عن الأكاذيب. كثير من الناس فى إيران يفعلون ذلك الآن.

أبعاد اجتماعية وسياسية

أشارت مراجعة أخرى للفيلم، نشرها موقع ABC إلى أن هناك طبقة واضحة من التوتر تسرى تحت السطح فى فيلم «كعكتى المفضلة»، إذ يبرز الخوف الدائم من استياء النظام القمعى فى إيران، والذى تمثله شرطة الأخلاق، فالفيلم يستعيد ذكريات إيران قبل الثورة، عندما لم يكن الحجاب إلزاميًا وكان استهلاك الكحول جزءًا من الحياة اليومية، مع تسليط الضوء على تأثير الأوضاع المستجدة على حيوات الأفراد، إذ تُقيد حياتا ماهين وفرامرز بقواعد اجتماعية قمعية.

تطرقت المراجعة إلى عرض الفيلم لمشاهد تُعتبر محظورة فى السينما الإيرانية، مثل امرأة ترقص وتشرب الكحول، مشيرة إلى أن هذه الجرأة تمثل قلب العمل السينمائى. كما أوضحت المراجعة أن هذه الشجاعة تتجلى فى لحظة محورية عندما تدافع البطلة، ماهين، عن فتاة إيرانية شابة مهددة بالاعتقال بسبب عدم تغطية شعرها بالكامل، وهو ما يعكس رمزية المقاومة الفردية ضد القوانين الصارمة.

تضيف المراجعة أن الفيلم يطرح تساؤلًا وجوديًا عميقًا: ماذا يحدث إذا تجرأ شخصان وحيدان فى مدينة مترامية الأطراف على الحلم بحياة أفضل، حياة تُقدر فرحة الرفقة وتدعو الآخر إليها. ووفقًا للموقع، هذا التساؤل ينسج خيوط الفيلم باعتباره قصة إنسانية مؤثرة عن الحرية والفرص الثانية فى بلد يحد من حرية مواطنيه، لكنه يبرز فى الوقت ذاته الإنسانية التى تظل حاضرة رغم كل العقبات. من هنا، تصل المراجعة إلى أن الفيلم ليس مجرد دراما عاطفية، بل شهادة فنية تعكس قدرة الإنسان على الحلم والمقاومة، حتى فى مواجهة أشد أشكال الظلم والقمع.