السبت 28 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ندى أنسى الحاج: أنا ابنة الحروب المتتالية فى لبنان

ندى أنسى الحاج
ندى أنسى الحاج

- يُتم والدى المبكر طبع تركيبته النفسية تاركًا فيه جرحًا لم يندمل

- أتشارك مع أبى الرؤية الخيالية للواقع والسعى الدائم للجمال والثورة على الظلم

- قريبًا سيصدر «خواتم3» وهو مجموعة كتابات لأنسى الحاج خلال أعوامه السبعة الأخيرة لم يتسن له الوقت لنشرها فى كتاب

ولدت الشاعرة اللبنانية ندى أنسى الحاج فى بيروت، فى بيت تنبض جدرانه بالشعر والفكر، فقد كان والدها أنسى الحاج أحد أعمدة الحداثة الشعرية العربية، ومؤسس قصيدة النثر بأسلوبها الجرىء المتفرد. ورغم حضور هذا الإرث، خطت ندى مسارها الخاص، لتكوّن صوتًا شعريًا يحمل طابعها الفريد.

أصدرت ندى عشرة دواوين شعرية، منها «صلاة فى الريح» و«أثواب العشق» و«خطوات من ريش»، فتقاطعت حساسيتها الفنية مع ملامح التأمل والروحانية. فى الوقت نفسه، عملت الحاج على الحفاظ على إرث والدها الأدبى، فأشرفت على إعادة نشر الأعمال الكاملة لأنسى الحاج وأصدرت مختاراته الشعرية ومنها «وردة الذهب»، الذى صدر خلال العام الجارى. 

رأى والدها الشاعر أنسى الحاج فى قصائدها عالمًا مرهفًا ومجددًا للروح فقال عنها: «صوت هو خلاصة الصوت، لشاعرة تغوص على الجوهر بلغة موجعة من فرط طهارة نورها. فى عالمها المرهف المجدِّد للروح، تحت سماء النقاء المنساب كماء الفجر، المستنير بشغف الجمال، لا شىء يقوى على الرجاء.. ندى الحاج فى نشوة النور وهى روحُ ما يسمو على الجرح والنور الصامدُ فيه هو النور الذى لا تطفئه عاصفة... وكانت لها الكلمات ما لم يستطع أن يكونه لها شىء ولا أحد».

فى هذا الحوار، نستكشف عالم ندى الحاج الشعرى وأوجه تقاطعه وكذلك افتراقه عن مشروع أنسى الحاج الشعرى، كما نتطرق معها إلى آفاق الكتابة الممكنة على وقع الحرب والأحداث العاصفة التى يموج بها بلدها لبنان. 

■ منذ ديوانك الأول «صلاة فى الريح» (١٩٨٨)، وديوانك الأحدث «خطواتٌ من ريش» (٢٠٢٣) ما الذى تغيّر فى كتاباتك الشعرية فصار أكثر حضورًا؟ وما الذى توارى إلى الهامش؟ 

- أكتب الشعر لأُحيى وجودى بأبعاده المشرعة على عناصر الكون وتوقى نحو المطلق. وذلك منذ قصيدتى الأولى التى افتتحت بها ديوانى الأول «صلاة فى الريح» بعنوان «أرضٌ مشرعة على السماء». ولا أزال أكتشف دربى الذى أمشيه بخطوات تنقلنى حيث نداء النور والحب. وهو درب تتمازج فيه الأشواك بالرياحين وظلمة الكهوف بواحات الصحراء مرورًا بالينابيع. قلبى على الشعر ونداؤه داخلىّ. ما يتوغل فى التوارى إلى الهامش هو ما كان دائم التوارى عندى، أعنى سطحيات القشور وبريقها الفانى. ما يهمنى هو الجوهر وأريج الأثر.

■ كثير من النقاد يرون فى شعرك صوفية عميقة وتجديدًا فى اللغة. كيف تعملين على صياغة هذا التجديد؟ وهل تعتبرين الشعر تجربة ذاتية بحتة أم وسيلة للبحث عن المطلق، كما هو الحال فى التصوف؟

- سر التجدد يكمن فى الدهشة وهى ألق الحياة، حتى خلال الحزن والألم حيث يخترع الشعر لغته كمن ينقّب عن الجواهر فى الوحول قبل أن يتبدى الذهب ويجلو. اللغة عندى تنسكب بلا نحت، نتيجة طبيعية لصقل داخلىّ مستمر وتَحوُل خيميائى، أعيش من خلاله صيرورتى فى عالم أراه ببصيرتى وبصرى معًا. ينطلق الشعر من التجربة الذاتية، بما أن الذات نقطة الانطلاق نحو رحابة العالم الأكبر. فالشعر ليس وسيلة بل مفتاح كشفٍ بين غلالات للتقرب من معرفة الذات والآخر، كلمسة تستكشف وقلبٍ يصغى. 

■ قصائدك تحولت إلى أغانٍ ومقطوعات موسيقية لماجدة الرومى وهبة القواس. إلى أى مدى أثّرت هذه التجربة على تلقى أعمالك؟ وهل تكتبين بعض القصائد وأنتِ تتصورينها مغناة؟

- فعلًا هى تجربة جميلة أن أسمع قصائدى مغنّاة بصوت الصديقتين ماجدة الرومى والمؤلفة الموسيقية هبة القواس، وأن تحلِّق هذه القصائد بأجنحة الموسيقى والأداء الخاص بكل منهما. لا أكتب القصائد لتُغنى بل ثمة موسيقى انسيابية فى شعرى تعكس شخصيتى وحبى للتناغم. طبعًا غناء القصائد يسهم فى انتشار اسم الشاعر وفى التعريف عنه بشكل أوسع، لكن هذه النقطة بالذات ليست الأهم عندى، بل تَزاوج الكلمة والموسيقى والصوت بالبعد الإنسانى الذى يربط بينها، وأعنى العلاقة الإنسانية التى هى تولِّد الإبداع. 

■ كتبتِ قصائد بالفرنسية وترجمتِ من الفرنسية إلى العربية. كيف تؤثر ثنائية اللغة على فكرك وأسلوبك الشعرى؟

- كتبتُ منذ مراهقتى وما زلت أكتب قصائد بالفرنسية حتى لو لم أنشرها فى كتاب بعد، ربما سيحين وقته. اعتدتُ القراءة بالفرنسية منذ طفولتى وأحب الثقافة الفكرية التى تمنحها هذه اللغة. ثنائية اللغة تغْنى صاحبها بطبيعة الحال، مضيفة إلى مخزونه ولا وعيه آفاقًا ومعرفة أرحب. لكل لغة سحرها وفرادتها، ويبقى الشعر هو القبطان الذى يبحر فى غمارها بحثًا عن اللآلئ النادرة. 

■ ما التحديات التى تواجهينها بصفتك شاعرة تنتمى إلى بلد يعانى من أزمات متكررة؟ كيف تؤثر الأحداث على كتاباتك الشعرية؟ وما الدور الذى تعتقدين أن الشعر يمكن أن يلعبه فى مثل هذه الأزمات؟ 

- أنا ابنة الحروب المتتالية فى لبنان، حيث أتوق إلى سلام القلب والعيش الآمن. والقلق الذى تسببه الظروف الأمنية والهزات الوجودية تزيد من قناعتى بأن السلام مسعى داخلى أولًا وآخرًا. أحاول ترويض القلق بعدة طرق مجبولة بتذوق الحياة وبالخيال. الخيال حقيقة تتجسد فى تأملاتى ورؤيتى للواقع. «إنما الكون خيال وهو حق فى الحقيقة» كما يقول ابن عربى.

لا أُحمِّل الشعر دورًا معينًا أكثر مما يحمله الشاعر نفسه. ولكل شاعر طريق وأسلوب ينعكسان فى منحى قصائده. يمكننى أن أتكلم عن نفسى فى ظل هذه الحروب التى تعصف بلبنان وفلسطين، حيث أنكفئ عن نشر القصائد الذاتية على صفحة التواصل الاجتماعى إلا القصائد التى تزخر بمعاناة الإنسان المظلوم والموجوع والمذعور الباحث عن ذرة نور ورجاء يحفظ بها كرامته التى تُسحب منه بقوة القهر والقتل. 

■ كيف ترين قصائدك وتوجهك الشعرى مقارنة بوالدك أنسى الحاج؟ هل تشتركين معه فى بعض المفاصل إلى حد يجعلك أحيانًا تفكرين فى كونك امتدادًا شعريًا له بصورة من الصور؟ وما الذى يفصلك تمامًا عن تجربته الشعرية؟ كيف تمكنتِ من بناء خصوصيتك الشعرية بعيدًا عن تأثيرات والدك؟

- هذا سؤال يتطلب صفحات للإجابة عنه. لكن يمكننى أن ألخص ما أراه بديهيًا بعيدًا عن المقارنة، بدءًا بأوجه الاختلاف بين الشخصيتين كما فى الظروف الحياتية، لاسيما بما يتعلق بيُتم والدى الأمومى المبكر الذى طبع تركيبته النفسية منذ عمر السبع السنوات، تاركًا فيه جرحًا لم يندمل، وبركانًا لم ينطفئ، وتمردًا متأججًا باستمرار، أثمر لديه حاجة ملحة فى دَك أسوار اللغة وتكسير السدود بكل أنواعها، لتنجرف شلالات اللا وعى المكبوتة فى كتابه الأول «لن» ١٩٦٠، ومقدمته التى ما زالت مفاعيلها سارية حتى اليوم كمفاعيل تأثيرات القنبلة الانشطارية. 

من الصعب التكلم عن نفسى وأدَع شعرى يتكلم عنى وأنا أُصفّى مرآتى الداخلية وأُغربل ما ينعكس على وجه البحيرة. حتى فى أحلك الظروف لم يجد اليأس سبيله إلىّ ولم يخلخل الغضب جذورى. كل ما فى الأمر، أنى أتبع خيطًا دقيقًا موصولًا بعين القلب، بعيدًا عن التصنيفات التى تقولب الشعر والشعراء ضمن مدارس وتسميات لا تعنينى. بنيتُ خصوصيتى الشعرية بهدف أن أكون ذاتى كعيون المياه المتدفقة نحو البحر، بحروف أشبه بمفاتيح وسلالم موسيقية تعزف على أوتار الكون الظاهرة والخفية، لتَلبسَ الروح جسدَها ويتدثر الجسد بلغة شعرية من صميم كينونته وشغفه وأسراره.

ما أتشارك فيه مع أبى هو الرؤية الخيالية للواقع والسعى الدائم للجمال والثورة على الظلم، والإيمان بأن الشعر هو واحة خلاص فى هذا الطوفان... لا أعرف إن كنت امتدادًا له، وأعرف أنى أحمل جينات منه ونقاط تشابه فى بعض جوانب التركيبة النفسية لكل منا.

■ تولين اهتمامًا خاصًا بإحياء إرث أنسى الحاج عبر إعادة طباعة أعماله.. كيف تختارين النصوص وتخططين لإعادة تقديم إرثه لجيل جديد؟ وما الذى تتطلعين لتحقيقه بهذا الصدد؟ 

- رحل أنسى الحاج تاركًا خلفه فكرًا رؤيويًا حيًا عابرًا للزمن تجلى فى شعره ونثره، سابقًا حاضره وشاهدًا له. وقد ترك بين يدىّ مسئولية معنوية كبيرة. إحدى الوسائل لإبقاء شعلته متقدة هى فى إعادة إصدار كتبه وإصدار مخطوطات له لم يسبق أن نشرها فى كتب. فى هذا السياق أصدرتُ عام ٢٠١٦ «كان هذا سهوًا» عن دار نوفل يضم كتابات له غير منشورة فى كتاب. ثم أشرفتُ على نشر كتاب أعماله الشعرية الكاملة عن دار المتوسط ٢٠٢٣، وأيضًا مختارات شعرية له فى كتاب «وردة الذهب» ٢٠٢٤ عن دار المتوسط بشراكة مع مجموعة أبوظبى للثقافة والفنون. كما ستصدر فى عام ٢٠٢٥ عن الدار نفسها كتاب مقالات أنسى «كلمات كلمات كلمات» بأجزائه الثلاثة، التى كتبها بين الستينيات والسبعينيات فى الملحق الثقافى لجريدة النهار وكانت المجموعة قد صدرت سابقًا فى ثلاثة كتب عن دار النهار ونفدت نسخاتها. وسنعيد فى العام نفسه إصدار كتابَى «خواتم١» و«خواتم٢». والجديد سيكون إصدار «خواتم٣»، وهو مجموعة كتاباته خلال أعوامه السبعة الأخيرة والتى لم يتسن له الوقت بتجميعها وغربلتها ونشرها فى كتاب، تاركًا لى هذه المهمة التى أُنجزها بعيونه وحسه وحضوره الروحى الذى يرافقنى على مدار النفَس. 

■ كيف تسعين للتوفيق بين الجانبين الفلسفى والعاطفى فى قصائدك؟ وما الذى تتطلعين لتحقيقه من كتابتك للشعر؟ 

- هى نظرتى للحياة وإحساسى بها. ما أنتظره منها ومن نفْسى، هو أن نتعانق فى اللحظة الشعرية التى تكتنف الوجود وتتخطاه إلى ما هو أبعد. عطشٌ ولا ارتواء، إبحار وسؤال دون انتظار الجواب، صلاة وبحث فى رحلة الذات عن نور فى مكان ما. الحالة الشعرية لا تكتفى باللغة وإطارها اللا مكان، حيث الحب خارج الكلمات والشعلة تومئ وتفيض من رجاء. 

■ مَن هو القارئ المثالى الذى تخاطبينه فى شعرك؟ وهل تؤمنين بأن الشعر يجب أن يكون موجهًا لذائقة الجمهور؟

- القارئ يعيد كتابة القصيدة بتلقفه لها واحتواء أصدائها وأمدائها، ولكل قارئ استعداد مختلف لتلقى ارتداداتها. لا أبحث عن إرضاء أحد بل أن أكون كنقطة الندى فى القلب وأريج الورد بين الأشواك. كل ما فى الوجود يخترقنى ولا أكتفى بالتعبير عن مشاعرى وحسب، لكن أن ينصهر وجدانى بأتون الحياة التى هى لغز أحاول تذكُّر معانيه. أفرح بالقارئ الذى تصله ذبذبات القصيدة ويصل إلى أعماقها فيكون شريكًا فى الرحلة. احتمال وجود القارئ يبرر للشاعر نشر قصائده، كرسالة مخفية فى زجاجة يرميها كاتبها فى البحر لتصل إلى يدٍ ما.