الأربعاء 15 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«يونيفرس».. قصة الحكومة السرية التى تحكم العالم

حرف

- رضوى الأسود ترصد تهديدات التقدم التقنى على المستويات الثقافية والاجتماعية والإنسانية

- الإنسان «دمية» فى يد القوى المتحكمة فى تكنولوجيا وسائل التواصل التى تعيد تشكيل الواقع لتلبية الأهواء الفردية والمصالح التجارية

- بطلة الرواية تؤمن بوجود قوى خفية تخطط لتحجيم الشعوب الضعيفة لصالح القوى المسيطرة

ما بين الاحتماء بالأمل والاستسلام الكامل لليأس، تتأرجح رواية «يونيفرس» للكاتبة المصرية رضوى الأسود، الصادرة عن «دار العين»، إذ تتجلى الكتابة باعتبارها ملاذًا أخيرًا ودرعًا يحتمى به الإنسان من ضربات الحياة القاسية، فتتحول الحروف إلى حصن يمنح البطلة والكاتبة معًا القدرة على مواجهة الفقد والتشاؤم وما قد يسببانه من يأس تام.

تحمل عتبات النص، بدءًا من الإهداء والاقتباسات التقديمية، تمهيدًا لفكرة أن الكتابة أداة للبقاء ومواجهة العبث، أشبه بخطوة أخيرة نحو الحرية، حتى لو كان الثمن هو الاندفاع نحو المجهول. من هنا يأتى استدعاء الرواية لأصداء مقدمة محمد شكرى فى «الخبز الحافى»، بقوله «قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتمًا طريقها، لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزنا أو نزوة غافية، أن تشعل لهيبًا فى المناطق اليباب الموات». بهذه الروح، تسعى «يونيفرس» لتكون حكاية إنسانية تتجاوز الزمان والمكان متخذة من الكلمات شعلة قد تنقذ العالم من عتمته.

 

عالم متخيل يلامس الواقع

تصور الرواية عالمًا ديستوبيًا بزمان ومكان غير محددين، ولكنهما يلامسان الواقع الراهن بحدة. فى هذا العالم المتخيَّل، تتشابك خيوط الحكاية عبر خطين سرديين يكشفان ملامح الأزمة المعيشة وتطوراتها المظلمة؛ إذ تحضر فى الخط الأول الأوبئة المصنعة بالمعامل، فتتحدث بطلة الرواية وكاتبتها «ميريت» من خلال مذكراتها عن وباء «كيوبيد» الذى يُصيب عضلة القلب مباشرة فيربك ضرباته إما بإبطائها أو بالإسراع منها. أما الخط الثانى، فهو تطبيق «يونيفرس» الذى بلغ فى نسخته الثانية حدًّا كارثيًا من السيطرة، بالتهامه الحياة الحقيقية، وتحويله الوجود الإنسانى إلى تجربة افتراضية شبه كاملة، جعلت من الصعب العودة إلى أى شكل أصيل من الحياة الواقعية. 

الرواية، من خلال محوريها الرئيسيين، تنسج صورة قاتمة لعالم تُطارد فيه الإنسانية بواسطة الأمراض البيولوجية والتكنولوجيا التى تجاوزت دورها الوظيفى لتصبح سجنًا ضخمًا لا يقتصر على محاصرة الجسد، بل يمتد إلى تقييد العقل والوعى. فى هذا السياق، تطرح الرواية تساؤلًا حول ما يمكن أن تعنيه الإنسانية فى عالم ما بعد إنسانى، بعد أن أصبحت التكنولوجيا هى القوة المهيمنة على كل جوانب الحياة البشرية، متغلغلة فى تفاصيل الوجود اليومى إلى حد أن الطبيعة الإنسانية نفسها تصبح مشوهة أو معدلة، عن قصد أو بدونه، وفقًا للضغوطات المستمرة التى تفرضها هذه التكنولوجيا.

وتتجاوز الرواية مجرّد التنبيه إلى هذه التحولات العميقة، لتغوص فى معالجة قضايا معاصرة وملحة، باتت تشغل الأذهان فى مختلف أرجاء العالم. أولى هذه القضايا هى التغيرات المناخية التى تشكل تهديدًا وجوديًا للبشرية، إذ تتصارع الكائنات الحية مع ضغوطات بيئية غير مسبوقة. كما تتعاطى الرواية مع مسألة المراقبة، التى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد فى ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة، والتى تهدد بانتزاع الحرية الفردية، وتحويل الإنسان إلى مجرد رقم. هذا النسيج المعقد من التحولات الاجتماعية والتكنولوجية يقدم صورة قاتمة لمستقبل قد يكون أقرب مما نعتقد، تتلاشى فيه الحدود بين الإنسان وآلاته، وتضيع الهوية الفردية فى متاهات الأتمتة والمراقبة الشاملة.

رضوى الأسود

مذكرات ميريت

لا تعتمد الرواية فى عرض أحداثها وأفكارها على حبكة تقليدية تتصاعد فيها الأحداث أو تتطور بشكل منطقى ومرتّب، بل تتطرّق للأحداث من خلال مذكرات تكتبها الشخصية الرئيسية؛ ميريت. تتنقل هذه المذكرات بين مخاطبة القارئ مباشرة فى بعض الأحيان، واستخدام ضمير المتكلم فى أحيان أخرى. إضافة إلى ذلك، تتكامل هذه المذكرات مع فصول الرواية الأخيرة التى يكملها شخص آخر بعد وفاة ميريت، والذى ينتمى إلى جماعة المقاومة التى كانت ميريت جزءًا منها.

لا يتبع السرد فى هذه المذكرات تسلسلًا زمنيًا أو ترتيبًا كرونولوجيًا للأحداث، بل تتناثر الأحداث بشكل غير متسلسل حسب ما تقتضيه ذاكرة ميريت، لتمنح القارئ فصولًا من الرواية مليئة بالانعكاسات والتأملات، أكثر من كونها سردًا متسلسلًا للأحداث. فى هذه المذكرات، تقدم ميريت وجهات نظرها عن عالم مضطرب.. تُقدّم الراوية هذه المذكرات باعتبارها وثيقة مشكوك فيها من حيث تصنيفها، إذ تقول ميريت: «تلك الأوراق التى أكتب فيها ما أكتب، لا أعلم إذا ما كانت ستصنف كمذكرات أم كتقرير لشاهد عيان على مرحلة بشعة من مراحل التاريخ. ولا أعلم إن كانت ستظل فى مأمن حتى يعثر عليها من يستحقها؛ ليروى للأجيال القادمة ما لاقيناه وما حيك ضدنا من مؤامرة شيطانية». هذه الكلمات تلخص موقف الرواية من الأحداث: هى ليست مجرد سرد للوقائع، بل هى أداة لتوصيل الفكر والمشاعر والهواجس، فى إطار سرد شذرى يفتح المجال للقارئ للتأمل فى معانٍ أعمق خلف الأحداث.

من خلال هذا الأسلوب السردى، تتمكن المؤلفة من خلق مساحة واسعة للتفكير والتأمل، بعيدًا عن القيود التى تفرضها الحبكة أو التتابع الزمنى للأحداث. فالمذكرات تصبح أكثر من مجرد سرد للوقائع، إذ تتحول إلى مدخل للتعاطى مع الأفكار والهواجس بطريقة تتجاوز السرد البسيط، ويجعل المذكرات وسيلة لإثارة للتساؤلات حول الواقع وكيفية تفاعله مع الماضى وتأثيره على المستقبل. 

الوجه القاتم للتكنولوجيا

مثلما يتيح شكل المذكرات مساحة أوسع للاهتمام بالأفكار على حساب الأحداث، فهو أيضًا لا يولى اهتمامًا ببلورة الشخصيات إلا بقدر ما يسمح بخدمة الفكرة المطروحة. تقتصر الرواية على أربع شخصيات هم ميريت الراوية الأساسية، وزوجها الأول فريد، والزوج الثانى حاتم، والشخصية التى جاءت بدون اسم بنهاية الرواية والذى يكمل سرد الفصلين الأخيرين على نفس نهج ميريت. ومع ذلك، فإن حضور كل من هذه الشخصيات يقتصر على طبيعة اشتباكه موافقة أو رفضًا لـ«يونيفرس»؛ العالم الافتراضى الكامل الذى حل محل الواقع، بما يعكس تفاعلاتهم مع الفكرة المركزية فى الرواية حول التكنولوجيا وتحول الواقع إلى وهم.

تصير الشخصيات أكثر من مجرد كيانات مستقلة لها تطورات وحكايات شخصية معقدة؛ فهى أدوات تسهم فى تسليط الضوء على قضايا من قبيل العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، وكيفية تأثير العالم الافتراضى على العلاقات الإنسانية. وعلى الرغم من أن المؤلفة تتيح مساحة للتفصيل فى بعض الجوانب العاطفية لشخصية ميريت وعلاقتها بحاتم، فإن هذا التفصيل لا يأتى بغرض بناء شخصيات كاملة ومعقدة، بل ليمنح فهمًا أعمق للفكرة التى تناقشها الرواية. يظل حضور الشخصيات فى الرواية مهمًا باعتبارهم تجسيدًا للخيارات أو المواقف المختلفة فى مواجهة عالم افتراضى يزداد هيمنة على الواقع. 

فى هذا السياق، يأتى فريد، زوج ميريت الأول، ليكون تجسيدًا للشخصية التى تُمثل الانغماس الكامل فى العالم التكنولوجى. هو «طفل مهووس بالتكنولوجيا وألعاب الفيديو»، يعمل «آى تى» فى إحدى الشركات العالمية، ما يجعله جزءًا من جيل تسيطر عليه التقنيات الحديثة بشكل مفرط. فريد، مثل العديد من الشخصيات فى الرواية، يتأثر بشكل كبير بوجود «يونيفرس»، ذلك العالم الافتراضى الذى يتداخل مع الواقع إلى درجة أن الحدود بينهما تختفى. هذا التداخل يعكس الخطر الذى يواجهه المجتمع البشرى فى ظل تطور التكنولوجيا إلى مستويات تجعل من الواقع نفسه أمرًا مشكوكًا فيه.

تنشغل الرواية بصورة أساسية، من خلال مصائر شخوصها أو من خلال تأمل الساردة، بالآثار السلبية الجمّة التى يحملها التقدم التكنولوجى الهائل والمتسارع، والذى يقدم وعودًا يوتوبية، بينما هو يمثل تهديدًا على شتى المستويات الثقافية والاجتماعية والإنسانية، وأفكارها عليه على نحو تفصيلى. 

يمثل يونيفرس تحولًا جذريًا فى الفهم البشرى للوجود، إذ تتلاشى الحدود بين الواقعى والافتراضى، ويصبح الإنسان مجرد شخصية وهمية فى محاكاة افتراضية، يحيا تجاربه وأحلامه بعيدًا عن القيود الاجتماعية والدينية والأخلاقية. فبينما كانت النسخة الأولى تحمل خطورة رغم كونها تتيح فقط الدخول إلى هذا العالم الافتراضى عبر نظارات للبعد الثالث، ليختبر الشخص كل ما يريد من خلال تفاعل مع عالم ليس له وجود حقيقى إلا فى الذاكرة الرقمية، فإن النسخة الثانية منه تمثل الكارثة، فهى شريحة رقيقة تزرع فى مقدمة الرأس، ترتبط بجهاز تحكم مزود بزرين، أحدهما للفتح والآخر للإغلاق، ما يتيح للفرد الولوج الكامل إلى هذا العالم الافتراضى المتقدم، الذى يتعدى كل الحدود المعروفة. هنا يظهر مفهوم «السايبورج» بوضوح، إذ يتحول الإنسان إلى كائن نصف بشرى ونصف آلى، خاضع تمامًا للتحكم التقنى، فيما يشبه تحولًا بيولوجيًا وتكنولوجيًا يعيد تشكيل الذات الإنسانية.

هذا التطور التكنولوجى المتخيل يعزز من فكرة أن البشرية قد فقدت هويتها الإنسانية تمامًا، لتحل محلها كائنات هجينة ناتجة عن التلاقى بين البشر والتكنولوجيا، وهو ما يعضده عوامل أخرى مثل التلاقيح والأطعمة المعدلة الوراثية وتدخلات التكنولوجيا فى كل مفاصل الحياة البشرية. من خلال هذه التقنيات المتقدمة والعوالم الافتراضية، تسلط الرواية الضوء على مدى تشابك الإنسان مع التكنولوجيا إلى درجة أنه يصبح غير قادر على التمييز بين ما هو حقيقى وما هو افتراضى. وهذا التداخل المتسارع فى الواقع الافتراضى يخلق أزمة وجودية لدى الأفراد، الذين قد يفقدون القدرة على التمييز بين هويتهم الإنسانية وبين الصورة الرقمية التى أصبحت هى الحقيقة الوحيدة الملموسة، وهو ما ينتهى بفريد نهاية مأساوية إذ يموت بسبب انغماسه الكامل لأيام فى العالم الافتراضى دون طعام أو شراب أو نوم. 

بين الماضى والحاضر

يمثل التداعى الحر للذكريات الذى ينساب عبر مذكرات «ميريت» فرصة للتأمل فى أوجه التقدم أو التردى التى حملها التطور التكنولوجى، فتتخيل ميريت محادثات متخيلة مع جدتها تفاضل عبرها بين حياة ظاهرها التعب وباطنها الراحة فى غياب التكنولوجيا، وأخرى تسهل فيها التكنولوجيا مختلف الأمور لكن الإنسان يشقى فيها بسبب من حالة السيولة الأخلاقية والاجتماعية التى جلبتها التكنولوجيا. 

على المستوى الاجتماعى، كانت الرقابة الأسرية فى الماضى تمثل فى نظر الأبناء «كبتًا» للحرية فى حين كانت الأسرة تمثل الحماية والتوجيه، كانت ثمة روابط قوية بين أفراد الأسرة بسبب الأنشطة اليومية والتفاعل المباشر مع الأبناء وتبادل الأحاديث معهم بعيدًا عن التكنولوجيا، أما اليوم فقد أصبحت المجتمعات «مفسّخة» كما تصفها الراوية بسبب تفكك العلاقات الإنسانية فى ظل انتشار التكنولوجيا التى تبدو ظاهريًا وقد سهلت الحياة وجعلتها أكثر رخاء بينما الحقيقة هى أننا أصبحنا نعيش فى «عالم افتراضى» منفصل عن الواقع، وصارت الروابط العائلية ضعيفة والكثير من الآباء أصبحوا متورطين فى العالم الرقمى. 

تتطرق الرواية كذلك إلى تراجع الشعور بالتهديد الأخلاقى للتكنولوجيا، فبينما شهد الماضى مقاومة حقيقية لتهديدات التكنولوجيا مثلما حدث عند الحديث عن استنساخ النعجة دوللى بعد أن أثار الموضوع مخاوف واسعة فى المجتمع من تهديد الطبيعة البشرية، نجد اليوم تراجعًا لمثل هذه التساؤلات الأخلاقية بعد أن تغلغلت التكنولوجيا فى كل جوانب الحياة.

ثمة إشارة من جهة أخرى إلى دور وسائل التواصل الاجتماعى فى نشر الزيف والكذب، والتحول فى القيم والمفاهيم بعد أن أصبحت الحقيقة مغيبة وكل شىء حولنا محاكاة للواقع، فالنمط الجديد للحياة صار «صناعة وهمية» تروج له منصات السوشيال ميديا، وأصبح النجاح والشهرة يقاسان بالمشاركة فى هذا العالم الافتراضى المضلل، كما بات الإنسان مجرد «دمية» فى يد القوى التى تتحكم فى تكنولوجيا وسائل التواصل، والتى تعيد تشكيل الواقع لتلبية الأهواء الفردية والمصالح التجارية، بل إن الثقافة ذاتها فى ظل استحكام هذا العالم الافتراضى لم تعد سوى فرصة للاستعراض أكثر من كونها تمثيلًا لوعى حقيقى. 

الخطة الشيطانية

على الرغم من الأجواء القاتمة التى تهيمن على الرواية، تظل هناك إشارات قوية للأمل تتسلل بين ثنايا النص بطريقة مباشرة وغير مباشرة. من جهة، تختار المؤلفة أن تجعل ثلاث من شخصيات الرواية الأربعة تمثل محور المقاومة والرفض لكل ما هو قائم من تهديدات تكنولوجية وفقدان إنسانية. هؤلاء لا يتوقفون عن محاربة الواقع سواء من خلال وعيهم بالأبعاد السلبية لما يحدث أو من خلال مقاومتهم بالفعل والكلمة، مما يضفى على الرواية طابعًا من التمرد والرفض السلبى لما فرضه العالم من تغييرات.

من جهة أخرى، تتشبث نهاية الرواية بالأمل، ولكن هذا الأمل ليس سهل المنال أو ورديًا. إنه أمل مدرك تمامًا أنه محارب فى معركة شديدة الصعوبة، لا ينفصل عن الواقع المرير الذى تعيشه الشخصيات، ولا يعنى الهروب من الواقع أو الاستسلام له، بل يعبر عن إرادة قوية فى مواجهة التحديات والظروف القاسية.

تنبه ميريت عبر مذكراتها إلى الخطة الشيطانية للسيطرة على العالم، معلنة إيمانها التام بما يُطلق عليه «نظرية المؤامرة». تكتب ميريت: هل تعلم أن ١٪ يحكمون العالم، و٤٪ يتم تحريكهم كالدمى، و٩٠٪ غافلون، و٥٪ يعرفون الحقيقة؟ وأن الأحداث كلها تدور فى محاولة الـ٤٪ فى منع الـ٥٪ من إيقاظ الـ ٩٠٪؟

من هنا، تشرع فى الحديث عن «التزييف الإعلامى والتلاعب بوعى الجماهير عبر التاريخ»، بما يكرس الاعتقاد بأن وسائل الإعلام تخدم أجندات خفية تهدف إلى تغيير وجهات نظر الناس، وتشويش وعيهم، كما تتطرق إلى الحديث عن «حرب بيولوجية» و«الفيروسات القاتلة»، فتعتبر أن الوباء المتخيل «كيوبيد» ليس محض صدفة، وإنما هو مُصنّع بغرض تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية، مثل تقليص عدد السكان أو إحداث فوضى عالمية، للوصول إلى «المليار الذهبى». تعبر ميريت عن إيمانها بأن هناك مجموعة من القوى الخفية التى تعمل وفق خطة محكمة للقضاء على الشعوب الضعيفة أو تحجيم قوتها لصالح القوى المسيطرة، وهو ما يتماشى مع ما تقدمه نظرية المؤامرة من رؤى حول القوى المهيمنة التى تسعى لتوجيه مسار التاريخ بما يخدم مصالحها على حساب الدول والشعوب الأضعف.

وتتعزز تلك الأفكار من خلال المتخيل الروائى، إذ تحرص وكالات الإغاثة بالرواية عقب كساد ثم مجاعات على تزويد الشعوب بغذاء هو سائل أحمر لزح موضوع فى أمبول بلاستيكى يفتح تلقائيا بمجرد إدخاله فى الفم، ميريت تتساءل: «هل هذا الطعام يحمى وينقذ حقًا؟»، لتجيب نافية، فهذا الطعام لا يقتل مباشرة، بل يُميت ببطء، يُفقد البشر إنسانيتهم ويشل أجهزتهم، ما يحولهم إلى كائنات لا تقوى إلا على الزحف.

تتشارك ميريت مع زوجها الثانى، حاتم، ومع الجهة التى تتبنى نفس أفكارها، فى خوض معركة مقاومة ضد الزيف الذى يحيط بالعالم، تتجسد فى الكتابة التى تحمل رسائل توعية تهدف إلى فضح الحقائق وإظهار التلاعب الذى يمارسه النظام العالمى للسيطرة على الإنسان. كما تتمثل فى التشبث بكل ما هو طبيعى وأصيل، فى مواجهة المحاولات المستمرة لجعل الإنسان، وتحويله إلى مجرد أداة أو رقم يُدار وفق منظومات غير إنسانية تحت شعارات متعددة.

لا تتوقف رحلة ميريت عند حدود تجربتها الشخصية، بل تتجاوزها لتصبح أيقونة للنضال الواعى. ومع وفاتها، يواصل الراوى النهج الذى اختطته، محاولًا الحفاظ على نفس الروح المقاومة بفعل واعٍ يُخاطب القارئ مباشرة، محذرًا من خطورة الاستسلام لهذا العالم الذى يسعى إلى تدمير القيم الإنسانية الأساسية. بهذا، تتحول الرواية إلى صيحة ضد التشويه والاختلال، داعية القارئ إلى استعادة وعيه وموقعه فى المقاومة.