السبت 21 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مذكرات حلزون.. فيلم رسوم متحركة يبحث عن الأمل فى عالم بلا معنى

حرف

ضمن فعاليات الدورة الـ45 لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى، عُرض الفيلم الأسترالى «مذكرات حلزون» للكاتب والمخرج آدم إيليوت، الذى سبق وفاز بجائزة أوسكار عام 2004 عن فيلم رسوم متحركة قصير. الفيلم، الذى يعتمد تقنية الإيقاف الحركى، يجوب العالم ويحظى بإشادات نقدية واسعة ومراجعات تتناول بعمق فلسفته وشخصياته المعقدة.

فلسفة إيليوت

فى مقابلة أجراها موقع Filmint مع آدم إيليوت، كشف المخرج عن اهتمامه الدائم بمعنى الحياة وطبيعتها المليئة بالتحديات. قال إيليوت: «لطالما كنت مهتمًا بمعنى الحياة بشكل عام. لجأت إلى كتب تطوير الذات لفهم الحياة، لكن معظم هذه الكتب لا تقدم إجابات حقيقية. أنا أميل إلى الفكر الوجودى وأحتفظ بدفاتر ملاحظات مليئة بالاقتباسات التى ألهمتنى. أعلم أن وودى آلن كان مفتونًا بفكرة الموت، وأعتقد أن هذا مرتبط بسؤالنا الدائم عن كيفية إيجاد معنى وسط كل الفوضى. أحب الاقتباس الذى يقول: (كيف نجد معنى فى عالم بلا معنى). جميع الناس يمرون بمراحل من الأزمات الوجودية، لكننى ربما أكثر انشغالًا بهذا الأمر من الشخص العادى». 

أضاف إيليوت حول شخصياته فى الفيلم: «لطالما شعرت أن القسوة مع الشخصيات ضرورية لتطويرها. جريس فى (مذكرات حلزون) كانت بحاجة إلى أن تصبح شخصًا كاملًا بذاتها، لم أرد أن تكون القصة عن حاجة جريس لرجل فى حياتها أو حتى لشقيقها التوأم لتشعر بالكمال. أما بينكى، فرغم ماضيها المظلم، أضفتها لتخفيف الأجواء الكئيبة بالكوميديا. إنها توازن بين المأساة والكوميديا».

تأملات وجودية معقدة

يخالف الفيلم الاعتقاد الأولى المسبق بتوجهه إلى جمهور الأطفال، فعلى العكس من ذلك، الفيلم موجّه للبالغين ليس فقط لما يحتويه من مشاهد عنف وعلاقات جنسية غيرية ومثلية، ولكن أيضًا لتعامله المعقد مع جملة من المشاعر والأفكار المُركبّة التى تعد بمثابة تأملات وجودية فى معنى الحياة. 

يُجرّد الفيلم الحياة من أحداثها المعقدة والمتشابكة، ليطرح من خلال قصة بسيطة تتوقف أمام محطات مفصلية من الخسارة والفقد والوحدة والحب المُفتقد رؤية وجودية للحياة تعى تمامًا ألا معنى لها سوى ما يخلقه أفرادها المنغمسون فى تعاطيهم الإشكالى مع قسوتها حينًا ولا منطقيتها حينًا آخر. 

ما نتعرف عليه بمشاهدة الفيلم ليس مذكرات الحلزون، بل مذكرات «جريس» التى تروى طوال الفيلم قصة حياتها لحلزونة تدعى «سيلفيا». جريس، التى تتماهى مع الحلزون فى مسار حياتها وخياراتها، تجعل من الحلزون رمزًا لحياة اتسمت بالتعقيدات والالتواءات، تمامًا مثل جسمه المنحنى. وبانطواءها مع كل منعطف يمثل خطرًا، تشبه جريس بالفيلم الحلزون الذى يحتمى بقوقعته الصلدة للفرار من المخاطر.

يبدأ الفيلم من النهاية مع فقدان آخر أمل برق فى حياة جريس القاتمة، برحيل بينكى؛ المرأة المسنة التى كانت خير رفيق لها فى وحدتها وحزنها الدائمين. ومن أمام قبرها، تشرع جريس فى سرد مذكراتها منذ ولادتها مع توأمها جيلبرت وطفولتهما المشتركة التى لم تخلُ من المخاوف والأحزان والمحاولات الموءودة للإمساك بمعنى لحياتهما، ووصولًا إلى مراهقتهما التى شهدت انفصالهما ليواجه كل منهما حياة مغايرة. 

تنطوى حياة الشقيقين على مسارات مختلفة بسبب الظروف الصعبة التى مرّا بها منذ ولادتهما. جريس، التى تعانى من تشوه خلقى فى شفتها، تتعرض للتنمر والمضايقات، بينما يظل شقيقها جيلبرت دائمًا إلى جانبها، منقذًا لها فى اللحظات الحاسمة. يسعى جيلبرت إلى اقتفاء أثر والده فى بحث عن مغامرات جديدة وحياة ملؤها الشغف تخلّت عن والده فأماتته حيًا، بينما تميل جريس إلى العزلة والهدوء وتتعلق بكل ما يمت للحلزونات بصلة، مثل والدتها التى رحلت مع ولادتها، كما تحلم بأن تصبح صانعة رسوم متحركة.

يشهد الطفلان تقلبات الحياة المريرة فى وقت باكر، إذ تمنحهما الحياة المزيد من الفقد، يفقد الأب وظيفته ومصدر دخله ويعانى من الشلل الدائم ما يجعل ظروف حياة الطفلين قاسية، ثم يرحل الأب وتصير الحياة أكثر قسوة بعد أن يُرسل كل من الطفلين إلى عائلتين مختلفتين، ويحكم عليهما بفراق دائم لا تقطعه سوى مراسلات تحتفظ بخيط من الأمل فى لقاء منتظر يضنّ به القدر. 

فى إطار هذا الصراع، تنشأ علاقة جريس بحلزونتها الأليفة سيلفيا، التى تصبح بمثابة الصديقة المخلصة، فتروى لها جريس كل تفاصيل حياتها. تلتقى جريس بامرأة مسنّة تدعى بينكى، وهى شخصية مليئة بالحكمة والمغامرة، ما يعيد الأمل إلى حياة جريس. على النقيض، يظل جيلبرت عالقًا فى دوامة من الحزن والوحدة، بعيدًا عن تلك الروح المغامرة التى ترافق جريس.

عبر الرسائل المتبادلة بين التوأمين، يبدأ كل منهما فى اكتشاف طرق جديدة لفهم ذاته والآخر. تُستكشف ضحالة المعانى التى تُفرض جبرًا على الأشخاص كى تحدد لهم مساراتهم وتنهاهم عن غيرها، وزيف الشخصيات التى قد يظنها الفرد بمرحلة ما من حياته هى ما تمنحه القيمة والمعنى لحياته، لتُدرك جريس، بوقت متأخر، ألا معنى لكل شىء سوى ما تصنعه هى بنفسها، وأن فهم الماضى ضرورة لكن الوقوف عنده كفيل بقتل الحياة وبتوقف الحركة، حتى وإن كانت حركة بطيئة مثل خطوات سير الحلزون.

يتعاطى الفيلم مع قضايا معقدة مثل الفقد والوحدة والألم والموت فى إطار محاولة لصنع التوازن بين تداعى الأفكار السلبية لدى «جريس» التى تبدو مذكراتها وكأنها سلسلة متصلة من صدمات الحياة فرضت عليها الحزن والعزلة والوحدة، وبين التعاطى المرح والبسيط مع الحياة مثلما تفعل المسنة «بينكى»، التى تسعى للقبض على زمام حياتها رغم كل ما يواجهها من شيخوخة ومرض ووحدة قاسية وماضٍ مؤلم، فتفيض حياتها ببهجة لها ولرفيقتها جريس. 

انعدام المعنى 

هل ثمة معنى للموت والفقد والوحدة؟ وهل من معنى للمعاناة؟ وهل ثمة معنى واحد بالأساس للحياة البشرية يمكن تلقينه؟ تتبنى «مذكرات حلزون» الفكرة الوجودية عن فقدان المعنى فى الحياة إلا بما يضفيه الإنسان نفسه عليها وما يُحملها هو من معنى. ففى تماهى «جريس» مع «الحلزونة» شعور طاغ بمحدودية الإنسان الذى يظل يواجه مصيره بروح من التحدى. تتحرك جريس مثل الحلزون داخل مساحة محدودة، بسبب عجزها عن تقبل ذاتها كما هى، وهو ما يجعلها فى بحث مستمر عما يمنحها الأمان بمحيطها الصغير. تعكس جريس بتماهيها مع الحلزونة رغبة بشرية فى البحث عن الأمان بعالم ملىء بالقلق والمخاوف، وحالة من الترقب والانتظار السلبيين لما ستؤول إليه الحياة. 

ومع ذلك، فإن الفيلم يوجّه لحياة يُحركها المعنى، تُدعى جريس من خلال وصية «بينكى» ومن خلال رفقتها كذلك إلى الاشتباك الفاعل مع العالم الخارجى، والذى قد تتمثل أهميته فى أكثر الأشياء بساطة مثل الإمساك بيد ضعيف لطمأنته، والتشبث باللحظة الراهنة بكل ما قد تحمله من أمل وسعادة محتملين، وبالحرية بما هى شرط الوجود الإنسانى، والإيمان بالذات بمعزل عما يضفيه الآخرون من خلال أنفسهم أو معتقداتهم من معانٍ تخصهم. تؤمن جريس أخيرًا بأن عليها أن تنظر إلى الأمام لأن «الحياة لا تتعلق بالنظر إلى الوراء، بل بالمضى قدمًا»، وبأن قيمة حياتها كامنة فيها لا فى الآخرين، سواء هؤلاء الذين يمثلون جانبًا إيجابيًا مثل بينكى أو جيلبرت، أو أولئك الذين لا يرون سوى أنفسهم من علاقاتهم مع الآخر مثل زوجها. 

تدرك جريس أن الانطواء على الذات مثل الحلزون قد يكون ضروريًا فى مرحلة ما للبحث داخل الذات لكنه لا ينبغى أن يصير هو السلوك المهيمن، فالحلزون رغم كونه بطىء الحركة وضعيفًا، يستمر فى الحياة وفقًا لظروفه الطبيعية، ومثلما تؤكد الفلسفة الوجودية على ضرورة قبول الحدود، تتعلم جريس من الحلزون تقبل واقعها وتحقيق معنى لوجودها فى إطار عالمها المحدود. تُطلق جريس بنهاية الفيلم سراح الحلزونة متحررة من كل ما يكبلها من معتقدات وأفكار مغلوطة، لكنها تتعلم منها التشبث بإرادة الحياة وتقبل محدودية الوجود. من هنا، يصبح الحلزون رمزًا حيًا للبحث عن المعنى، ومواجهة التحديات الإنسانية.

درس النهاية

وصفت مراجعة صحيفة «نيويورك تايمز» الفيلم بأنه مزيج غريب من الكوميديا والتراجيديا التى تستوحى تأثيراتها من أعمال ديكنز. وأشارت إلى أن شخصيات الفيلم، رغم غرابتها وصعوبة مشاهدها أحيانًا، تحمل صدقًا وعاطفة تجعلها دعوة للتصالح مع الذات والمضى قدمًا.

وجاء فى المراجعة: «(مذكرات حلزون) لا تخلو من الإحساس بالصدق والعاطفة، إذ تشعر كأنها دعوة لأولئك الذين عانوا فى حياتهم ليكملوا. إن الرسوم المتحركة هى الشكل الأنسب لهذه القصة، إذ يتم تضخيم ملامح الشخصيات بشكل كوميدى، ما يجعل المشاهد محملًا بالكثير من السخرية السوداء. قد تكون المواضيع مظلمة وصادمة، لكن هذه الشخصيات الكاريكاتورية بمظهرها الغريب قد تجعل حتى اللحظات المؤلمة تبدو مرحة. هناك فعلًا درسٌ فى النهاية. القصة تدور حول شخص محاصر فى قوقعته، يقرر أخيرًا الخروج منها، ليكتشف حياة جديدة بعيدًا عن الخوف. حتى الحلزون، كما يذكرنا الفيلم فى النهاية، لا يستطيع إلا أن يتحرك للأمام».