وثائق المنع بعد خمسين عامًا على عرضه الأول.. هزيمة الشيوخ فى معركة «الرسالة»

- الفيلم كان محظورًا دون أن يصادره أحد بقرار رسمى أو حتى ورقة مكتوبة توضح أسباب المنع
- لجنة الفتوى بالأزهر أفتت سابقًا بتحريم ظهور شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه على الشاشة
- رابطة العالم الإسلامى قادت الحملة ضد الفيلم وأكدت حرمة تجسيد الصحابة
هذه قصة لا بد أن تُروى.. لا لنتسلى بها ولكن لنتأمل وقائعها.
تقول الحكاية إن الخيال ينتصر دائمًا على الواقع، وإن الإبداع يهزم الأفكار المتجمدة، وإن الفن مهما طالت السنون يستطيع أن يقهر هؤلاء الذين يتطرفون بالدين فيجعلونه معاديًا للحياة.
لن أحكى لكم قصة فيلم «الرسالة» الذى نعيش أجواء مرور ما يقرب من خمسين عامًا على إنتاجه، ولكن سأروى لكم قصة معركته مع رجال الدين ليس فى مصر فقط، ولكن فى العالم الإسلامى كله، وهى قصة تقول إن الاجتهاد عمره أطول من الجمود، وإن الكهوف المغلقة لا تظل كذلك دائمًا.
لقد فكر المخرج العالمى فى إنتاج فيلم الرسالة لأول مرة فى العام 1970، وخاض أهوالًا ليخرج الفيلم إلى النور، انتهى من تصويره خلال العام 1976، ليتم عرضه فى دور السينما العالمية، وسط حالة من الرفض المتعنت لعرضه فى الدول العربية والإسلامية.
بعد ثلاثين عامًا وفى العام 2006 عرضت القناة الأولى المصرية الفيلم فى سهرة ليلة رأس السنة الهجرية على القناة الأولى، وبعد ما يقرب من اثنى عشر عامًا، وفى العام 2018 وقف المواطنون السعوديون أمام دور العرض السينمائية ليقطعوا التذاكر لمشاهدة الفيلم، والتأكيد على أن صاحبه كان على حق.
خلال الثلاثين عامًا بين الرفض والقبول جرت أحداث كثيرة، ظل خلالها مصطفى العقاد مصرًا على حقه فى عرض فيلمه الذى أنتج منه نسختين، إنجليزية كان بطلها الممثل العالمى «أنتونى كوين»، والثانية عربية كان بطلها الممثل العملاق «عبدالله غيث». الفيلم عرض لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختار المخرج شخصية حمزة عم الرسول ليكون بطله الأبرز لضرورة درامية، فلا بد أن تكون هناك شخصية محورية فى الفيلم، وفى ظل عدم السماح بتجسيد شخصية الرسول، أو تجسيد الخلفاء الراشدين أو العشرة المبشرين بالجنة، فقد انحاز العقاد إلى أن يكون حمزة هو البطل.. لكن تظل سيرة الرسول وسيرة رسالته هى البطل الأول فى هذا الفيلم.

فى ٩ فبراير ٢٠٠٢ نشرت مجلة «روزاليوسف» تحقيقًا تناولت فيه أسباب منع فيلم الرسالة من العرض رغم مرور ما يقرب على ٢٥ عامًا على إنتاجه.
تحقيق «روزا» توصل إلى أن الفيلم محظور لكن دون أن يصادره أحد بقرار رسمى أو حتى ورقة مكتوبة توضح أسباب المنع.
كشف تحقيق المجلة أقول سرًا أو بالأدق سببًا كان مغمورًا ومنسيًا، فقد أتى موقف الأزهر من الفيلم متأثرًا بوثيقة طائشة أصدرتها «رابطة العالم الإسلامى» بمكة المكرمة عن الفيلم.
أعادت المجلة نشر البيان الذى كانت الرابطة قد أصدرتها بعد إعلان مصطفى العقاد أنه سيبدأ فى إنتاج فيلم اسمه «محمد رسول الله»، وكان هذا هو الاسم الأول للفيلم قبل تغييره لـ«الرسالة» بعد الاعتراض عليه.
لكن قبل أن نستعرض هذه الوثيقة، لا بد أن نعود معًا إلى المرة الأولى التى أعلن فيها العقاد عن فيلمه.
كان ذلك من خلال جريدة الأهرام، ففى ١٩ مارس ١٩٧٠ نشرت جريدة الأهرام خبرًا عن وصول البعثة السينمائية الأمريكية التى ستقوم بتصوير فيلم « محمد رسول الله» من تأليف عبدالحميد جودة السحار، وإنتاج شركة «عقاد فيلم» فى هوليوود المملوكة لسينمائى عراقى مهاجر هو مصطفى العقاد.
وأشار خبر الأهرام إلى أن البعثة ستشاهد الديكور السينمائى الذى أقيم لمناظر مدينة مكة فى منطقة أبورواش، شمال الأهرام التى سيتم فيها تصوير بعض لقطات الفيلم الخارجية، بينما يصور البعض الآخر فى السعودية وإندونيسيا.
ويكشف الخبر عن معلومة جديدة تخص أبطال الفيلم.
ففى التصور الأول لم يكن هناك وجود لـ«أنتونى كوين» أو «عبدالله غيث»، فطبقًا للخبر سيتولى بطولة النسخة الإنجليزية من الفيلم الممثل العالمى «شارلس هستون» الذى مثل شخصية النبى موسى فى فيلم «الوصايا العشر»، بينما يقوم ببطولة النسخة العربية الفنان «محمود مرسى».

وتشير الأهرام إلى أنه فى الغالب فإن ديكور مدينة مكة الذى كان مقررًا أن تعاينه هذه البعثة، هو الديكور الذى صممه عبدالمنعم شكرى لفيلم «فجر الإسلام» الذى كان يخرجه صلاح أبوسيف آنذاك، والذى كتب قصته وحواره عبدالحميد جودة السحار، والذى كتب قصة فيلم «محمد رسول الله».
لم يمر الخبر الذى نشرته الأهرام مرورًا عابرًا، كان هناك من أمسك به، وقرر أن يشعل النار فى أبطاله، هؤلاء الذين تجرأوا وفكروا فى تقديم فيلم اسمه « محمد رسول الله».
كان من فعل ذلك هو الشيخ «أبوالنصر مبشر الطرازى» الذى ولد فى العام ١٨٩٧ وتوفى فى العام ١٩٧٧، وهو طبقًا للمعلومات المتوفرة عنه روسى كان ينتمى إلى الجمهوريات الإسلامية التى كان يضمها الاتحاد السوفيتى، هاجر إلى أفغانستان وحصل على جنسيتها، وتجول بين عدد من البلاد الإسلامية منها السعودية والهند، واستقر فى مصر فى العام ١٩٤٩.
توثقت علاقة الطرازى بالجمعيات الإسلامية ومنها الشبان المسلمون والإخوان المسلمون والجمعية الشرعية وشباب محمد.

كان الطرازى يكتب فى الصحف ويحضر الندوات ويشارك فى المؤتمرات، وكان يهتم بتحرير تركستان من الحكم الشيوعى، أعد مذكرة تعترض على تصوير هذا الفيلم وأرسل بها إلى شيخ الأزهر وقتها الدكتور محمد الفحام والرئيس جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز ملك السعودية والشيخ محمد سرور الصبان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة.
أعدت الرابطة بيانًا، هو الوثيقة التى كشفت «روزا اليوسف» عنها فى مارس ٢٠٠٢، وهو بيان صدر دون أن يكون لدى علماء الرابطة معلومات كافية عن الفيلم فيما يبدو، وهو البيان الذى يمكن أن نعتبره السبب الرئيسى فى كل المشاكل الذى تعرض لها الفيلم بعد ذلك.
أرسلت الرابطة البيان إلى الأزهر فى أبريل ١٩٧٠ وقالت فيه: إننا لنكرم مصر العربية المسلمة أن تسمح لهذا العبث أن يجرى بين ظهرانينا وفيها رجال مخلصون تملأ نفوسهم الغيرة على دين الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لم يرد الأزهر على خطاب الرابطة.
فأرسلوا خطابًا آخر، قالوا فيه: لم نتلق أى رد عن موقف مصر المسلمة وعلمائها من هذا الحدث الخطير.
لم يجد الأزهر أمامه إلا أن يرد.
فى ٢١ يونيو ١٩٧٠ رد الأزهر بخطاب قال فيه: لجنة الفتوى بالأزهر أفتت سابقًا بتحريم ظهور شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه على الشاشة أو على خشبة المسرح، ورجال الأزهر حريصون أشد الحرص على المحافظة فيما يتعلق بأى شىء يمس الشخصيات الإسلامية وعلى رأسها الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
لم يأتِ الرد على هوى الرابطة، فأرسلت خطابًا ثالثًا إلى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، يسأل عن موقف مصر من الفيلم وإنتاجه، وكان رد المجلس: بعد الاطلاع على كتابكم - أى الرابطة - اتصلنا بمشيخة الأزهر، ورئيس مؤسسة السينما فنفيا وجود نية لتصوير الرسول صلى الله عليه وسلم فى فيلم سينمائى يصور على أرض مصر.

عقدت الرابطة اجتماعًا عاجلًا تم خلاله عرض الأمر على المجلس التأسيسى لها، فى دورته الثانية عشرة التى عقدت بمكة المكرمة فى أكتوبر ١٩٧٠، وجاء موضوع فيلم الرسالة على رأس جدول الأعمال.
قرر المجلس تحريم ظهور صورة الرسول صلى الله عليه وسلم فى الأفلام أو فوق المسارح بأى صورة أو مثال أو إشارة لما فى ذلك من انتهاك لحرمته وقداسة شخصيته صلى الله عليه وسلم، والمنافية لوجوب احترامه وتوقيره وتعظيمه.
ووضعت الرابطة شروطًا على المبدعين ليس فيما يخص فيلم الرسالة فقط، ولكن فيما يخص كل الأعمال الدرامية التى يمكن أن تتعرض للسيرة النبوية.
قالت: وضع الكاميرا فى موضع الرسول صلى الله عليه وسلم فى مواقفه ومشاهده وتصرفاته فى حياته وجب أن يكون حكمها فى حكم تحريم ظهور شخصيته وصورته صلى الله عليه وسلم.

وبررت الرابطة ما ذهبت إليه بقوله: كيف يليق ذلك بمن أرسله الله رحمة للعالمين، وأخبر عنه أن من أطاعه فقد أطاع الله وجعل اتباعه يوجب محبته تعالى، ورفع ذكره حتى إنه أمر أن يذكر اسمه مع اسم الله تعالى فى كلمة الإيمان وفى الأذان، وجعله أفضل خلقه حتى الملائكة والنبيين أجمعين.
وأضافت الرابطة: إن الإشارة إليه صلى الله عليه وسلم فى جميع شئونه بالكاميرا التى وضع خيال مكان الذات الشريفة يعد احتيالًا على التمثيل فى الفيلم، وبمثابة إشارة لا يقرها الشرع ولا يرضاها المسلمون قاطبة.
وأضافت: قد يتجرأ أقوام بعد حين، إذا أبيح إخراج هذا الفيلم على وضع صورة عادية مكان الكاميرا، وهنالك الطامة الكبرى والخطر العظيم والإثم الجسيم، ويستوى فى التحريم إخراج صورة عنه ووضع الكاميرا مكانها فى الفيلم أو الرمز إليه بشىء نحو ذلك، وإذا كانت الألفاظ التى فيها أذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإهانة محرمة، فكيف الخيال الذى يتحرك إلى الخلف والأمام وفى الصفوف والمواقف؟ وكما يحرم ذلك كله فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم يحرم كذلك تمثيل أصحابه الأكرمين رضى الله عنهم أجمعين، كذلك أجمع أهل العلم على حرمة تصويرهم فى الأفلام أو على المسارح لما فيه من المنافاة الصارخة، ونظرًا لأن الفيلم المزمع تصويره وإخراجه قائم فى كل مشاهده على وضع الكاميرا موضعه صلى الله عليه وسلم وعلى تمثيل كثير من الصحابة، وجب منعه مطلقًا.

وردت الرابطة على الجهات المناصرة لإنجاز السيناريو من أن عرض الفيلم فى البلاد الإسلامية وغيرها سيمثل دعاية قوية للإسلام وتدعيمًا لقضاياه، بقولها: مثل هذه التبريرات لا وزن لها، ولا تسوغ الالتفات إليها، فالإسلام لم يشرح الدعوة إليه وإذاعة أحكامه وفضائله بوسائل محرمة تزرى بمنزلة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
قرار الرابطة النهائى كان تحريم إخراج الرسالة أو إظهار صورة أو خيال عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء ولو بالإشارة إليه بالكاميرا أو نحوها، وكذلك إظهار صور أصحابه الأكرمين جميعًا، ومنع ذلك بتاتًا.
قرر مجلس الرابطة نشر هذا القرار فى البلاد الإسلامية عامة، وإبلاغه لجميع المنظمات الإسلامية ووزارات وإدارات الإعلام وإبلاغه إلى مشيخة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ونشره فى الصحف والإذاعات وتكليف الأمانة العامة للمجلس بتنفيذ ذلك، واتخاذ الإجراءات القانونية ضد كل من يحاول إخراج فيلم فى هذا الشأن الإسلامى البحت.
أنهى المجلس بيانه بقوله: نهيب برجال العلم وأئمة الإسلام وقادة الفكر الإسلامى وبكل من يعظم الرسالة ويمجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويحفظ له حرمته وحرمة أصحابه رضى الله عنه، أن يحول بما فى إمكانه وبقدر استطاعته دون إنفاذ هذا الحدث الخطير الذى يعد أهم حدث ضد الإسلام وعدوانًا على نبيه صلى الله عليه وسلم.

والتوقيع من الأمين العام محمد سرور الصبان.
بعد حوالى ما يقرب من شهر تلقت «روزاليوسف» رسالة خاصة من مصطفى العقاد تأييدًا للتحقيق الموثق الذى نشرته تحت عنوان « فيلم محظور لم يصادره أحد»، وتناولت فيه ملابسات منع عرض فيلم «الرسالة» فى مصر منذ ظهوره عام ١٩٧٦ حتى الآن.
وضعت المجلة عنوانًا لرسالة العقاد على النحو التالى: بعد ٢٦ عامًا من ظهور «الرسالة»... لا أعرف الجهة المجهولة التى تمنع عرض فيلمى فى مصر.
وكان هذا هو نص الرسالة كما نشرتها «روزاليوسف»:
«أشكركم على اهتمامكم بالموضوع وخاصة طرحه بالموضوعية المطلقة والمعلومات الدقيقة والتاريخية الصحيحة التى أعطت المقال الصيغة الوثائقية، إن ما يؤلمنى أن فيلم «الرسالة» يعرض فى جميع أنحاء العالم والدول والقنوات ما عدا مصر وسوريا وكل ما أريد أن أعرفه: لماذا؟».
مصطفى العقاد: الشيخ الشعراوى عانقنى بعد مشاهدة الفيلم.. وقال لى: «نطلب المزيد»
«فى أوائل السبعينيات عشت سنة بكاملها فى القاهرة لكتابة السيناريو مع أشهر الكتاب وألمع المرجعيات الدينية أمثال توفيق الحكيم وعبدالحميد جودة السحار ومحمد على ماهر وعبدالرحمن الشرقاوى، ومن الأزهر الدكتور عبدالمنعم النمر، والدكتور محمد عبدالرحمن بيصار، ومن جامعة القاهرة أستاذ التاريخ الإسلامى الدكتور أحمد شلبى، ومن لبنان العلامة الشيخ عبدالله العلايلى».

«وبعد انتهاء السيناريو أخذنا من الأزهر الموافقة الخطية، وختم الأزهر على كل صفحة فى السيناريو، ثم أخذنا موافقة المجلس الشيعى الأعلى فى لبنان، وبدأنا التصوير، وبعد انتهاء الفيلم عرضناه أول عرض فى لبنان، وبدأنا التصوير، وبعد انتهاء الفيلم عرضناه أول عرض فى القاهرة فى قاعة كبيرة، وحضر العرض رجال الدين والأزهر ورجال الدولة، وبعد انتهاء العرض كان له التصفيق الحاد والطويل، وكنت أنا فى المقصورة بجانب الشيخ محمد متولى الشعراوى وعانقنى وقال لى: نطلب المزيد».
«وبعد ذلك بسنة سمعنا أنه ممنوع فى مصر، والآن بعد ما يقارب الثلاثين سنة ما زلت لا أعرف، لماذا المنع؟».
«إن الفيلم فرض نفسه فى العالم والأرقام معروفة عن عدد الذين أسلموا تأثرًا بالفيلم، وكل ما أطلبه هو معرفة لماذا؟ لماذا؟ لماذا المنع؟».
«أنا لا أطلب السماح بعرضه لأنه عرض فى كل مكان، ولكن منعه فى مصر أمر لا أفهمه حيث أسهمت مصر فيه فكريًا وتقنيًا وفنيًا، ربما لم يعجبهم تمثيل عبدالله غيث، كما أننى لا أعرف الجهة المسئولة عن المنع، لذلك سألجا إلى القضاء لمعرفة السبب، وإذا كنت قد وقعت فى خطأ فيجب أن أصحح هذا الخطأ».
بعد شهور من رسالة العقاد إلى «روزاليوسف» وفى يونيو من العام ٢٠٠٢ وبعد مرور ٢٥ عامًا على إنتاج الفيلم طلب مصطفى العقاد فى اتصال تليفونى مع أحد مسئولى الرقابة مساعدته على عرض الفيلم مرة أخرى على الأزهر لإبداء رأيه، والحصول على الموافقة كشرط لعرض الفيلم جماهيريًا.

كان دافع العقاد هو استغلال الأحداث الساخنة والحس الدينى المتأجج لدى الجماهير خاصة فى ظل الممارسات الصهيونية بالأراضى المحتلة، فضلًا عن نفاد الرصيد الفنى من الأفلام الدينية والتى تم استهلاكها بالتكرار وأصبحت محفوظة عن ظهر قلب، كما أن أحداث الأقصى ومقدسات المسلمين والمسيحيين فى فلسطين وما تشهده من دمار وتخريب يحتم السماح بعرض مثل هذا الفيلم على العالم لتوضيح سماحة الإسلام وإبعاد تهمة الإرهاب من الالتصاق به، وخاصة بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١ بالولايات المتحدة الأمريكية، واتهام الإسلام كله بأنه كان يقف وراءها وليس تنظيم القاعدة فقط.
الرقابة أكدت على أن المصنفات الفنية وافقت على عرض الفيلم سينمائيًا دون حذف مشهد واحد من أحداثه، وأشاد تقرير الرقابة الذى تم رفعه للأزهر بمستوى الفيلم من الناحية الفنية، ويؤكد أنه إضافة جديدة على طريق التنوير.
قناة دريم عرضت الفيلم دون أن تراجع أحدًا فى ذلك الفيلم كان ممنوعًا فى مصر وسوريا والسعودية بالطبع بتأثير رابطة العالم الإسلامى
من جانبه، أكد الشيخ السيد وفا أبوعجور الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، أنه ستتم إعادة النظر فى قرار رفض الفيلم، وفى حال ثبوت عدم تعارضه مع القيم الدينية واتفاقه مع نص السيناريو الموافق عليه سلفًا من الأزهر، سوف يصرح بعرضه على الفور، وطلب عجور من مصطفى العقاد إقامة عرض خاص للفيلم ليتمكن أعضاء المجمع من مشاهدته، حيث إن معظمهم لم يشاهدوا الفيلم حين رفضه.
لم يعقد مصطفى العقاد عرضًا خاصًا للفيلم، تقريبًا لأنه كان يرى أن الأمور تجاوزت ذلك، فالعالم كله شاهد الفيلم، فما الداعى لأن نعيد ما جرى مرة أخرى.

كسرت الفضائيات الخاصة فى مصر الحصار، وكان أن بدأت الاقتحام قناة «دريم» التى عرضت الفيلم دون أن تراجع أحدًا فى ذلك.
فى العام ٢٠٠٦ عرضت القناة الأولى المصرية الفيلم، فى ليلة رأس السنة الهجرية، ووقتها وجد مجمع البحوث الإسلامية نفسه فى مأزق، فخرج الشيخ عبدالظاهر محمد عبدالرازق مدير عام إدارة البحوث والتأليف والترجمة المختصة بمنح موافقات الأزهر على الأعمال الفنية الدينية بمجمع البحوث الإسلامية ليخفف من وطأة ما جرى.
قال: المجمع لم يغير قراره السابق بعرض فيلم الرسالة، فلم يتم إعطاء أى موافقة للتليفزيون المصرى بعرض الفيلم على قناته الأولى فى سهرة أول أيام السنة الهجرية الجديدة، والمجمع متمسك بقراره السابق بعدم عرض هذا الفيلم نتيجة تجسيده شخصيات الصحابة بشكل واضح، وبالأخص شخصية سيدنا حمزة رضى الله عنه.
وأكد عبدالظاهر: سيتم عمل مذكرة يتم رفعها من شيخ الأزهر على إحدى القنوات المحلية المصرية، فالفيلم وإن كان قد تم عرضه فى القنوات الفضائية إلا أنه كان ينظر لهذه القنوات على أنها استثمارية تسعى وراء الربح، ولا تلتفت لرأى الأزهر، كما أنها لا تقع تحت أى إلزام قانونى، وبالتالى فإن عرضه عليها لا يعنى موافقة الأزهر، أما عرضه على قناة محلية مصرية فله بُعد آخر.
فى العام ٢٠١٨ نقلت وكالة رويترز وقائع ما جرى فى المملكة العربية السعودية التى كانت مصدر كل السهام التى وجهت للفيلم.
كان عنوان الخبر الذى نشرته وكالة رويترز هو: فيلم الرسالة فى دور السينما السعودية لأول مرة بعد ٤٢ عامًا من إنتاجه.

وفى الخبر صورة كان التعليق عليها كالتالى: سعوديون يتجمعون أمام شباك التذاكر لحجز تذاكر سينما فى الرياض يوم ٣٠ أبريل ٢٠١٨.
وجاء نص الخبر على النحو التالى: تستقبل دور السينما فى السعودية ودول خليجية أخرى فيلم «الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد خلال عيد الفطر، ليشاهده الجمهور العربى لأول مرة على الشاشة الفضية بعد أكثر من ٤٢ عامًا من إنتاجه، وكانت الدول العربية قد منعت عرض الفيلم المنتج فى ١٩٧٦ ويسرد قصة انتشار الإسلام فى شبه الجزيرة العربية، لتجسيده صحابة الرسول محمد والكثير من الشخصيات المحيطة به.
بعرض الفيلم فى السعودية، سقطت آخر قلاع للفيلم الذى شاهده العالم قبلنا.
لكن كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟
الإجابة عن هذا السؤال تستدعى أن نروى قصة المعركة التى خاضها العقاد دفاعًا عن فيلمه.
بعد نشر «الأهرام» خبر زيارة العقاد ورفاقه إلى القاهرة، حرص المخرج العالمى على مقابلة شيخ الأزهر وكان وقتها الدكتور محمد الفحام.
أصدرت وزارة الثقافة المصرية بيانًا أشارت فيه إلى أن الفيلم الذى يتم تصويره وإخراجه عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمس شخصه الكريم بما لا يتناسب مع مقامه
جرت الزيارة فى ٢٧ أبريل ١٩٧٠، وعرض قصة الفيلم على الإمام الأكبر، وذلك بعد أن تلقى مجمع البحوث الإسلامية رسائل عديدة من هيئات إسلامية مصرية وغير مصرية تعبر عن قلقها من تصوير الفيلم بطريقة تسىء إلى شخص الرسول.
وفى ٢ يونيو ١٩٧٠ أصدرت وزارة الثقافة المصرية بيانًا أشارت فيه إلى أن الفيلم الذى يتم تصويره وإخراجه عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يمس شخصه الكريم بما لا يتناسب مع مقامه، وتشدد على أن الوزارة لن تسمح بظهور الأنبياء وكبار الصحابة على المسرح والسينما.
فى هذه الأثناء لم يكن سيناريو الفيلم قد اكتمل بعد.

انضم إلى فريق العمل فيه، كل من توفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوى ليشتركا مع مؤلف القصة عبدالحميد جودة السحار فى كتابة السيناريو والحوار، فضلًا عن السيناريست الأمريكى «هارى كريج»- هناك من يشير إلى أنه أيرلندى وليس أمريكيًا- الذى وصل إلى القاهرة بصحبة مخرج الفيلم ومنتجه فى بداية عام ١٩٧١، لوضع الخطوط الأخيرة للفيلم وحواره.
أدرك العقاد أن هناك فخًا يتم إعداده للفيلم، ولذلك صرح للأهرام قبل أن يصل إلى القاهرة فى خبر نشرته فى ٢٥ يناير ١٩٧١، بأن فريق العمل بالفيلم على اتصال دائم مع الأزهر الشريف بشأن الفيلم الذى كرر صنّاعه التأكيد أنه لن تظهر فيه شخصية النبى ولا صحابته، وإنما تجرى أحداثه من أيام الجاهلية قبل الإسلام، ثم كيف انتشر من الأندلس غربًا إلى طقشند وسمرقند شرقًا.
بعد خمسة أيام من وصول مصطفى العقاد إلى القاهرة، وجد أن «رابطة العالم الإسلامى» بالسعودية قد أعلنت فى ٣٠ يناير ١٩٧١ عن أنها سوف ترسل مذكرة إلى وزراء إعلام الدول الإسلامية والصديقة تطلب منهم منع تنفيذ مشروع من هذا النوع.
لم ييأس مصطفى العقاد، قرر فى مارس ١٩٧١ أن يطير إلى السعودية لإقناع رابطة العالم الإسلامى بوجهة نظره، وبأن الأزهر قد وافق على الفكرة وخصص عددًا من كبار العلماء لمراجعة السيناريو.
وينقل الكاتب الصحفى أيمن الحكيم تفاصيل ما جرى فى هذه المقابلة التى أطلعه عليها فى حواره معه الذى نشرته جريدة القاهرة فى ٣٠ أكتوبر ٢٠٠٢.

يقول العقاد: كانت المأساة عندما تطلب الأمر موافقة رابطة العالم الإسلامى، وما زلت أذكر الحوار الذى دار بينى وبين المسئولين فيها.
سألنى رئيسها واسمه الشيخ سرور الصبان: ما الهدف من الفيلم؟
أجبت: أن يعرف العالم الإسلام الحقيقى.
فقال بدهشة: اللى عايز يعرف الإسلام يقرأ القرآن.
قلت: لكن هناك أجانب لا يعرفون العربية، وممكن ننقل لهم الإسلام عن طريق الدراما.
وكان الشيخ ابن باز حاضرًا المناقشة فقال لى: لكن الصورة حرام شرعًا.
قلت له: وأنا أدرس فى جامعة كاليفورنيا الأمريكية علمونى أن مخترع نظرية التصوير رجل عالم مسلم اسمه الحسن بن الهيثم الأندلسى، ثم أنكم تنشرون صورة الملك فيصل فى صحفكم. بلهجة تقريرية.
مصطفى العقاد: يا جماعة.. الأمريكان نزلوا على القمر وأنتم تحرمون الموسيقى فى فيلم يخدم الإسلام
علق: هذا تجميد للظل مسموح به، أما السينما تعتمد على الصورة المتحركة وكأنك تخلق فيها روحًا.
وسألنى آخر: هل ستستخدم الموسيقى فى الفيلم؟
قلت: طبعًا.

واصل قوله: ألا تعرف أن البيت الذى تدخله الموسيقى تهرب منه الملائكة؟
قلت لهم بشىء من الحدة: يا جماعة.. الأمريكان نزلوا على القمر وأنتم تحرمون الموسيقى فى فيلم يخدم الإسلام.
رد أحدهم: مين قال لك إن الأمريكان نزلوا على القمر، هذه صور كاذبة يضحكون بها على العالم.
وصلت المناقشات إلى طريق مسدود، واستأذنت فى الانصراف، ومن حينها وفيلمى مسموح به فى العالم كله وممنوع فى مصر وسوريا والسعودية بالطبع بتأثير رابطة العالم الإسلامى.
عاد العقاد إلى القاهرة وهو يعرف أن الصعاب فى انتظاره، كثف اتصالاته بالرقابة والأزهر حتى يحصل على الموافقات النهائية ليبدأ التصوير، وبالفعل حصل على موافقة الرقابة على سيناريو الفيلم دون أى ملاحظات رقابية، وصدرت الموافقة فى ٩ يونيو ١٩٧٣، كما حصل على موافقة مجمع البحوث الإسلامية على السيناريو، لكنها كانت موافقة مشروطة، وكتب أمين مجمع البحوث: إن موافقة المجمع لن تكون نهائية إلا بعد مشاهدة الفيلم وقبل العرض على الجمهور.

لم يبدأ تصوير الفيلم مباشرة، استغرق الإعداد له ما يقرب من ثلاث سنوات.
بدأ تحديدًا فى ١٥ أبريل ١٩٧٤، وكان فى صحراء المغرب.
وقد تسأل لماذا لم يتم تصوير الفيلم فى مصر كما خطط العقاد وفريقه من البداية؟
ما حدث أن العقاد راجع الأفلام التى أنتجتها السينما المصرية عن مرحلة صدر الإسلام بما فى ذلك فيلم «فجر الإسلام» نفسه، ووجد أنها أخطأت حين بنت ديكورات للكعبة فى الصحراء، بينما هى محاطة بسلسلة من الصخور السوداء.
وجد العقاد أن أنسب مكان فى مصر لإقامة ديكور للكعبة هو منطقة جبل عتاقة، التى تحيط بمدينة السويس، وهو ما كان متعذرًا، إذا كانت منطقة عسكرية تخضع لظروف أمن مشددة يحظر التصوير فيها بسبب ظروف الاحتلال الإسرائيلى لسيناء فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧.
بعد ثلاثة أسابيع توقف التصوير بقرار من حكومة المغرب التى كان العقاد قد حصل على موافقة رسمية منها بأن يبدأ التصوير فى مدينة مراكش، حيث أقام بالفعل ديكورًا لمدينة مكة فى العصر الجاهلى.
وقال العقاد لجريدة الأهرام فى ٨ مايو ١٩٧٤ إن ضغوطًا قوية مورست لوقف إنتاج الفيلم، تتزعمها السعودية أدت إلى تصاعد الجدل السياسى والدينى فى المغرب حوله، مما اضطر الحكومة المغربية إلى سحب موافقتها على تصوير الفيلم فى أراضيها.
ما جرى كانت وراءه تفاصيل وأسرار كثيرة.

كان الإمام الأكبر الدكتور محمد الفحام شيخ الأزهر قد توفى وتولى الدكتور عبدالحليم محمود مشيخة الأزهر.
تجاهل محمود موافقة سلفه على سيناريو الفيلم، وأرسل ببرقية إلى رئيس وزراء المغرب فى ٩ مايو ١٩٧٤، طالبه فيها بأن يبلغ خالص شكره وتقديره لجلالة ملك المغرب، لقراره بوقف العمل فى الفيلم حرصًا على قداسة الرسول وجلال الصحابة.
القذافى كان يعرف أن العقاد لن يظهر النبى صلى الله عليه وسلم بشخصه فى الفيلم إلا أنه طالب بأن يكون هناك ممثل يقوم بدور الرسول
هدأت الضجة لعدة شهور، حصل العقاد خلالها على موافقة ليبيا على تصوير الفيلم على أراضيها، وما كاد التصوير يبدأ بالفعل فى نهاية العام ١٩٧٤، حتى تجددت الضجة حول الفيلم.
لكن كيف وصل العمل إلى ليبيا؟
كان الملك الحسن من الداعمين الكبار لإنتاج فيلم مصطفى العقاد، لكنه وبعد أسابيع من بداية التصوير استدعى الملك الحسن مصطفى العقاد وطلب منه أن يتوقف عن التصوير فى المغرب، وأن يصطحب فريقه ومعداته ويغادر البلاد.
عرف العقاد أن ضغوطًا سعودية مورست على المغرب، كان من بينها تهديد الملك فيصل للملك الحسن أن السعودية ستقاطع القمة العربية التى تستعد المغرب لعقدها فى العام ١٩٧٤.
استغل العقاد الخلافات الظاهرة بين السعودية وليبيا، فلجأ إلى معمر القذافى، الذى قابله ومعه مقاطع مصورة لعرضها عليه، وشرح له قصة الفيلم وما الذى يريده منه.

كما يحكى العقاد: خلال إحدى اللقطات ظهر مشهد للمسلمين عندما كان يعذبهم الكفار، وبينما كان المسلمون يرددون كلمة الله، وجدت أن الرئيس الليبى يردد معهم كلمة الله، وهو ما جعلنى على ثقة أننا سننال دعمه.
المشكلة الثالثة التى تدخل القذافى لحلها، كانت أن الفنيين المشاركين فى الفيلم من «هوليوود» لهم عاداتهم وسلوكهم ومن بينها شرب الخمور، طرح العقاد المشكلة على القذافى الذى اقترح أن يفعلوا ذلك فى خيمة مغلقة وليس أمام العامة.
ورغم أن القذافى كان يعرف بأن العقاد لن يظهر النبى صلى الله عليه وسلم بشخصه فى الفيلم، إلا أنه طالب أن يكون هناك ممثل يقوم بدور الرسول.
يقول العقاد: اتسعت حدقتا عينى دهشة، لكننى قلت له أخى العقيد هذا الأمر صعب جدًا، ويثير الدنيا ضدى وضدك، وربما لن يرضى أحد فى العالم أن يشترى الفيلم أو يوزعه.
وجد العقاد إصرارًا من القذافى على إظهار الرسول بشخصه فى الفيلم، فقال له ربما فى محاولة وجدها سانحة للهروب من هذه الرغبة التى كانت ورطة كبيرة، فهو من ناحية لا يريد أن يغضب القذافى حتى لا يتوقف العمل مرة أخرى، ومن ناحية ثانية يعرف أن تقديم شخصية الرسول مجسدًا بممثل مهما كان شأنه أمر لا يمكن أن يمر بسهولة.
وجه العقاد الحديث إلى وجهة أخرى تمامًا.
قال للقذافى: إذا كنت مصممًا على هذا الأمر الخطير فلابد أن تأخذ رأى الأزهر الشريف والنجف كمؤسستين دينيتين مسئولتين عن أمور السُنة والشيعة.

لم يستجب القذافى لما قاله العقاد، ولم يزد على أن قال إن هؤلاء جميًعا رجعيون، قائلًا: دولا رجعيين ما نكلمهم وغدوة يشكونى عند رؤسائهم وملوكهم، وإنى ما طايق أكلم حد فيهم.
عندما بدأ التصوير فى ليبيا بدأت جولة جديدة من حصار الفيلم.
هذه الجولة رصدها الكاتب الكبير صلاح عيسى فى سلسلة مقالات نشرها فى جريدة «القاهرة» فى أبريل ومايو ٢٠٠٦، كان عنوانها «أوراق جديدة فى ملف الحملة على مصطفى العقاد وفيلم الرسالة».
ظهر الشيخ أبوالنصر مبشر الطرازى كبير علماء التركستان مرة أخرى.
كتب فى ٢٠ سبتمبر ١٩٧٤، إلى فضيلة الشيخ محمد صالح القزاز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى يحيى مواقف الرابطة المشرفة، وقراراتها الحاسمة ضد المحاولة الخطيرة لإنتاج فيلم عن الرسول، داعيًا إياه لكى يواصل جهوده لمواجهة ما يقوم به المغرضون من محاولات لإخراج الفيلم، حتى ينقطع دابر القوم الذين ظلموا انقطاعًا لا عودة فيه.
رد القزاز على الطرازى فى ٥ أكتوبر ١٩٧٤، قال له إن السلطات المغربية ألغت الاتفاق على تصوير الفيلم فى المغرب، وصادرت ما تم تصويره منه، وإن الرابطة كتبت عن ذلك إلى جميع وزراء الإعلام فى البلاد الإسلامية وتلقت ردودًا إيجابية من معظمهم.
انتقل الطرازى من السعودية إلى ليبيا، فكتب إلى سفيرها بالقاهرة رسالة أشار فيها إلى أن طائفة من الأجانب وغيرهم يحاولون منذ سنوات إخراج أى فيلم باسم «محمد رسول الله»، ومع أنهم فشلوا مرارًا، إلا أنهم استمروا فى عملهم المنكر، الذى يستنكره كل مؤمن آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واستيقن برسالته واعتقد بعظمته.

وطلب الطرازى من السفير عرض الموضوع على مقام الرئيس معمر القذافى.
استجاب لهذه الحملة مفتى طرابلس الشيخ نديم الجسر الذى بعث برسائل إلى ملوك ورؤساء الدول العربية والإسلامية، قال فيها إن الفيلم ينطوى على مساس بقدسية أكابر الصحابة وتشويه لأمجاد الإسلام.
تلقى الجسر ردودًا تتراوح بين المساندة العلنية العملية، وبين الإخطار بأنهم قد أحيطوا علمًا، وسيقومون باتخاذ الإجراءات اللازمة فى حينه.
تقدمت جمعية الدعوة الإسلامية فى ليبيا بمذكرة إلى الحكومة الليبية، وصفت فيها شريط فيلم «محمد رسول الله» بأنه ينطوى على شرور بالغة خطيرة، وأنه لا توجد أى فائدة منه ترجى للإسلام، إذ الدعوة للإسلام لها طرقها الكثيرة ووسائلها المتعددة، وطالبت السلطات الليبية بأن تنسحب فورًا من مشروع الفيلم وتمتنع عن تمويله والمشاركة فيه بأى نوع من أنواع المشاركة.
كان الأزهر، ممثلًا فى شيخه الشيخ عبدالحليم محمود، قد أرسل برسالة شكر لملك المغرب على إيقاف التصوير هناك، لكن لم يسمع له أحد صوتًا بعد انتقال التصوير إلى ليبيا.
التقى عدد من مسئولى جهات دينية مسئولة بشيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود، وطالبوه بأن يكتب إلى الحكومة الليبية لكى توقف تصوير الفيلم فى أراضيها، أو المشاركة فى إنتاجه، لما فى ذلك من تحدٍ لشعور المسلمين ومساس بقدسية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأضافوا أن فضيلة الإمام الأكبر قد وعد بإعطاء الموضوع ما يستحق من رعاية واهتمام.

كانت الاعتراضات على الفيلم فى الغالب هى الشك فى دوافع الذين يتحمسون للمشروع، ومشاركة أجانب غير مسلمين فى تمثيله وتنفيذه، فضلًا عن الانطلاق من رؤية ترى أن التمثيل فى الأصل حرام، سواء كان تمثيلًا لشخصية النبى أو لغيره.
ظهر فى هذا الوقت ما لم يظهر من قبل اعتراضًا على الفيلم.
فقد ذهب البعض إلى أن الفيلم كغيره من الأفلام السينمائية يقوم على تطعيم القصص التاريخية ببعض المواقف الغرامية التى ترضى الغوغاء، وتساعد على الرواج، وإنه لذلك اصطنع علاقة غرامية قامت فى أعماق هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان، تجاه حمزة بن عبدالمطلب ابن عم الرسول وسيد الشهداء، فلما أعرض عنها حقدت عليه وأغرت به عبدها وحشى فتربص به وقتله، وجاءت هى لتنهش كبده إطفاء لغليلها وانتقامًا من ذلك الذى لم يقم وزنًا لحبها.
أصحاب هذا الرأى قالوا إن الفيلم يصور أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب على أنه أجير لم يقاتل فى صفوف المسلمين ودفاعًا عن عقيدة، ولا كفاحًا فى سبيل نصرة الله ورسوله، وإنما فعل ذلك لأن محمدًا، صلى الله عليه وسلم، دعاه لقوته وشدة بطشه، للحرب فى صفوفه، دون أن يعلم شيئًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن دعوته، ولا عن أهدافه.
وبنى من قالوا ذلك تصويرهم لجريمة الفيلم، الذى إذا كان لن يتعرض للنبى ولا لأحد من كبار الصحابة، إلا أن التصوير المهين لشخصية واحد من كبار الصحابة وهو حمزة ينطوى على مساس بالنبى صلى الله عليه وسلم، إذ يصوره فى صورة المغامر الطامع فى أمجاد الدنيا، الذى يجمع المرتزقة الأقوياء لنصرته والقتال فى سبيله.
دخلت مجلة «الاعتصام» وهى مجلة إخوانية ملكية وتوجهًا، وفى عدد يناير ١٩٧٥، خرجت بعنوان موجه لشيخ الأزهر يقول: الرأى العام العالمى الإسلامى يسأل: ماذا فعل الإمام الأكبر حتى الآن؟
تقول «الاعتصام»: إن الغيورين من أبناء الإسلام يتساءلون عن موقف الإمام الأكبر وعلماء الأزهر ومجمع البحوث من فيلم «محمد رسول الله» وما يحتويه من مساس بكرامة الإسلام، وتشويه لبطولات الصحابة، على الرغم من استمرار العمل فيه فى ليبيا العربية الإسلامية، وبتدعيم مالى منها ومن الكويت، ما يعد تحديًا سافرًا للشعور الإسلامى، وعبرت عن ثقتها فى أن شيخ الأزهر سوف يكون عند حسن ظن المحبين له، وأنه سيقف الموقف الذى يتفق مع مكانته بين المسلمين ومسئوليته فى حماية المقدسات الإسلامية من كل عبث أو تشويه.

فى ٢٦ يناير ١٩٧٥ رد شيخ الأزهر على سؤال «الاعتصام» بأنه أرسل فى أول يوليو ١٩٧٤ خطابًا إلى كل الدول الإسلامية ومن بينها ليبيا بشأن الفيلم وأن الأزهر سيعيد إرساله مرة أخرى إلى السفارات الإسلامية.
كان نص خطاب الأزهر كالتالى:
«باسمى وباسم الأزهر وباسم مجمع البحوث الإسلامية الذى يدرس هذا الموضوع فى عدة جلسات عقدها لهذا الغرض، أعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان «محمد رسول الله» أو أى فيلم آخر يتناول بالتمثيل على أى وضع كان شخصية الرسول أو شخصية الصحابة رضوان الله عليهم، هذا إذا افترضنا جدلًا أن الذى يقوم بتمثيلها على درجة عالية من الخلق الطيب والصلاح والتقوى، تقارب الشخصية التى هى موضع التمثيل».
«أما أن الأمر ليس كذلك على أى حال من الأحوال، فإن الإساءة إلى الشخصيات الإسلامية تصبح بالغة وشديدة الخطورة، ومن ناحية أخرى فإن القصة بما فيها من حوار ومناظر، مهما تكن درجة إجادتها أو مطابقتها للحقائق الإسلامية، يدخل فيها دائمًا شىء من اجتهاد المؤلف، وتبقى فيها دائمًا جوانب خاضعة لاجتهاد الممثل والمخرج والمصور، وغيرهم من سائر الفنيين العالميين فى إنتاج الفيلم، يمكنهم التصرف فيها وفقًا لثقافتهم وعقائدهم واتجاهاتهم الخاصة، وهذا مصدر خطر شديد».
«كذلك فإن الأمر يتصل بمجال عرض الفيلم فى الدور المعد لذلك، وهو دور معد أساسًا للهو والتسلية والترفيه، وذلك بلا شك يترك أثرًا على قداسة الشخصيات الإسلامية التى يتعرض لها الفيلم، على أنه إذا كان الغرض من تمثيل هذا الفيلم أو غيره مما تظهر فيه الشخصيات الإسلامية ذات المنزلة الخاصة هو التعريف بالإسلام، أو بمجد من أمجاده فإن فى تاريخ الإسلام متسعًا لذلك، حيث يعنى بالشخصيات والعهود والأحداث والأمجاد التى يمكن تقديمها دون التعرض لشخصية الرسول أو الصحابة أو من يماثلهم من أصحاب القدوة بين المسلمين».
«من ذلك كله يتبين أنه لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج فيلم «محمد رسول الله» كما لا يجوز السماح بعرضه، وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم، كما ندعو الأمة الإسلامية كلها، إلى إيقاف العمل فى هذا الفيلم».
استند بيان الدكتور عبدالحليم محمود إلى بيان آخر كان الأزهر قد أصدره فى ٢٧ مايو ١٩٢٦ بعدم جواز تمثيل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى المسرح أو السينما، بمناسبة ما أثير وقتها عن إخراج مشروع لإخراج شريط سينمائى عن السيرة النبوية، يقوم ببطولته يوسف وهبى.
هذا غير التعليمات التى أصدرتها لجنة الفتوى بالأزهر عام ١٩٥٤ إلى الرقابة على المصنفات الفنية وتفيد بعدم ظهور النبى صلى الله عليه وسلم وبعض رجال الصحابة بشخوصهم على الشاشة البيضاء.

لم يستسلم صناع الفيلم لما جاء فى رسالة شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود، لكن تصدى له هذه المرة الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى الذى كان أحد كتاب سيناريو وحوار الفيلم.
برر الشرقاوى دهشته من رسالة شيخ الأزهر بأن كل صفحة من صفحات سيناريو الفيلم كانت تحمل ختم الأزهر بالموافقة على تصويرها، بل ويضيف ما يشير إلى أن فضيلة الشيخ عبدالحليم محمود نفسه كان قد قرأ السيناريو ووافق عليه.
وبرر تغيير الأزهر رأيه قال: إن البعض تصور أن شخصية الرسول الكريم ستظهر فى الفيلم، وعندما أكدنا لهم أن الكاميرا ستتجه فى الوقت المناسب لتدل المتفرج على وجود شخصية الرسول دون أن يظهر بذاته، قالوا: إن هناك كاميرا وعليها عقال ستظهر فى الفيلم ومكتوبًا عليها «محمد رسول الله».
وجرى حوار بينه وبين شخصية أزهرية أو أكثر حول بعض مشاهد السيناريو بعد اعتماده، تتضمن فيما يبدو تقطيع المخرج للمشاهد، وتعليماته بشأن حركة الكاميرا فى الاتجاه الذى يفترض أن يجلس فيه الرسول فاعتبر ذلك دليلًا على أن الرسول سيظهر بشخصه، أو سيرمز له، على النحو الذى حدث فى أفلام دينية سابقة، رمزت إلى شخصه الكريم ببقعة ضوء، ما كان مثار اعتراض بعض رجال الدين، كان من رأيهم أن ذلك تحايل على ظهوره، وأنه أكبر وأجل من أن يرمز إليه بشىء، وهو ما أشار إليه بيان الأزهر الصادر فى أول يوليو ١٩٧٤، الذى أكد عدم جواز ظهور شخصية الرسول أو الصحابة تصريحًا أو تلميحًا أو بأى صورة من الصور الخفية أو المعلنة.
طبقًا لرواية الشرقاوى، فإن بعض الذين أثاروا هذه الهواجس اقتنعوا بتوضيحات صناع الفيلم، بينما ظل البعض الآخر متخوفًا من أن يظهر الرسول فى الفيلم على صورة كاميرا عليها عقال كتب عليه اسمه الكريم، لكن ما حسم الموقف لصالح المعارضين كما يضيف الشرقاوى، كان سفر شيخ الأزهر إلى المملكة العربية السعودية، ليعلن عدوله عن رأيه فى الفيلم دون أن يبعث بخطاب رسمى يسحب فيه اعترافه السابق.
لم تمنع هذه الضجة مصطفى العقاد من استكمال تصوير الفيلم، ولا من عرضه بعد ذلك، وكان العرض الأول له فى بيروت، ثم فى لندن فى العام ١٩٧٦، ووضع لوحة قبل التيترات كلمة جاء فيها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى اصطفاه ربه ليحمله ما لا تطيقه الجبال لأجل قدرًا وأبعد مثالًا من أن يظهر بصورته أو ينطق بصوته إنسان، لذلك لن يظهر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا صورة ولا صوتًا ولا ظلًا طوال أحداث الفيلم.

المشكلة أن العقاد وقع فى خطأ إجرائى كان هو السبب فى منع الفيلم من العرض فى مصر بأمر من الأزهر.
يقول الدكتور مدكور ثابت صديق العقاد ورئيس الرقابة الأسبق إن مخرج الرسالة لم يحصل على موافقة كتابية خاصة بالعرض، لأنه لم يعرض الفيلم بعد الانتهاء من تصويره على الأزهر مجددًا، طبقًا للموافقة المشروطة على سيناريو الفيلم التى أصدرها المجمع قبل ذلك.
عندما عرف العقاد أن الأزهر رفض عرض الفيلم، وعلم من أصدقائه فى القاهرة أن أعضاء المجمع اعتبروا عرض الفيلم دون أن يعود إليهم مرة أخرى استهانة بهم، فقرروا معاقبته.
أرسلت الرقابة خطابًا إلى أمين المجمع لحسم موقفه إزاء الفيلم، خاصة أن الشركة الموزعة كانت قد أرسلت إلى الرقابة طلبًا للترخيص بعرضه والرقابة ملزمة قانونيًا بالرد خلال ثلاثين يومًا من تلقى الطلب.
جاء رد المجمع نصًا: لا جدوى من مشاهدة الفيلم بعد عرضه على شعوب العالم.
وقتها كان الشاعر صلاح عبدالصبور يعمل مساعدًا لرئيس المجلس الأعلى للثقافة للشئون الثقافية، وفسر تأشيرة أمين المجمع بأنها إباحة بعرض الفيلم.
لكن الرقابة لم ترتكن إلى هذا التفسير واعتبرته من خيالات شاعر.

خاطبت الرقابة المجمع مرة أخرى لتحصل على تأشيرة قانونية، وحاولت أن تلتمس الأعذار لمخرج الفيلم الذى تهور بعرضه دون الرجوع بنسخته النهائية إلى المجمع، خاصة أن تقصير القائمين على الفيلم فى تنفيذ تعهدهم بتقديم الفيلم للأزهر بعد تصويره وقبل عرضه على الجمهور، لا ينبغى أن يكون له تأثير، إذ إن التقصير لا يمكن أن يقف حائلًا دون إبداء الرأى فى طلبهم الترخيص بعرض الفيلم فى مصر طبقًا للقانون من عدمه، حيث ما يهمنا هو الإجازة من جانب فضيلتكم على عرض الفيلم من عدمه، لكن الأزهر لم يستجب.
كان العقاد حسن النية، فقد اعتمد على شهادة أمين المجمع السابق د. محمد عبدالرحمن بيصار، فى خطابه الرسمى لمنتح ومخرج الفيلم والذى وقعه فى ٩ يونيو ١٩٧٣ وأجاز فيه السيناريو بقوة مؤكدًا أنه صحيح فى مادته وليس لدى الأمانة مانع فى تصويره.
والتقرير الذى كتبته مديرة الرقابة نعيمة حمدى وقالت فيه: إننا أحوج ما نكون إلى مشاهدة مثل هذه النوعية الهادفة من الأفلام التى تحث على الخلق والجهاد فى سبيل الحق، كما توقظ الإيمان وتعمقه فى نفوس المسلمين، ولا شك أن النسخة الإنجليزية للفيلم ستقوم بدور عظيم فى نشر الدعوة الإسلامية وتعريف العالم بحقيقة الإسلام.

ويقول حمدى سرور مدير الرقابة على المصنفات الفنية الأسبق، والذى كان يعمل مديرًا للمكتب الفنى للرقابة أثناء أزمة الفيلم خارج مصر إن الأزهر أرسل للرقابة بعد عرض الفيلم خارج مصر، خطابًا يعترض فيه على ذلك استنادًا إلى أن موافقته على السيناريو كانت مبدئية وتنطوى على شرط بأن تعرض النسخة النهائية عليه، وبالتالى يكون المنتج قد أخل بشروط الموافقة، وهو يؤكد أن الأزهر لم ير الفيلم بعد تصويره، ولم يخضع لتقييم علمائه الذين رفضوا مشاهدته، وأخذوا على المنتج عرضه له، من دون موافقتهما، وهو ما يعتبره اعتراضًا شكليًا، وليس جوهريا،
نسب لشيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود أنه اعترض على الفيلم، لأن الرسول مثل بالرمز الواضح الذى لا يخطئه المشاهد، وذلك بالإضاءة بالكاميرا ظهورًا وإخفاء.
كما قيل إن من بين مبررات الاعتراض ظهور عدد من الصحابة فى أحداث الفيلم، بينهم على بن أبى طالب الذى ظهر فى لقطة خاطفة، وحمزة بن عبدالمطلب وبلال بن رباح وهو اعتراض كان مردودًا، لأن الإضاءة كانت تركز على وجه الشخص الذى يتحدث إلى الرسول، بينما ينقل الراوى ما دار بينهما، وهو ما لا يمكن اعتباره رمزًا، ولأن الفيلم بدأ تصويره قبل صدور الفتوى التى توسع من نطاق تحريم تجسيد الشخصيات الدينية، لتشمل فضلًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم كل أنبياء الله، والخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، فضلًا عن أن بعضًا من هؤلاء الصحابة مثل بلال بن رباح سبق ظهورهم فى أكثر من فيلم كانت- ولا تزال- تعرض.

فى البرلمان تقدم نائبان هما سامى أباظة وعلى راشد استجوابًا لوزير الثقافة عن أسباب عدم عرض الفيلم.
وكان رد الوزير أن الفيلم لا يحمل أى موانع رقابية.
هيئات إسلامية: قصة الفيلم لم تكتبها أقلام إسلامية تحمل التصور الإسلامى الصحيح ما أدى إلى تشويه الوقائع التاريخية وأحداث السيرة المشرفة وانحراف التحليل والاستنتاج
فما الذى تغير حتى تصدر توصية من الرقابة بعدم عرضه لتعارضه مع النظام العام للدولة فى الظروف الراهنة؟ السبب كان قرار الأزهر الذى صدر فى منتصف أغسطس ١٩٨٠ بمنع عرض الفيلم بشكل نهائى.
بدأت بعد عرض الفيلم وإعلان الأزهر عدم موافقته عليه مضايقات أخرى.
فأثناء المداولات مع الأزهر، صدر بيان فى ٨ سبتمبر ١٩٧٦ بعد خمسة أشهر من العرض الخاص فى القاهرة، أصدرته هيئات وشخصيات إسلامية حضرت عرضًا خاصًا لفيلم «محمد رسول الله» استجابة لدعوة من وزير العدل والأوقاف والشئون الإسلامية الكويتى يوم ٦ أبريل ١٩٧٦ فى مقر جمعية الإصلاح الاجتماعى.

قررت هذه الهيئات التالى:
أولًا: كان ينبغى عرض قصة سيناريو الفيلم ابتداء على العلماء والمفكرين الإسلاميين قبل بدء التصوير والتنفيذ، فالإسلام لا يستفتى لتبرير أمر واقع، مع الاستعداد التام للاستجابة لأوامره فى حالتى الحظر والإباحة.
ثانيًا: من أهم الأسباب التى تدعم المؤتمرين إلى الإصرار على عدم نسبة هذا الفيلم إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفيلم لا يتناول من قريب أو بعيد جوانب السيرة النبوية لا فى دائرتها العامة ولا فى محيطها الخاص لصاحبها، ومن ثم فإن الإصرار على هذه التسمية بعينها، يعتبر خللًا جوهريًا لا مبررًا له من الناحيتين الموضوعية والفنية، ويكشف عن نزعة استغلالية تجارية مستميتة فى الركض وراء المنفعة الخاصة على حساب عصمة الأنبياء الكرام والقيم والمعتقدات تقليدًا للغرب الذى باع جميع قيمه ومعتقداته بالدنيا الفانية.
ثالثًا: ليس صحيحًا أن الأزهر الشريف قد وافق على الفيلم، بل الصحيح أن الأزهر رفض الفيلم فى نسخته الأولية سنة ١٩٧٠، وفى عرضه الأخير كذلك، ومن هنا فإن عبارة «وافقت الهيئة المسئولة فى الأزهر على إخراجه وعرضه» التى عرضت فى مقدمة الفيلم إنما هى تزوير على الأزهر وانتحال لاسمه، كما جاء فى منشورات «الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامى» الخاصة بهذا الموضوع.
وما يؤكد هذا النهج فى مخالفة الحقائق ادعاء مخرج الفيلم فى جريدة «الأنباء الكويتية» فى ١٠ إبريل ١٩٧٦ صدور موافقة من جمعية الإصلاح ورابطة العالم الإسلامى بذلك، والجميع يعلم أنهما فى طليعة الرافضين للموضوع.

رابعًا: سبق أن أكدت المؤتمرات والهيئات الإسلامية رفضها للفيلم وهى: رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة، ومؤتمر الجماعة الإسلامية فى دلهى بالهند، ومؤتمر ندوة العلماء لكنو بالهند، ومؤتمر السيرة النبوية، ومؤتمر المنظمات الإسلامية فى مكة المكرمة.
خامسًا: لم يطلع المجتمعون الذين حضروا عرض النسخة العربية على النسخة الإنجليزية وهى الأصل، حيث إن النسخة العربية مترجمة عن الإنجليزية، ومن المقدر- استنادًا إلى ما وقع فى النسخة العربية- أن تكون النسخة الإنجليزية أكثر انحرافًا لاعتبارات كثيرة، أهمها أن الممثلين أجانب يدينون بغير الإسلام، وأن إرضاء المشاهد الغربى سيكون فى الحساب، وهو مشاهد تعود على رؤية ممثلين يقومون بأدوار الأنبياء فى شخصيات كاملة، أو عبر لقطات خاطفة، أو من خلال تجسيم صوتى لتلك الشخصيات المعصومة التى توهمها مؤلف القصة ومخرجها.
سادسًا: الفيلم انطوى على أخطاء علمية وتاريخية بالغة التحريف والخطورة استنادًا إلى ما هو مبين ومجمع عليه فى المصادر الموثوقة للسيرة النبوية الشريفة، حيث كان واضحًا التأثر بالتفسير المادى للتاريخ ومحاولة بث النزعات الطائفية.
سابعًا: أن قصة الفيلم لم تكتبها أقلام إسلامية تحمل التصور الإسلامى الصحيح، ما أدى إلى تشويه الوقائع التاريخية وأحداث السيرة المشرفة وانحراف التحليل والاستنتاج، حيث إن العلم بالإسلام كيف نزل وكيف طبق شرط أساسى فى صحة أى عمل يرتبط باسم الإسلام، وهذا الشرط لم يتوافر فى هذا الفيلم، كما أنه محاولة تعبر عن تصور كاتبى القصة لبداية البعثة النبوية الشريفة والأحداث التى تلتها فى كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وبعض الغزوات وهى محاولة لم تستطع استيعاب جلال الوحى ولا معنى النبوة ولا التحول العقائدى والنفسى والفكرى الكامل الذى أحدثه الإسلام فى الجزيرة العربية، وسبب العجز هو أن المحاولة بعيدة عن الإسلام روحًا وفكرًا.
ولهذه الأسباب مجتمعة ولكون الفيلم استغل مبررًا موضوعيًا اسم نبى هذه الأمة ورسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى عمل تجارى استثمارى ودعاية شخصية، لذلك كله قرر المجتمعون بالإجماع رفض هذا الفيلم رفضًا حاسمًا داعين كل مسلم ومسلمة إلى اتخاذ نفس الموقف تقربًا إلى الله عز وجل وتوقيرًا لمقام النبى صلى الله عليه وسلم «لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه».
والمجتمعون يناشدون حكومة الكويت منع عرض هذا الفيلم، ونفض يد الكويت منه ومن أمثاله نهائيًا، ولئن أبدى المنتجون تضررهم ماديًا من هذا الإجراء الضرورى فإن الإسلام أغلى من الأنفس والأموال.

كما أن المؤتمرين يؤكدون أن الدعاية الحقيقية للإسلام، إنما تكون فى تطبيقه منهاجًا كاملًا للحياة فى الداخل، ليكون نبراسًا لغير المسلمين خارج العالم الإسلامى.
وفى ١٧ يوليو من عام ١٩٧٨ تلقى السفير المصرى فى الرياض رسالة بتوقيع الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى محمد على الحركان يشير فيها إلى أن المجلس التأسيسى للرابطة اتخذ قرارًا أثناء انعقاد دورته التاسعة عشرة بمقر الأمانة العامة للرابطة بمكة المكرمة، وذلك بعد مناقشات مستفيضة لفيلم الرسالة، والمحاولات التى يبذلها صناعه لعرضه فى البلدان الإسلامية، ويقضى القرار بتكليف الأمانة العامة للرابطة بمخاطبة العواصم الإسلامية كتابيًا لحثها على مقاطعة الفيلم.
قام مسجد مصطفى محمود بالمهندسين الذى كان يرأس مجلس إدارته د.مصطفى محمود بعرض الفيلم يوميًا
مذكرة «الحركان» للسفير المصرى تضمنت مناشدة صريحة للحكومة المصرية عدم الموافقة على دخول الفيلم إلى بلادكم أو السماح كتابيًا بعرضه بأى حال من الأحوال.
المفاجأة أن الفيلم كان يعرض فى مصر من اللحظة الأولى له ليس فى دور العرض ولكن فى قاعة مسجد.
فقد قام مسجد مصطفى محمود بالمهندسين الذى كان يرأس مجلس إدارته د.مصطفى محمود بعرض الفيلم يوميًا بعد صلاة العشاء فى قاعة ملحقة به ونشر عن ذلك إعلانات مكثفة فى الصحف، حتى وصل عدد الذين يشاهدونه يوميًا فى المتوسط ثلاثة آلاف متفرج.
ويقول حمدى سرور: أوقع ذلك الرقابة فى تناقض غريب، إذ كان الفيلم يعرض عرضًا عامًا، عبر شاشة فيديو من دون أن يحصل على تصريح منها بذلك، بسبب موقف الأزهر منه، وفى الوقت ذاته فإنها لم تكن تتدخل لوقف العرض، ليس فقط لأنه يجرى داخل إحدى دور العبادة، ما يخرج عن نطاق اختصاصها، ومع أنه كان باستطاعتها أن تكتب لوزير الأوقاف بأن الأزهر لم يوافق على عرض الفيلم، ليتخذ إجراءات وقف العرض إلا أنها لم تفعل انطلاقًا من تقديرها، بأن الفيلم ليس فيه ما يسىء إلى الإسلام، وأنه على العكس من ذلك يسهم فى نشر رسالته، وبأنه لا تجد مبررًا مفهومًا لموقف الأزهر منه.

وفى مفارقة أخرى يشير حمدى سرور إلى أن الأزهر نفسه لم يطلب من وزير الأوقاف التدخل لمنع عرض الفيلم فى مسجد محمود.
وفى ٢٤ يونيو ١٩٨١ قال الأزهر كلمته الأخيرة.
فقد تلقت الرقابة على المصنفات الفنية خطابًا موقعًا من الأمين العام للمجمع د:الحسينى هاشم، قال فيه: إننا ما زلنا عند رأينا الموضح فى كتابنا المؤرخ فى ٢٩ فبراير ١٩٨١، ويتلخص فى أن القائيمن على أمر الفيلم أغفلوا دور الأزهر فى ضبط القيم الإسلامية بناء على ما خوله له القانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١، والذى هو ملتزم به تمامًا، وبناء على دوره فى الحفاظ على الشريعة الإسلامية وتنقيتها مما يؤذى شعور المسلمين، فالأزهر عندما يغلق هذا الباب فإنه لا يرى أنه مسئول عن هذا، بل إن المسئولية تقع أولًا وأخيرًا على من تجاهلوا توجيهاته، ولم ينفذوا ما اشترطه الأزهر وتعهدوا هم به، فعرضوا الفيلم على الجماهير فى شرق العالم وغربه، وذلك أفلتوا من رقابة الأزهر.
ظل الأزهر على موقفه، لكن العقاد لم ييأس لكنه ظل وراء فيلمه حتى جعله واقعًا يشاهده الجميع، وهو ما يشير إلى أن أسوار المنع لا تصمد طويلًا أمام رغبة المبدعين فى أن يفرضوا كلمتهم.. وهذه هى قيمة المعركة التى بدأت فى العام ١٩٧٠ عندما كان الفيلم لا يزال فكرة إلى أن تم عرضه ٢٠١٨ فى دور العرض السعودية الدولة التى كانت السبب الأكبر فى تعطيل عرضه كل هذه السنوات.
