حيوية مصر.. ليالى الثقافة العربية والعالمية على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب

- هنا جدل المتن والهامش فى «زهرة البستان» التى تحولت صباحاتها إلى طاولة كبيرة تتداخل تحت شمسها إيقاعات القصائد الطازجة وتتخللها قرقعات الشيشة وأصوات الملاعق فى كاسات الشاى
- تفرغت أرض المعارض لاستقبال الأدباء والمفكرين فى ساعات النهار وامتلأت ليالى المدينة باللقاءات والجلسات والندوات غير المرتبة.. لتبقى القاهرة قبلة المثقفين العرب وإن تعددت الأحداث والمناسبات وتعاظمت المنح والهبات
للكاتب الكبير سمير غريب كتاب مهم صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مطلع العام 1996 بعنوان «حيوية مصر.. المعارك الفكرية فى النصف الأول من القرن العشرين»، ومصدر أهمية الكتاب فى أنه يقدم رؤية متعمقة للكتب والأحداث التى كانت محل جدل النخبة المصرية المثقفة مطلع القرن العشرين بأسلوب بسيط يستعرض عددًا من الكتب التى تسببت فى أزمات فكرية وصلت وقتها إلى ساحات القضاء، مثل كتاب «فى الشعر الجاهلى» لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، و«الفن القصصى فى القرآن الكريم» للمفكر الكبير محمد أحمد خلف الله، متحدثًا عن أهمية تلك المعارك، وما دار خلالها، وما كشفت عنه من حيوية كبيرة كان يتمتع بها المجتمع المصرى خلال تلك السنوات، على أننى أجد فى ذلك العنوان الوصف الأدق للحالة الملهمة التى ظلت تلف هواء القاهرة طوال أيام إقامة معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته الحالية، ولدورات سابقة عايشت تفاصيل معظمها، وكنت شاهدًا على كثير منها، ما يجعلنى أكاد أجزم أنها حالة متكررة، ودائمة، بل وكاشفة للمكانة التى تتمتع بها هذه المدينة الساحرة بين الكتاب والمثقفين العرب، إن لم تمتد إلى الحيز الدولى، فرغم ما يجوب سماءها من غيوم وسحب ومخلفات تفسد الهواء فى بعض الأحيان، لكنها تظل دائمًا وأبدًا قبلة المثقفين العرب، وحاضنة الثقافة العربية التى لا تغيب.. المدينة التى يزدهر تحت سمائها الإبداع والفن والأدب مهما كانت الظروف، ويظل معرض القاهرة الدولى هو المناسبة الأكثر تجسيدًا لتلك الحالة، والتى لن تراها فى أى مناسبة أخرى، ولا فى أى معرض آخر، أيًا كان حجم الإنفاق، وأيًا كانت المدينة والمغريات والأسماء الحاضرة.
من «زهرة البستان» إلى حديقة «الأتيليه»
هكذا عاشت القاهرة على هامش معرضها الدولى للكتاب أسبوعين من احتشاد الثقافة العربية بمختلف أطيافها، من المتن إلى الهامش، ومن أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فى حالة غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ، لا تقف عند حدود أرض المعارض وقاعات ندواتها وصالات كتبها، ولا تقتصر على ساعات اليوم القصيرة، فتمتد إلى كل أرجاء المدينة التى لا تنام، لتتحول معها المقاهى والمطاعم والبارات إلى قاعات للشعر والموسيقى والمناقشات التى لا تنتهى.. تتحول معها القاهرة كلها إلى قاعة ندوات ممتدة الأطراف، متعددة المشارب والنكهات والأذواق، من مدينة نصر إلى شارعى فيصل والهرم، ومن القاهرة الجديدة إلى التجمعات الجديدة وصولًا إلى وسط المدينة حيث «مثلث الرعب» الذى يتحول إلى ساحة واسعة للبهجة والمحبة والإبداع.. فى «زهرة البستان» التى تتحول صباحاتها إلى طاولة كبيرة تضم الشامى والمغربى، وتجمع المستشرق بالأصولى، فتتداخل تحت شمسها إيقاعات القصائد الطازجة، حداثية وما بعد حداثية وأصولية وما بين البينين، تفعيلية ونثرية وعمودية، عامية وفصحى ونبطية وبلهجات لا يعرفها أحد.. تتخللها جميعًا قرقعات الشيشة التى لا تخلو منها طاولة، وتتخللها أصوات الملاعق تذيب السكر فى كاسات الشاى، ونداءات العابرين فلا تمنع شاعر من الاستمرار فى قراءة قصيدته، ولا تعوق مستمعًا عن الإنصات لما يُتلى عليه.. وفى حديقة «أتيليه القاهرة» حيث تنتظم اللقاءات المرتبة وغير المرتبة، وتتحول جلسات التذمر من قرارات مجلس الإدارة إلى حوارات مطولة تتداخل فيها اللغات وتتعدد اللهجات، ترتفع أحيانًا، وتخفت أحيانًا، ويعم الصمت لبعض دقائق تتبع تلاوة أحد الشعراء لقصيدة جديدة، وربما لن يعجب البعض أن أذكر هنا أن واحدة من أجمل السهرات الشعرية التى حضرتها خلال سنوات طويلة كانت بداخل إحدى قاعات مطعم «الجريون» بوسط القاهرة، وفى واحدة من ليالى معرض القاهرة الدولى للكتاب قبل عامين، ليلتها تحولت صالة الطعام والشراب إلى قاعة ندوات واسعة، متعددة الأذواق والمشارب، وجاءت إدارة المكان بمكبرات صوت خاصة بناءً على طلب من بعض الحاضرين، فاستمعت إلى ما يزيد على الثلاثين شاعرًا وشاعرة من القادمين من مختلف المدن العربية والأوروبية، من الخرطوم وغزة وبيروت وأمستردام، ومن الموصل ودبى والدوحة وبروكسل، من جدة والرياض وصنعاء وبرلين، من عمان وتونس والرباط ومونتريال، من مدن الحروب العربية العربية، ومدن المنافى الإجبارية والاختيارية، عشرات القصائد المدهشة والأصوات المتباينة والمختلفة، أعجبنى بعضها ولم يعجبنى البعض الآخر، وتلتها حلقات للنقاش حول أحدث التيارات الفكرية والأدبية حول العالم، والمشروعات قيد التنفيذ أو التفكير والبحث والدراسة.. بالطبع لم يخلُ بعض الطاولات من جلسات النميمة والتربيطات التى أصبحت واحدة من السمات الحاضرة فى كل وقت، ولم يخل من غمزات هنا وهناك، بالضبط كما لن تخلو تعليقات البعض على هذا المقال من استهجان ورفض لمثل هذا الاستشهاد، لكنها الحقيقة التى لا يريد الكثيرون تصديقها، والتعامل معها، فمصر الكبيرة كثيرة جدًا، وشديدة التنوع والاختلاف، لن تجدها فى مظهر أو شكل واحد، ولن تعرفها إذا أردت أن تراها فى صورة واحدة، أو تيار واحد.. هنا حيوية المجتمع القابل لامتصاص كل الاتجاهات والأفكار، وتذويب الفوارق والاختلافات ومزجها فى إطار فاتن لا يمكنك أن تراه فى أى أرض أخرى، ولا تظلله سماء غيرها.

جدل المتن والهامش
بدأ معرض القاهرة الدولى للكتاب وانتهى، وما بين البداية والنهاية تجلت القاهرة بكل حيويتها وبهائها، فاحتشدت قاعات المعرض بالندوات والأمسيات الشعرية، بجلسات المجاملات وكاميرات التصوير، وامتلأت صالات العرض باحتفالات التوقيع والتهانى وطوابير القادمين للقاء مشاهير الكتاب والمدونين وصانعى المحتوى بعد تحولهم إلى نجوم ومنتجى كتب، وكما يحدث فى كل سنة وكل دورة من دورات المعرض، بدأت التهانى كما بدأت الشكاوى، وتناثرت فى الفضاء عبارات التذمر تجاورها قصائد المديح، وتنوعت الصور والتعليقات، وامتلأت الحياة بكل أشكال التعبير عن الحضور والغياب أو التغييب.. فى القاعات الرسمية كان هناك من يظن منظمى الندوات وواضعى الجداول أنهم نجوم الكتابة والصحافة والإعلام فى مصر والعالم العربى.. وهم كذلك، بكل حضورهم فى وسائل الإعلام وعبر صفحات التواصل الاجتماعى وتطبيقات المحتوى المدفوع.. وفى المقاهى والبارات والمكتبات غير الرسمية كان هناك الهامش بكل حيويته وقدرته على إثارة الأسئلة، وطرح المعضلات والتفكير فيما تمر به الثقافة العربية والعالمية من مآزق وكبوات.
كما تفرغت أرض المعارض لاستقبال حشود الأدباء والمثقفين والقراء خلال ساعات النهار، امتلأت ليالى القاهرة بالأحداث واللقاءات والجلسات الفكرية والإبداعية، فى مقاهى المثقفين والكتاب، وفى أروقة دور النشر وقاعاتها بما سمحت من أعداد، ومنها ما شهدته دار «صفصافة» مثلًا من فعاليات غلب عليها الطابع الكوزموبوليتانى، بحكم تخصص الدار فى الترجمة عن اللغات الأوروبية، فشهدت مجموعة فعاليات لكتاب من حول العالم، مناقشات وحفلات تدشين أعمال مترجمة ومؤلفة لكتاب من مصر وتونس وفرنسا واسبانيا والبرتغال وألمانيا وجمهورية التشيك وأوكرانيا وتشاد، وشملت إطلاق كتاب «لانا تستكشف تاريخ سيوة» للكاتبة الفرنسية باسكال بيلامى، وحفل إطلاق رواية «التاريخ السرى المعلن لآدم وحواء» للكاتب التشادى روزى جدى، وفعالية نادى الكتاب التشيكى لمناقشة رواية «مساهمة فى تاريخ السعادة» بحضور مؤلفتها رادكا دنماركوفا، وحفل إطلاق رواية «القاهرة عشقى» للكاتب الإسبانى رفائيل باردو مورينو، وإطلاق رواية «المدير» للكاتبة البرتغالية آنا فيلومينا أمارال، إلى جانب أمسية شعرية للبرتغالى جواو لويش باريتو غيمارايش، وندوة لمناقشة أعمال الكاتب التونسى نزار شقرون النقدية والسردية، ولقاء حول الأدب الأوكرانى للباحثة والمترجمة أولينا خوميتسكا، وإطلاق كتاب «المرأة التى قالت لهلتر لا» بحضور المؤلف الألمانى وولفجانج مارتن روث والمترجمة السودانية إشراقة مصطفى حامد.. ربما لم أتمكن من حضور غالبية الفعاليات، أو انشغلت فى حضور لقاءات أخرى بدور نشر أخرى، لكنها كانت جميعًا هناك، تحت سماء القاهرة، ومظلة معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى أحاطت أجواءه المبهجة بكل اللقاءات والمناقشات، وعلى اختلاف الرؤى والتوجهات والأفكار.
هكذا.. طوال أربعة عشر يومًا تجلت حيوية مصر فى أبهى صورها، حتى إننى على المستوى الشخصى لم أجد نفسى بحاجة إلى الذهاب لأرض المعارض الجديدة لأكثر من مرتين أو ثلاث مرات، للتزود بما يكفينى طوال العام من إصدارات جديدة للأصدقاء من الكتاب والمبدعين، والتعرف على كتب غير الأصدقاء من دراسات وأعمال فكرية وإبداعية، روايات ودواوين شعر وقصص قصيرة وأعمال كاملة، ولقاء من أحب من كتاب وناشرين، وحضور ما استطعت من ندوات ولقاءات وجلسات قصيرة وعابرة.
ربما كان لى أن أتفق بعض الشىء مع ما كتبه الروائى الشاب على قطب على صفحته بموقع «فيسبوك» منطلقًا من أهمية معرض الكتاب، والاهتمام الشعبى، والإعلامى «بدرجة ما»، وصولًا إلى قوله بأن «الملاحظ فى السياق الثقافى الحاضر هو افتقادنا للكاريزما الثقافية الكبرى، التى يمكن أن تعوض زمن نجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود وصلاح عبدالصبور، وربما لهذا السبب كانت التغطية الإعلامية ذات طابع إخبارى وليس ذات طابع جدلى، ويبدو أن الحياة الثقافية بحاجة إلى صناعة تثقل الشخصية الأدبية، وتربط النخبة بالمجتمع»، لكننى أختلف معه فى ذلك اليقين الذى انطلق منه للقول بأن «المادة الثقافية المطروحة خلال المعرض فى أغلبها تفتقد الربط بقضايا الإنسان العادى، وما يشغله.. مما يوضح أننا انتقلنا من القضايا الثقافية الكبرى إلى قضايا التكنوقراط»، وأغلب الظن أنه لم يتابع تحركات الشباب فى صالات عرض الكتب، وبين قاعات الندوات، حيث الحضور الأكبر، حسبما رأيت بعينى، للبسطاء من الناس، من يعبرون بكل وضوح عن واقعهم ويتحدثون بكل حرية عما يتطلعون إليه، وما يرغبون فى رؤيته على منصات الندوات واللقاءات الفكرية، وأغلب ظنى أنه ينطلق فى استحضاره لأسماء يظن أننا نفتقد ثقلها من حنين طبيعى للماضى، فلا يدرك ما بين يديه، لمجرد أن عينيه تعيشان هناك، ومعلقتين بحيث كان وكان.. رغم أن الأصل فى الفكر والثقافة والإبداع أن لكل زمان كتابه ومفكريه، ممن يتسقون مع واقعهم، وممن يعبرون عنه وفق آلياته ومعطياته، وأنه لا عودة بكل تأكيد للوراء.

المردود المالى ومبيعات الكتب
على أهمية معارض الكتب العربية التى تقام على مدار العام، وتشهد تفاعلًا وإقبالًا لا يستهان به، وتحقق منها دور النشر المصرية والعربية واحدًا من أهم مصادر مردوداتها المالية، سواء من المشتريات الحكومية أو مشتريات الأفراد من الكتب والمطبوعات، يظل معرض القاهرة الدولى للكتاب هو الأهم، والأكثر حضورًا وفاعلية، وإقبالًا، وربما كان أيضًا الأكبر من حيث المردود المالى ومبيعات الكتب، ولعل ما كتبه أحد الأصدقاء على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» شاهد على ما أريد الذهاب إليه، ويمكن وضعه فى الاعتبار فيما يتعلق بهذه النقطة.. يحكى الباحث والأكاديمى الدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا، عن واقعة حدثت معه قائلًا إنه لم يكن يرغب فى الذهاب إلى المعرض هذا العام، لكنّ صديقًا تركيًا هاتفه يطلب مرافقته، وكان عليه أن يرد لصديقه حسن ضيافته، فكان أن ترددا معًا على أرض المعارض لستة أيام متتالية، أنفق خلالها الصديق التركى «حسب منشور الدكتور سالم» ما يقرب من ٦ آلاف دولار، بما يعادل ٣٠٠ ألف جنيه مصرى، اشترى بها نسخًا مصورة من عدد كبير من المجلات المصرية التى صدرت فى مطلع القرن العشرين، ومنها «الفتح» و«الزهراء»، لمحب الدين الخطيب، أحد مؤسسى «جمعية الشبان المسلمين» التى سبقت تنظيم الإخوان فى مصر، كما اشترى مجلة مجمع اللغة العربية منذ نشأته وحتى وقتنا هذا، وكان يبحث عن «البعكوكة» و«ثروة الفنون»، ويحكى سالم عما جرى بقوله: «كل النسخ مصورة على ورق أصفر، ومجلدة تجليدًا فخمًا.. فى سرى كنت أقول إيه الولد العبيط هذا.. لماذا كل هذا الشراء النهم؟!.. كان يدفع وهو فرحان جدًا، ويقول لى الكتب فى مصر سعرها أقل من نصف سعرها فى اسطنبول.. معرض القاهرة هو المعرض رقم واحد فى العالم لأصحاب اللسان العربى»، ويضيف: «لا أنسى كلماته وهو سعيد بالشراء.. بلدكم فيها أشياء ليست موجودة فى أى مكان فى العالم.. مصر عظيمة وحيويتها لا نظير لها فى المنطقة».