أن تكون بسيطًا وجوهريًا فى وقت واحد
صامويل بيكيت.. الكاتب الذى غير وجه المسرح العالمى
- اختفى نجوم العرض رغم كثافة الجمهور والصحافة والإعلام.. فقال بيكيت: «هذا أفضل ما يمكن لهذه المسرحية»
- كثيرون حول العالم شاغلتهم «هاملت» وتمنوا تقديمها.. لكن «جودو» تظل حالة وحدها
- عمل مساعدًا لجيمس جويس.. لكن افتتان ابنته به أدى إلى قطيعة بينهما
أن تكون أعمالك شديدة اليسر والسهولة، واسعة الانتشار، بالغة البساطة والوضوح، لا لبس فيها ولا تعقيدات، ومع ذلك فهى عميقة التأثير تناقش أفكارًا جوهرية، فلا تستعصى على فهم القارئ العادى، وتأخذ بيد قارئها إلى ما يريد الكاتب بمنتهى الدقة والتحديد.. ذلك ليس بالأمر الهين، وربما لم يفلح فيه، فى تصورى، سوى كاتب واحد، هو ذلك الأيرلندى المدهش صامويل بيكيت، صاحب النص المبهر «فى انتظار جودو».. المسرحية التى إن لم تشاهدها أو تقرأها، فتأكد أنه قد فاتك الكثير، وأنك لم تعرف الكثير عن فنون الكتابة والإبداع.. كثيرون حول العالم شاغلتهم «هاملت»، رائعة البريطانى الأشهر وليم شكسبير، ممثلون ومخرجون وكتاب وتشكيليون، لكن «جودو» تبقى فى مكان آخر، حالة وحدها، لا يقوى على اقترافها سوى مبدع استثنائى بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. ربما يذهب البعض إلى أن كتاباته تبدو معقدة، كئيبة، مغرقة فى التأمل والمسائل الفلسفية المعقدة، خصوصًا مع ارتباطه بعلاقات قوية مع بلدياته الأشهر جيمس جويس، والفرنسى مارسيل بروست، والتشيكى النمساوى فرانز كافكا، وارتباط نصوصه المسرحية بالنشأة الأولى لما يعرف باسم «مسرح العبث»، واعتباره هو شخصيًا من أكثر كتاب القرن العشرين ميلًا إلى التجريب، وأكثرهم صعوبة، لكننى سوف أحكى لك حكاية ربما تكون ذات أهمية فيما أريد الذهاب إليه.
حضر الجمهور واختفى الممثلون
الحكاية التى دارت فصولها قبل أقل من أربعين عامًا، وتحديدًا فى منتصف عام ١٩٨٥، بدأت بحصول الممثل والمخرج السويدى يان جونسون على تصريح من السلطات القضائية بتقديم مسرحية يقوم ببطولتها ستة من نزلاء سجن «كوملا» شديد الحراسة، منطلقًا من إيمانه بدور الفن فى دعم وتوجيه نزلاء السجون، وتصوره عن الدور الترفيهى والتوعوى الذى يمكن أن يقوم به العرض لبقية النزلاء، وبعد تدريبات شاقة وطويلة، تمكن جونسون من تحويل مجموعة من المجرمين إلى ممثلين بارعين، فحقق العرض الأول للمسرحية نجاحًا كبيرًا قررت معه إدارة السجن السماح لجونسون بجولة فى مسارح السويد لإعادة تقديم العرض بذات المجموعة من السجناء.
كان من المقرر أن يكون العرض الثانى للمسرحية عرضًا عامًا، وتحدد له الثامن والعشرين من أبريل ١٩٨٦، بناء على دعوة من أحد أكبر المسارح السويدية بمدينة «جوتنبرج»، وقاد جونسون مجموعته من بلدة إلى أخرى وسط حراسات مكثفة، وشهرة كبيرة للمسرحية وممثليها، وإعجاب كبير بالنتيجة المبهرة للجهود التى بذلوها، وقبل دقائق من رفع الستار، ودون أى توقع، تمكن خمسة من أبطال المسرحية من الهروب بعد أن خفت عنهم الحراسة، ولم يجد المخرج الذى تأكد من أن نجومه قد وصلوا إلى الحرية التى علمتهم المسرحية قيمتها مخرجًا للمأزق الذى وقع فيه، غير أن يصعد هو بنفسه إلى خشبة المسرح، ليتحدث مطولًا، وبالتفصيل عما حدث، وليحكى للجمهور الذى ملأ جنبات المسرح كيف تدرب ممثلوه، وكيف تطور أداؤهم، مفسرًا هروبهم ذلك بحقيقة إدراكهم المعانى التى تضمنها النص الذى حفظوه عن ظهر قلب، وكيف أنه يبدو منطقيًا فى ظل مضمون المسرحية.
أما المسرحية التى تدرب عليها نزلاء سجن «كوملا» السويدى شديد الحراسة، فهى مسرحية «فى انتظار جودو» للأيرلندى الأشهر صامويل بيكيت، وأما كلمة الممثل والمخرج يان جونسون البديلة عن العرض، فصفق لها جمهور العرض طويلًا، وكتب النقاد عما تضمنته من قيم الحرية والفن والإنسانية بقدر ما كتبوا عن النص نفسه، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مونودراما تقديمية للمسرحية فى كثير من عروضها حول العالم، خصوصًا وأن بيكيت، عندما عرف بما حدث، وسئل عن الأمر، وهو المعروف بصرامته فى التعامل مع مخرجى مسرحياته، وعدم تهاونه فى كل ما يتصل بعمله من تفاصيل، قال إنه يرى أن غياب العرض الذى انتظره الجمهور، واختفاء ممثليه الذين احتشد الناس لمشاهدتهم عند رفع الستار، هو أفضل ما يمكن أن يحدث لهذه المسرحية.. فإن كان «جودو» لن يصل أبدًا إلى حيث ينتظره بطلا النص، فها هم أبطال المسرحية لا يصلون إلى حيث تنتظرهم الجماهير المتعطشة لرؤية كيف تحولوا من مجرد مجرمين خارجين عن القانون إلى فنانين وممثلين مدهشين.
ولمن لم يقرأ المسرحية التى كتبها صامويل بيكيت عام ١٩٤٧، ونالت شهرة عالمية واسعة، واعتبرت البداية الرسمية لما عرف، فيما بعد، باسم «مسرح العبث»، فتدور أحداثها وسط ديكور فقير لا يزيد على شجرة جافة ويابسة، لا ظل لها، تقف وسط طريق مقفر، يستند عليها صعلوكان على طرفى نقيض، يتحدثان بثرثرة غير مفهومة عن «جودو»، ذلك الشخص الذى يظنان أنه سوف يخلصهما من عذاباتهما، أحدهما «ستراجون»، الذى لا يهتم بغير الطعام والنوم، وغالبًا ما يتعرض أثناء الليل للضرب من أشخاص لا يعرفهم، والثانى «فلاديميير»، الذى يميل إلى التفكير والتأمل فيما حوله من أشياء، ويستمر الحال على هذه الوتيرة طوال فصلين لا جديد فيهما، ينتهيان بنفس النهاية، بوصول مندوب عن «جودو»، يخبرهما بأنه لن يصل اليوم، لكنه سوف يصل غدًا.
كان عرضها الأول فى الثالث من يناير ١٩٥٣، وكان بمثابة انفجار كبير تحولت بعده الكتابة المسرحية إلى طريق جديد أكثر اتساعًا وتعبيرًا عن روح الإنسان وعبثية الحياة والوجود، فطرحت النصوص المسرحية بعدها الكثير من القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية من منظور فلسفى، فيما كان امتياز نصوص بيكيت أنها تتسم بالبساطة الشديدة، والسخرية اللاذعة، إلى جانب ما اتسمت به من الجوهرية والعمق، وإن مالت فى مجملها إلى التشاؤم أو ما يعرف باسم «الكوميديا السوداء» التى تحتشد بالسخرية غير الخالية من المرارة، وتمتلئ بالمواقف الإنسانية والفكرية التى تنساب بنعومة شديدة وسط النص، وصولًا إلى ما يمكن التعبير عنه بعبثية الشرط الإنسانى، ولا جدوى من انتظار الإنسان لما لن يأتى أبدًا إلى هذه الأرض الخراب، فهو صاحب المقولة الأكثر تعبيرًا عن نصوصه، إذ «لا شىء أكثر إثارة للضحك والسخرية أفضل مما يعيشه الإنسان من بؤس وانتظار فى بيئة لا إنسانية ومعادية»، وربما كان ذلك هو السبب فى تأخر حصوله على جائزة نوبل للأدب، التى تم ترشيحه لها عام ١٩٦٨، لكن ترشيحه قوبل باعتراضات قوية من رئيس اللجنة، الشاعر السويدى آندريش أوسترلينج، الذى كان يرى أن حصول ذلك الكاتب «العبثى» على جائزة نوبل سوف يكون ضربًا من «العبث».. وكتب فى تقريره ما نصه: «للأسف ما زالت لدى شكوك أساسية فى كون تقديم الجائزة له مناسب لروح وصية نوبل.. إن السخرية الكارهة للبشر، التى تتميز بها كتابات الأيرلندى جوناثان سويفت، والتشاؤم الراديكالى الذى يتسم به الإيطالى جياكومو ليوباردى، يحتاجان إلى مشاعر قوية، وهذا ما يفتقده بيكيت»، على أن تلك التحفظات لم تستمر طويلًا، إذ فاز بيكيت بالجائزة فى العام التالى مباشرة، وفى وجود أوسترلينج نفسه، وقالت اللجنة فى حيثياتها عن أسباب فوزه «لكتاباته التى اكتسبت مكانتها من التجريب فى أشكال جديدة فى الرواية والمسرح عن بؤس الإنسان المعاصر، وسعيه لرفعته الذاتية»، وينقل الباحث والمترجم أمير زكى عن تقرير لصحيفة نيويورك تايمز أن لجنة نوبل كانت تتوقع ألا يحضر بيكيت حفل تكريمه، وأنه كان بالفعل يقضى إجازته فى تونس وقت إعلان الجائزة، ولم يقطعها، ولم يتوجه إلى حفل تسليم الجائزة فى ستوكهولم، لكنه قبلها، ليكون ثانى أيرلندى يحصل على الجائزة بعد وليام بتلر ييتس.
منحة التدريس لأبناء الصفوة
ولد صامويل باركلى بيكيت فى ١٣ أبريل ١٩٠٦، بقرية فوكس روك الثرية على بعد ثمانية أميال من العاصمة الأيرلندية دبلن، وتم تسجيل ولادته بتاريخ ١٣ مايو بسبب تزامن ولادته مع الجمعة العظيمة، وكان هو الابن الثانى لوليام فرانك بيكيت، المهندس المعمارى والمقاول الناجح، وماريا ماى نى رو، التى كانت تعمل بالتمريض، وعاش فى منزل كبير يضم ملعبًا للتنس، أشرف والده على بنائه، وكان صامويل على العكس من أخيه فرنك الذى كان قويًا ولينا، أما هو فكان ضعيفًا، عنيدًا وصعب الإرضاء.
تلقى بيكيت تعليمه الأول فى فن الموسيقى وهو فى الخامسة من عمره فى روضة للأطفال، وانتقل منها إلى مدرسة «ايرلسفورد» فى ضواحى هارفورد بوسط المدينة، ثم مدرسة «بورترا رويل»، والتى كان يدرس بها أيضًا أوسكار وايلد، وتميز فى رياضة «الكريكت» كونه أعسر، ما أهله للالتحاق بفريق جامعة دبلن، وذلك بعد التحاقه عام ١٩٢٣ بكلية «ترينيتى»، التى تلقى بها تعليمه فى اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، وربما كان ذلك هو السبب فى أن بيكيت كان يكتب أعماله بالفرنسية، ويتولى ترجمتها بنفسه إلى اللغة الإنجليزية، واللغات الأخرى، وينقل الباحث والمترجم أمير زكى عن كتاب «مقدمة كمبريدج لصمويل بيكيت» لرونان مكدونالد، أنه بعد تخرجه عام ١٩٢٧ قضى بيكيت تسعة أشهر فى العمل بالتدريس بكلية «كامبل» الخاصة ببلفاست، ولما بدا امتعاضه للعيان، سأله مدير الكلية إن كان يعرف أنه يدرّس لصفوة مجتمع ألستر، فأجابه بيكيت: «نعم.. فهم أغنياء ولزجون»، وقيل إنه كان شخصية انطوائية، الأمر الذى لا يناسب مهنة التدريس، ما أدى إلى تزايد شكوى الطلاب من مواقفه الإجبارية لهم، وقلة مادته العلمية بالإضافة إلى كثرة إنذار المديرين له.
بعد مغادرته العمل بالجامعة عام ١٩٣١، بدأ بيكيت حياته السياحية بالرحلات فى أوروبا، فظل فى لندن لفترة ما، نشر خلالها مقالات نقدية، وتعرف على الكاتب الأيرلندى جيمس جويس من خلال صديقه المقرب الشاعر توماس ماكريفى، وكان لهذا التعارف تأثير خاص على الشاب بيكيت، حيث أصبح مساعدًا لجويس فى أعمال كثيرة، وأصبح زائرًا دائمًا لمنزل الرجل العجوز ذى العينين المتعبتين فى كتابه «عمل قيد التحقق»، ثم تمت دعوته ليساهم فى مجموعة مقالات عن جويس بواسطة أصدقائه، إلا أن زيارات بيكيت لمنزل جويس كانت لها آثارها الجانبية غير المتوقعة، وغير المرحب بها، بحسب رونان مكدونالد، الذى تحدث عن اهتمام لوشيا ابنة جويس بمساعد والدها الشاب، وهى التى كانت تعانى من بدايات اضطراب عقلى، تم تشخيصه فيما بعد على أنه «فصام»، وأدت مشاعرها غير المتبادلة إلى قطيعة عابرة بين بيكيت وأسرة جويس.
كانت «أحلام المرأة العادية» هى أولى روايات بيكيت، التى كتبها عام ١٩٣٢، إلا أنه تراجع عن نشرها بسبب النقد السلبى من الناشرين، وظلت كذلك حتى عام ١٩٣٣، وبالرغم من عدم نشره هذه الرواية، إلا أنها كانت مرجعًا مهمًا له فى كثير من الأشعار، وفى مجموعة قصص «علاقات بلا عشق» التى تعتبر أول كتاب تم نشره لبيكيت عام ١٩٣٣.
استهوت بيكيت الحياة فى باريس، نتيجة للخلاف الذى كان بينه وبين والدته، فاستقر بها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وهى الفترة التى تعرض خلالها للطعن فى صدره، إلا أنه تعافى شيئًا فشيئًا، وشهدت اهتمام عازفة البيانو الفرنسية سوزان دومسنيل بخبر الحادث، ثم بدأت بينهما علاقة استمرت طوال الحياة.
انضم بيكيت إلى المقاومة الفرنسية فى أواخر الاحتلال الألمانى، وعمل جاسوسًا على مدار سنتين لصالح المقاومة الفرنسية، وتخلص من مداهمات عديدة من قبل «الجستابو»، وفى أغسطس ١٩٤٢ هرب إلى الجنوب بصحبة زوجته سوزان، واختبأ فى قريه روسيون، حيث استمر فى مساعدة المقاومة الفرنسية، ويخبئ المعدات الحربية فى حديقة خلف منزله على مدار عامين عاشهما هناك، وكافأته الحكومة الفرنسية بعد نهاية الحرب بمنحه مجموعة من النياشين، منها «صليب الحرب» و«وسام المقاومة».
عاد بيكيت إلى والدته فى دبلن عام ١٩٤٦، وأثناء هذه الزيارة تحول تفكيره ما جعله يغير من نمط حياته ويتجه بها إلى الأدب، فألف مسرحية «شريط كراب الأخير»، التى يرى بعض النقاد أن بيكيت جسد شخصيته فى شخصية «كراب»، وأنها شخصية معبرة عن حياته والجو الذى عاش فيه، وملخص لتاريخ حياته، وهى الحياة التى يعود إليها رونان مكدونالد، موضحًا أن والد بيكيت كان رجلًا طيبًا ونشيطًا أحبه كثيرًا، وأنهما كانا غالبًا ما يقومان بنزهات طويلة معًا فى دبلن وويكلو هيلز، ولكن وفقًا لصديقه وطبيبه دكتور جيفرى تومسون فمفتاح فهمنا لبيكيت يكمن فى علاقته بأمه، فقد كانت محبة ومتسلطة، مهتمة وقاسية، وعلاقة الحب والكراهية بين بيكيت وبينها كانت جوهر مشاعره الكثيفة عن القلق والذنب.. فى حياته المتأخرة كتب عن «حبها المتوحش»، ويبدو أن قراره فيما بعد بأن يستقر تمامًا فى فرنسا كان هروبًا من أمه بنفس القدر الذى كان يهرب فيه من وطنه الأم، حتى إنه عندما طُلب منه أن يصف طفولته، قال: «كانت بلا أحداث، يمكنك أن تقول إنها كانت طفولة سعيدة، على الرغم من أن موهبتى فى السعادة كانت ضعيفة.. أبواى فعلا كل شىء يجعل الطفل سعيدًا، ولكنى كنت وحيدًا فى معظم الأحيان».