نجيب محفوظ.. أيام الألم
ضحايا ومذنبون.. جرائم ارتُكبت باسم نجيب محفوظ
- مرافقون ومحبون تحولوا إلى كتّاب ومفكرين لمجرد أنهم كانوا عكازًا لرجل عجوز
- كتب مقدمات لأعمال بعض مرافقيه فى سياق المجاملة التى لا تضر.. ولكن ما أُخذ بسيف الحياء فهو باطل
- لماذا تغيرت قواعد التقدم لجائزة الجامعة الأمريكية؟ وما السبب الحقيقى لتوقف ترجمة الأعمال الفائزة وتحولها لمجرد مكافأة مالية؟
قبل فترة غير قصيرة كان الكاتب الكبير ناجى الشناوى يحكى لى عن زميلة له فى سنوات الجامعة الأولى، وقال إنها كانت أمريكية شغوفة بالموسيقى العربية والغناء، وتحفظ الكثير من أغنيات السيدة أم كلثوم، وعندما عرفت أن والده الشاعر الغنائى العظيم مأمون الشناوى، هو واحد من أهم كتاب أغانى الست، طارت من الفرحة، وسألته إن كان بالإمكان أن يرتب لهما لقاء معها، وهو ما حدث بالفعل، وذهبا إلى منزلها حيث كانت فى استقبالهما بنفسها، وجلسا معها لأكثر من ساعة كاملة، تحدثت طوالها كوكب الشرق الإنجليزية بطلاقة كبيرة وملفتة، وبعيدًا عن تفاصيل الجلسة التى أعرف أنها كانت ثرية بالتفاصيل والحكايات المهمة والدالة، والتى وعدنى المهندس ناجى الشناوى بكتابتها وتوثيقها، فإننى عندما تركته وجدتنى أذهب فى رحلة أخرى مع كثير من المواقف والحكايات المشابهة، وكثير من الاختلافات البسيطة والجوهرية والعابرة، وكلها تخص ما حدث، ويحدث باسم سيد الرواية العربية نجيب محفوظ، الذى تحولت جلساته ومواقفه وحكاياته لمادة لكل باحث عن فرصة، وكل من يملك القدرة على الكتابة والقراءة، وكل من التقى الكاتب الكبير، صدفة أو بترتيب، حتى أصبحت لدينا مكتبة عامرة بعشرات الكتب والمقالات التى تنطلق من كلمة قالها نجيب محفوظ، نكتة، أو مجرد خاطرة، مجاملة عابرة أم رأى، ثم مالبثتُ أن شطح بى الخيال، وتصورت أحدهم يكتب رواية عن لحظات مروره أمام البناية التى كان يسكن بها، أو عن انفعالاته خلال لحظات وجودهما معًا فى مصعد، أو طاولة مقهى.
بالطبع لست ضد الكتابة عن كل التفاصيل التى تخص حياة وأفكار وكتابة أديب مصر الأكبر، فمنها يمكن أن نفهم كيف كان يفكر، وكيف كان يتعامل مع وقائع الحياة من حوله، وكيف كان يرى تفاصيلها البسيطة.. ومنها يمكننا أن نرى كيف تحولت تلك التفاصيل على يديه إلى أعمال إبداعية مهمة فى تاريخ الأدب العربى، غير أن المزعج فى الأمر أن كثيرًا من تلك الكتب والمقالات لا أصل لها ولا مبرر، لا مقدمات يمكن البناء عليها، ولا نتائج يمكن وضعها فى الاعتبار عند دراسة الرواية المحفوظية، بل إن بعضها يصل إلى مرحلة الجريمة الكاملة التى يتم ارتكابها بصفة دورية باسم نجيب محفوظ، وعلى مرأى ومسمع من الجميع.. مرافقون وحواريون وعابرون تحولوا إلى كتّاب ومفكرين لمجرد أنهم كانوا فى فترة من الفترات عكازًا لرجل عجوز، وكتّاب متوسطو الموهبة تحولوا إلى نجوم لمجرد أنهم مروا بجلسة كان فيها، والتقطت عدسة مصور صحفى وجودهم فى المشهد، أو حتى لم يرهم أحد، محبو أدب أسعدهم الحظ بالاستماع إلى كلماته بشأن محاولة الاغتيال الشهيرة، ولا يعرفون عن فن الرواية غير الحبكة البسيطة أو الحكاية أو الموعظة الحسنة، فتحت لهم الصحف أبوابها ليكتبوا ما يعن لهم من أفكار وتصورات، حتى وإن كانت لا تستقيم لهم جملة، ولا عبارة، ولا يملكون القدرة على بناء مشهد أدبى، أو تحويل الفكرة إلى سرد مكتوب يمكن استقباله بسهولة أو يسر، فما بالك بكتابة الرواية والحديث عنها، بل والجلوس فى مقاعد الفائزين بجوائزها، وأرفف الأكثر مبيعًا، وبرامج الأكثر حضورًا وتصويرًا.. وكلامًا.
ربما يكون العيب فى ذائقتى الأدبية، لكننى، على سبيل المثال، لم أتمكن من قراءة الكثير من كتابات الدكتور زكى سالم، الباحث فى الفلسفة الإسلامية سابقًا، والكاتب والناشط على مواقع التواصل حاليًا، والمعروف بأنه واحد من أكثر محبى الأستاذ التصاقًا به، حتى إن الراحل الكبير كتب مقدمة لبعض أعماله القصصية، ولا أظن أن أبواب «الدستور» فى إصدارها الأول كان يمكن أن تفتح له ككاتب دائم لولا قربه من نجيب محفوظ، ولك أن تتصور معى كاتبًا ومفكرًا يقرأ كتاب «مصر يا عبلة»، للفنان التشكيلى المعروف محمد عبلة، فلا يجد تعليقًا على محتوى الكتاب سوى قوله: «ما إن بدأت القراءة حتى جذبنى بشدة، إذ يحكى بصدق لمحات مهمة من سيرته الذاتية المترعة بعشقه للفن، وبالأحداث الشيقة، والشخصيات المثيرة، والمواقف المؤثرة، بيد أنه لم يذكر شيئًا عن علاقاته العاطفية، ولم يتوقف كثيرًا أمام أحداث سياسية مهمة كحرب أكتوبر ١٩٧٣.. لكن هذا ليس مهمًا، فالأهم من كل هذا أنه لم يتحدث عن الحق سبحانه وتعالى، وأثره العميق فى توجيه خطوات حياته، وتغيير مساره، فى الوقت المناسب، إلى الطريق الصحيح، وإنقاذه مرات عدة من الموت ومن الحيرة ومن الضلال، فهل كان يجب عليه أن ينبه القارئ إلى ذلك، أم يتركه يرى بنفسه ما يشاء؟»!!
هذه هى رؤيته ومفرداته التى علّق بها على مذكرات فنان كبير ومعروف، كما وردت نصًا على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، والحقيقة أننى لا أعرف ما علاقة هذا التعليق بالفن أو الأدب أو الإبداع؟! ولا كيف يكون ذلك المكتوب هو ما يدور فى عقل شخص رافق نجيب محفوظ لأكثر من ثلاثين عامًا، استقبله فى بيته، وصحبه فى سيارته إلى لقاءاته العديدة والممتدة، واستمع إلى تعليقاته، وبعض آرائه، بل وسجل الكثير منها، ثم أفرغه فى كتاب بعنوان «نجيب محفوظ.. صداقة ممتدة».
ربما أفهم أن يكتب نجيب محفوظ مقدمًا بعض قصص مرافقه الكريم، ولكن فى سياق المجاملة التى كان عظيم الرواية المصرية يظن أنها لا تضر، فلا مبرر لها فى ظنى غير ذلك، وربما يكون مناسبًا أن أذكر هنا ما حكاه لى مرافق آخر، وصديق مقرب من عين أعيان الرواية العربية، هو الكاتب حسين عبدالجواد، الذى حكى لى فى أكثر من مناسبة أنه كثيرًا ما كان يقرأ قصائده على أديب مصر الأكبر خلال لقاءاتهما الممتدة، ومما يحكيه أنه كان مثل غالبية من يجالسون الأستاذ يقرأ له من وقت لآخر بعضًا من إبداعاته، ويقول كان الأستاذ بطبعه لطيفًا ومجاملًا، ولا يزيد فى ردوده على كل من يقرأون له أعمالهم عن عدة كلمات «يااااه.. جميل.. كويس خالص.. تمام تمام»، تختلف طبيعة الاستجابة بحسب استخدامه حروف المد فى هذه المفردات، كأن يقول «جميييييل» مثلًا فى حالة الإعجاب، أو «جميل» دون مد، وهذه لا يعتد بها إلا لأن قائلها هو من هو، ويقول عبدالجواد: فى إحدى المرات قرأت له قصيدة، فلم ينطق بعدها، لا جميل ولا كويس ولا حتى تمام، فتوترت، وأخذت أراجع القصيدة مرات ومرات، وعشت أيامًا من القلق والتخمينات حتى رأيته فى المرة التالية، فسألته عما إذا كانت القصيدة لم تعجبه، فقال لى «كل ما تكتبه بالعامية بيعجبنى»، وأذكر أننى عندما كتبت قصيدة فى ذكرى الشاعر الكبير بيرم التونسى وقرأتها على «نجيب بيه»، راح يصفق من الإعجاب.. وكانت هذه من المرات النادرة التى يزيد فيها عن «جميل.. كويس خالص.. ياااه».. هذا هو نجيب محفوظ كما يعرفه من لا تغريهم المكاسب الصغيرة، ولا يتاجرون بالمجاملات العفوية، والتى لا تعنى أى شىء بالنسبة لقائلها، ولا ينبغى لها أن تتحول إلى وثيقة اعتراف بنبوغ أو عبقرية لا يملكها من قيلت له، فما أُخذ بسيف الحياء فهو باطل.
مرة أخرى، ربما يكون العيب فى ذائقتى الأدبية والفنية، ولكننى ما زلت لا أستطيع إكمال قراءة بعض الفقرات من الكتب التى تنشرها دار «الشروق» للمهندس نعيم صبرى على أنها روايات، وهو واحد من أكثر الكتّاب اقترابًا من سيد الرواية العربية، وربما كان من أخلصهم له ولذكراه، ولديه بالفعل كثير من الحكايات، والمواقف، والأحداث، وبعض الخيال.. لكن فن الرواية يا سيدى شىء آخر، الرواية ليست مجرد طرفة يتداولها العامة، وليست حكاية ينتظر منها القارئ الموعظة، ليست «صرخة ضد التعصب» بحسب تصريحه لإحدى الصحف بشأن قصته «شبرا».. ربما اتسعت مساحات نشر الحكايات اللطيفة، وقصص المتخصصين فى دروس التنمية البشرية فى السنوات الأخيرة، وتوسعت دور النشر فى ضخها تحت مسمى «رواية»، وتقديمها للجوائز العربية والمحلية، بل والفوز بها، لكن ذلك لا يعنى بأى حال من الأحوال أنها على علاقة بفن الرواية، ذلك الفن الذى تشعبت دروبه ومساراته، وأساليبه وصولًا إلى أعمق النقاط المظلمة فى داخل النفس البشرية، وفى أعماق التاريخ الإنسانى، وصولًا إلى أدق تفاصيل المراحل المهمة والحرجة فى رحلة الإنسان على وجه الأرض.
الأسماء للأسف كثيرة جدًا، والوقائع أكثر.. فالقائمة طويلة ومتشعبة، وتحمل الكثير من المؤشرات والمعانى والدلالات، وتدعو للأسى على ما وصل إليه حال الثقافة المصرية والعربية، وربما أكتفى هنا ببعض الإشارات التى تحتاج إلى تأمل، بقدر ما تحتاج إلى إثارة الحوار العام حولها، فما زالت أنباء «الحذف والإضافة» فى مذكرات نجيب محفوظ المقرر نشرها فى وقت قريب محل استرابة ودهشة، ولكن بلا ردود أفعال، ولا مواقف واضحة وحاسمة.. ما زلنا لا نعرف شيئًا عن أسباب التغيير فى قواعد منح جائزة الجامعة الأمريكية التى وافق عليها وتحمل اسمه، فلم تكن الجائزة تشترط التقدم لها، وتتولى لجانها اختيار الرواية الفائزة وفقًا للمنتج فى عامها، فلماذا تم التغيير؟ ومتى؟ وهل وافق عليه قبل رحيله؟.. وكيف تحولت من جائزة تنتصر للرواية كفن، وتتم ترجمة الرواية الفائزة بها، إلى مجرد مبلغ مالى يتم توزيعه تبعًا للمحاصصة الإقليمية دون اشتراط الترجمة؟ فلم يبق منها سوى قيمتها المالية كمكافأة للأصدقاء والمعارف والمقربين؟!.. ولم تمضِ سوى أسابيع على صدور كتاب «أحب رائحة الليمون.. حوارات مع نجيب محفوظ» للكاتبة الصحفية سهام ذهنى، والذى صدر ضمن سلسلة «مكتبة نجيب محفوظ» التى ترأس تحريرها الكاتبة فاطمة قنديل، وهو الكتاب الذى لا تعرف له رأسًا من ذيل، فهو عبارة عن مجموعة من الحوارات بلا عناوين ولا مقدمات، لا تعرف متى أجريت ولا هل سبق نشرها فى مجلة أم صحيفة «اللهم إلا حوار أجراه ابن الكاتبة لجريدة مدرسته التى لا يعرفها أحد غيرهما»، ويبدو أن إدارة السلسلة لا تجد الوقت لتدقيق ما تنتجه، أو مراجعته، أو تصويب ما به من أخطاء!!
فى النهاية أود أن أوضح أننى شخصيًا لست ضد أى شكل من أشكال الكتابة، بل وأرحب بها جميعًا، وعلى قدم المساواة، لكننى لا أرحب بالتمسح فى ذلك الرجل المهذب اللطيف والمجامل، لا أرحب بالاستهانة بحشر اسمه فى كل شىء، وأى شىء.. وربما لا أعرف، هل يمكن النظر إلى هؤلاء العابرين والمرافقين والأصدقاء كضحايا أم مذنبين؟! فأغلب الظن أنهم أقرب إلى الفراشات ضعيفة الأجنحة التى تقتلها جاذبية الضوء، فتنبهر به، وتطير إليه، وهى تظن أنه مرشدها إلى طريق الأدب والإبداع والخلود.. هؤلاء الذين شاهدوه وهو يضحك، ويسخر، ويلقى «القافية»، واستمعوا إليه وهو «يقلش»، وينصت لهم، بل ويبدى إعجابه، أو عدم رفضه لمنتجاتهم المتواضعة، لا بد كانوا يظنون أن الأمر بهذه السهولة التى يرونها ويعيشون بالقرب منها وفى ظلها، دون أن يدركوا أنه لم يكن أبدًا كذلك.