مانسيــرة.. ملحمة تؤسس لصوت شعراء العالم اليوم
- نال عنها الإماراتى عادل خزام وسام الشعر الصينى العظيم
- مصريان و17 شاعرًا عربيًا فى ملحمة تؤرخ لإنسان العصر الحديث
- الملحمة تتناول نظرة شعراء اليوم للحياة ومواضيع الحب والحرب والعدالة والحرية والعنصرية
- 86 شاعرًا من 50 دولة يكتبون عن أسئلة الإنسان الحديث وقلقه الوجودى ورؤيته للعالم
إصدار الملحمة الشعرية «مانسيرة» التى أطلقها الشاعر الإماراتى عادل خزام وشاركه فى تأليفها 86 شاعرًا من 50 دولة فى حدث يعد الأول من نوعه وحجمه. أعقبه تتويج الشاعر خزام بوسام الشعر العظيم فى احتفالية نظمتها عدة جهات ثقافية، هى حركة الشعر العالمية فى الصين ورابطة كتاب بريكس، واستضافتها حركة الشعر العظيم الصينية، ومهرجان الأفلام الشعرية، ومدرسة بكين للشعر، بدعم من متحف لوحات الامتحانات الإمبراطورية، وجمعية كانجلانج يايان الشعرية.
خلال الحفل الذى أداره الشاعر الصينى الكبير قياو دامو رئيس ومؤسس مدرسة بكين للشعر، وحضره عدد من الشعراء والضيوف وطلاب مدرسة الشعر، إلى جانب رئيس تحرير مجلة «آفاق طريق الحرير» هوانج بيجين، وأساتذة مهمين، مثل: تشين دونجلين من جامعة نانجينج للتكنولوجيا، جيانج يان من جامعة بكين تم الإعلان عن مشروع ترجمة ملحمة «مانسيرة» إلى اللغة الصينية العام المقبل ٢٠٢٥، بالتعاون مع الشاعر الصينى شاو تشوى مؤسس حركة الشعر العظيم.
فى هذه القراءة، نحاول أن نقرّب الصورة أكثر على هذا المشروع العالمى النوعى الذى شارك فيه شاعران من مصر، هما الشاعر الراحل محمود قرنى، والشاعر أشرف أبواليزيد مع ١٧ شاعرًا عربيًا، بالإضافة إلى شعراء أجانب من الأسماء الكبيرة المرموقة والمعروفة عالميًا، بما يجعل من هذه التجربة جديرة بالتوقف والدراسة والنقد.
فى معرض تقديمه للكتاب، شرح عادل خزام تفاصيل العمل على هذا المشروع الذى استغرق منه أكثر من ٤ سنوات إلى أن تمكّن فى النهاية من جمع النصوص من لغات العالم المختلفة، ومن ثم ترجمتها إلى الإنجليزية ثم إلى العربية، ومن بعدها قام بموشجة النصوص ودمجها فى بنية النص الملحمى، وتوزيع الملحمة على عدة فصول تتناول كلها جانبًا من جوانب الرؤية الإنسانية للوجود كما يراها شعراء اليوم.
ملحمة إنسان القرن 21
أيضًا أوضح خزام أن الهدف من هذا المشروع هو أن يكون لإنسان اليوم، إنسان القرن ٢١ ملحمته الشعرية الخاصة التى تعبر عن أسئلته وقلقه الوجودى، ورؤيته الخاصة للعالم، هى رؤية مشتركة ولا يختلف عليها اثنان، كونها تعبّر عن الضمير الجمعى لشعراء العالم.
تستهل الملحمة مدخلها بالنص التالى:
● فى البَدْءِ كانَ العالَمُ شيئًا واحدًا
● لا غربَ لا شرقَ، لا وضوحَ ولا غموضَ
● ولا البدايةُ تعرِفُ أنَّ لها نهايةً
● ولا النِّهايةُ بَدَأتْ، أو صارَ لها مُؤيِّدونَ
● وُلِدَ الصّمتُ سَيِّدًا،
● وصارَ لا يُزعِجُه سوى ارتطامِ عِنادِ الصَّخرتَيْنِ
● وكانَ الهواءُ يَومئِذٍ، بقايا تَنفُّسِ آلهةٍ كلها ماتتْ
● ولمْ يَبقَ مِنها سوى الإنسانِ
● السَّيِّدُ العبدُ التُّرابُ التَّاجُ الهَباءُ الأرَقُ،
● المُنحلُّ إذا هبّتِ الرِّيحُ وعَوَتْ ذِئابُها
● المُنفصِمُ، لأنَّهُ خَلَقَ المرايا من أجله
● ولمْ يَتركْها نائمةً على سطحِ المياهِ
● وهُو المُفَكَّكُ كَلمةً كَلمةً
● وهُو أنتَ ولا أنتَ.
تتطور الملحمة بعد ذلك تدريجيًا من رؤية الشعراء إلى العالم فى الفصول الأولى إلى نظرتهم للحياة اليوم بتفاصيلها فى مواضيع الحب والحرب والعدالة والحرية والعنصرية والظلم، حيث يذهب يتحول خطاب الملحمة إلى نداء كونى عالى النبرة من أجل أن يتلفت إلى مصيرهم المشترك.. تقول الملحمة فى الفصل الثالث:
● سنة بعد سنةٍ تجمهرت الغيوم الداكنة
● لم تعد السماء زرقاء وولى زمن صفوها
● احمرّ الأفق اللا متناهى بسبب ارتفاع شهوة الدم
● تكاثرت الحروب اللاهبة
● مياه المحيطات أيضًا، تلوثت
● بكى ملحها، تخثّر فى طوفان الخسارات والخيبات
● وفسد مع ارتفاع الجوع والفقر
● لم يعد البشرُ قادرين على التقارب من غير قتال
● حتى التنفس، صار اختناقًا
● ليس بسبب طغيان الوحشة والكرب
● بل لأن الهواء صار رماديًا وسامًا
● هذا ما يحدث اليوم حقًا
● الآن الكلمات الحقيقية لا تُسمع أو تقال إلا نادرًا
● وما يروجُ هو العبارات التى بلا وزن أو معنى
● لقد ابتلعت التكنولوجيا كل شىء
● أصبح الصمتُ جزءًا منا فى عالم يصعب فيه
● أن تجد لحظة فرح
● وصار الحب، مجرد بقايا وذكرى فى متاحف الأمس.
البنية المعمارية للنص
شرح عادل خزام فى مقدمة الكتاب الطيفية التى اشتغل عليها فى توليد البنية المعمارية لهذا النص الملحمى الكبير. يقول: لا تحاول الملحمة أن تقدم تفسيرًا لهذا العالم، بقدر ما تبنى الرؤى والتصورات الشعرية المتخيلة حول تشكل الكون وولادة البشر والمخلوقات، واستمرارية النسل البشرى عبر هذه القرون الطويلة من الزمن والصراعات التى خاضها الإنسان، لكى يكتشف ذاته، وكى يتخلص من عوامل الغضب والغيرة التى دفعت الأخ ليقتل أخاه الإنسان. ومن بعدها صار عليه أن ينتصر بالخير وبالنوايا الحسنة على الشرور التى فى داخله.
كل هذه الأفكار التى تشرح أزمة الإنسان الداخلية، خاض فيها بعض الشعراء فى الفصول الأولى من الملحمة، لكن النص يتطور لاحقًا للتعبير عن وجود الإنسان اليوم، ويطرح ويعبر عن أسئلته ومخاضاته الآنية، ويقدم فهمًا جديدًا حول ما يريده الشعراء لهذا العالم أن يكون. ورغم مسحة التفاؤل وتبجيل قيم السلام والمحبة الخير، فإن الكثير من النصوص ذهبت للتعبير عن مشاعر الخوف العظيم من وجود السلاح النووى الفتّاك الذى يهدد بتدمير الأرض. مع ذلك، يتفقُ الجميع على فكرة التمسك بالأمل مهما اشتد الصراع بين الخير والشر، حيث الخلاص النهائى المنشود لهذا القلق الوجودى يكون فى التغنى بالأمل، وكل أمل يبدأ أولًا من القصيدة التى تصير لاحقًا صوتا ولحنًا على ألسنة البشر. تقول الملحمة:
● تنتظر منّا الحريةُ أن نكون معًا
● أعرف مكان المقبض الذهبى، لكنى لا أريد
● أن يَبلَى نَصْفهُ المتدنى ويتآكل.
● نحن لسنا فى سعيٍ للخروج من مكان ما
● نحنُ لسنا فى ذهاب للدخول فى مكان ما
● وما أردناه حقًا، هو أن نتحرر من أسر المكان كله
● كأن تنبتُ لأطفالنا الأجنحة
● ونراهم يرفعوننا إلى مجدٍ طالما حلمنا به فى الخيالات الأولى
● وفى تأملاتنا التى لا تنتهى.
التشابه والتضاد
فنيًا، يتكشف لنا المجهود الكبير حقًا الذى قام به خزام فى ربط هذه النصوص، وجعلها نصًا كونيًا واحدًا متناسقًا. وفى شرحه لهذه العملية قال فى المقدمة: تحمل لنا هذه الملحمة شكلًا شعريًا جديدًا يتمثل فى التنويع اللانهائى لأشكال وأساليب الكتابة الشعرية والسردية والقصص والشذرات والمقاطع القصيرة والفقرات التقريرية المباشرة والإيحاءات الرمزية بما يجعلنا أمام تجربة مختلفة وجديدة كليًا فى معمارها النصّى والبلاغى. وهى فى الوقت نفسه، تكشف عن قدرة اللغة اللا نهائية على التعبير بأساليب، حتى وإن كانت متضادة فى شكلها، إلا أنها يمكن أن تندمج فنيًا لتوليد نص جديد، وبأفق مفتوح على الاكتشاف فى ممارسة الكتابة الأدبية. نقرأ:
● هل قمت باختياراتك قبل وصولك إلى هذا الوجود؟
● كل تجارب حياتك محفورة بشكلٍ متعرجٍ
● مثل أثرِ حيّةٍ رقطاء مقطوعة الرأس
● اختر لنفسك البذرة من الداخل، وتوقف
● قل: لا للزهو، لا لرقصة الطاووس، ولا لرائحة الكراهية
● فقط جمال هائل، يتهادى على طريق من الزهور
● تحت وهج الشمس الغاربة
● ها هى زهرة التوليب المُزهِرة تتفتحُ للقلب النابض بالحياة
● فاختر بذرة للعقل، بذرة لقلبك
● بذرة للحياة، كى تجد غاية معناك
● اختر الحكمة العالية، وكن فطنًا
● لتنال المعرفة الكاملة، ولتدرك مكنون نفسك
قصيدة بكل لغات العالم
الأجمل كما يقول خزام إن هذه التجربة تنهل من كل لغات العالم لتنتج نصًا شعريًا عالميًا قادرًا على التعبير عن إنسان اليوم. والحقيقة أن تنوع الشعراء والأسماء والتجارب، لم يشكل على الإطلاق عائقًا أو تضادًا فى بناء النص، بل اتضح أن الرؤى الشعرية هى واحدة فى المطلق الأخير، وما يختلف فى العمق هو زاوية النظر لحياتنا، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة أو القضايا الكبرى، وهى مواضيع يستوعبها الشعر ويغذى بحره الشاسع من تدفقها نحوه من كل الاتجاهات.
● نحن جذور الأرض فى الأرض
● مِن متحدين إلى أكثر اتحادًا
● نحن نوحد التكوين فى هذا العالم
● نحن لسنا فقط الجزء الكامن تحت الأرض
● ولسنا الجزء الظاهر على سطحها
● لسنا مجرد دعم شكّلته الطبيعة وأفرزته
● وبالطبع، نحن لسنا فقط حروف الكلمة
● ولسنا مجرد أرقام أو معادلات جبرية
● لا.. الأرض تحفظنا بقوة
● ونحنُ نحافظ على الأرض بالقوة نفسها.
مجتمع القنبلة النووية
ما يمنح العمق لهذه الملحمة أنها تعترض لقضايا النسان الأشد حساسية من غير خوف، وهناك إسقاطات فلسفية عميقة حول مواضيع الظلم الاجتماعى والقسوة المبطنة، والجشع الذى تعرضت له البشرية فى تاريخها، وكأننا أمام صرخات نابعة من عمق التاريخ ما زالت تتكرر فى راهننا الهش. وهناك فى الملحمة فصل كامل بعنوان «مجتمع القنبلة النووية».. يقول شعراء العالم بصوت فردى واحد:
● أتحدث إلى روحى وكيانى
● أتحدث إلى الحكمة الإلهية فى الجسد البشرى
● قد تنفجر الأرض بسبب استخدام الأسلحة النووية
● وعندما ستغادر روحى هذا الجسد
● ستكون معها بالتأكيد حفنة من تراب هذا الكوكب
● اغفر لى، أيها النور الرحيم
● لقد أحضرت معى بأمانة حفنة من هذا التراب
● من أجل بذره هناك فى السماء الأولى
● واعذرنى أيها النور
● فقد أُسِرَت الأرض من قِبَل إرهابى
● يُسمَّى بالقنبلة الذرية
● بغطرسةٍ مقيتة يُملى علينا شروطه
● ويحذر: إنه على وشك أن يُفجِر نفسه
● الكوكب بأكمله فى خطر ...
ثقل الأسماء العالمية
الثقل الآخر الذى ينبغى الالتفات له، هو حجم الأسماء العالمية المشاركة فى هذا العمل، هناك على سبيل المثال باولو روفيللى أحد كبار شعراء إيطاليا اليوم، والشاعر الكولومبى فيرناندو روندون رئيس حركة الشعر العالمى ورئيس مهرجان ميديين الدولى للشعر، وأيضًا الشاعرة الأمريكية جين هيرتشفيلدز إحدى أهم شاعرات الولايات المتحدة اليوم وجوروج والاس، ولدينا جيرماين دروغنبرودت من بلجيكا وفرانسيس كومبس من فرنسا وفيونا سامبسون من بريطانيا وتطول القائمة لتشمل أسماء شعراء وأساتذة جامعات مهمين من أوروبا وآسيا وإفريقيا وأستراليا. إذ إن جمع هذا الحشد من الشعراء من حول العالم وإقناعهم بالمشاركة فى تأليف نص كونى عالمى مشترك هو بحد ذاته إنجاز وجهد يقدّر للشاعر العربى عادل خزام الذى قدم لنا تجربة تستحق هذا الاحتفاء. نقرأ صوت شعراء العالم اليوم:
● إنما نحنُ نغنى للزمن
● تُظهر الأحافير المتحجرة
● أثر أقدام رجل بالغ وطفلٍ يانع
● توقفا عن المضى قدمًا للأمام
● فالتفتا للنظر إلى الوراء
● ٣.٧ مليون سنة من المشى على قدمين
● من النظر إلى الأمام والنظر للخلف
● ماذا فعلت عندما كنت ماضيًا فى طريقك؟
● سأل الرمل الساكن تحت آثار الأقدام
● قبل أن تكسوه الصلابة
● ماذا فعلت عندما كنت ماضيًا فى طريقك؟
● الآن يسأل الجليد فى القطب الشمالى
● ماذا فعلت، ماذا فعلت؟
● ذات مرة، سأل الماموث الذى اختفى منذ فترة طويلة
● ومعه الأيل الأحمر العملاق
● ونحن نسأل بدورنا، نحن الذين ما زلنا نسير
● ونتطلع إلى الأمام والخلف
● نغنى أغانى الحب وننشد تسابيح الكوليكانث
● نردد أسماء المقدسات وترانيم الموتى
● ونقوم بسرد حكايات الخلق.
اختلافات المعنى والمبنى
هكذا تتوالى الملحمة فى تناسقها وتداخلاتها وكأنها تتحدث بصوتنا جميعًا. وبينما يرتفع هذا الصوت فى مكان ما، نراه يخفت إلى مستوى الهمس فى مكان آخر، وهنا تتكشف قوة عملية الربط التى قام بها منسق هذه الملحمة، بحيث ننتقل بسلاسة فى الأمكنة والأزمنة، ونتحدث عن الحب كما نتحدث عن الحرب فى سياق نص قابل قادر على استيعاب هذا الاختلاف فى المعنى والصياغة والتعبير..
● ها نحن الآن على بُعد ٣٠٠ عام من القرن الثامن عشر
● وعلى الرغم من قسوة المطر
● على الرغم من ارتفاع أسعار الطاقة بجنون
● على الرغم من البرد الذى يتسلل بخفة
● داخل ملابسك عندما ترى صور الحرب
● إلا أننى امرأة أركب الدراجة
● وسيأتى شخص ما لاصطحابى
● الصعود على الدراجات الهوائية
● هى الطريقة التى أتعرف بها على بيئتى شكل أفضل
● يجب أن أكون من الجنوب
● لأتمكن من القول له بشكل عفوى:
● دعنا نذهب لركوب الدراجات معًا
● على الطرق الريفية، على طول القنوات والجداول
● والمزارع المنتشرة عبر المروج
● حيثُ فى الصيف
● تصيرُ الطبيعة جميلة ويكسوها السحر فى كل مكان.
الخاتمة والآلات
فى نهاية الملحمة نصل إلى الفصل السادس عشر والأخير بعنوان «جمهورية الانسجام العظيم» وفيه نقرأ عن مآلات البشر اليوم:
● السكان أصبحوا مجرد أرقام
● مقسومين على أعشار ٍوأجزاء من المئة
● يمكن قياس عبء الفقراء، برسم بيانى توضيحى
● رسم ينحنى بالأشكال المناسبة؛ أمام العين المدربة على القياس
● حيث الوقتُ، والثوانى مؤشرات قابلة للرصد
● الحمل فى سن المراهقة نسبة مئوية
● وكذلك، قياس الوفيات، معدل الوفيات
● دولار للفرد، لكنه مع ذلك لا يحصل عليه قط.
تنتهى الملحمة التى تظّمت فصولها الستة عشر بصور لوحات لفنانين من حول العالم، تنتهى بما يشبه الحكمة الوجودية القديمة. تقول النهاية:
● كراتُ الثلجِ تُهلِّلُ للنار
● وأرواحُ الغائبين تعزفُ الأسرار
● اِفرحى أيتها النفْسُ، واكتمِلى
● الضياءُ على الأبواب، والسراجُ أبدىّ!