الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إدجار آلان بو.. كلمة السر فى احتقار بودلير للثقافة الأمريكية

إدجار آلان بو
إدجار آلان بو

- عاش حياته موسومًا بالشقاء والحرمان والتهميش ولم يظفر بالسعادة فى الحب ولا الكتابة.. ولا فى الموت

- الأب الروحى للقصة القصيرة.. رائد قصص الرعب والخيال العلمى.. مخترع الرواية البوليسية وأدب الجريمة.. والمحاصر بالجهل والفقر والأحزان

- بعد رحيله بـ36سنة رثته الولايات المتحدة بلوحة تذكارية فى متحف الفن الحديث «كان عظيمًا فى عبقريته، تعسًا فى حياته، بائسًا فى موته.. لكن شهرته سوف تبقى إلى الأبد»

يُحكى عن الشاعر والناقد الفرنسى الأشهر شارل بودلير أنه كان يستشيط غضبًا حين يلتقى بناشر أو صحفى أمريكى أو بريطانى لا يعرف إدجار آلان بو، وكان يصرخ فى وجهه: «أى حياة بائسة تعيشونها بسبب جهلكم، وعدم معرفتكم به».. وكان بودلير يرى فى آلان بو أنه مثيله الأمريكى، شريكه فى الإبداع، أو «النفس الثانية لبودلير»، حتى إنه كتب إلى أحد أصدقائه بعد قراءة عدد من قصصه وأشعاره فى إحدى المجلات الأمريكية: «وجدت قصصًا وقصائد كنت قد فكرت فى كتابة ما يشبهها، لكنها ظلت غامضة ومبهمة فى ذهنى، فلم أتمكن من إنهائها على الوجه الأكمل مثلما فعل هو»، وفى أحد اللقاءات الصحفية سُئل عن سبب انشغاله بآلان بو، فقال: «لأنه يشبهنى، عندما أفتح كتابه، أحس بأنه قريب منى، قريب بالخوف والدهشة والفرح».

فتنة بودلير بقصائد وقصص إدجار آلان بو لم تقف عند حدود القراءة والمتابعة وتقديمه للقارئ الفرنسى، بل وصلت إلى شنه حملة عنيفة وغاضبة ضد الثقافة الأمريكية التى لا تقدره حق قدره، ومنها قوله: «إن مصدر شقاء آلان بو أنه يعيش فى بيئة محدودة غير مثقفة، لم تستطع أن تفهمه، وترتقى إلى تقديره»، ويروى أحد أصدقاء بودلير أنه رافقه ذات مرة لزيارة صديق أمريكى مهتم بالأدب، وبمجرد دخولهما إلى حجرته بالفندق الذى يقيم به، بادره بودلير بالسؤال عن بو، فقال: «إنه كائن غريب فى سلوكه وفى كتاباته، والحوار معه عملية شاقة»، هنا اشتعل غضب بودلير، وغادر الحجرة دون وداع، ثم قال لرفيقه الذى لحق به على سلم الفندق: «يانكى تافه وغبى».

بودلير الذى ترجم أعمال بو القصصية فى ثلاثة مجلدات لاقت إقبالًا كبيرًا لدى القراء، كتب يقول: «قبل سنوات قليلة من سقوط بلزاك فى الهاوية الأخيرة مطلقًا شكاوى وأنّات بطل كانت لا تزال أمامه أعمال كثيرة لإنجازها، سقط إدجار آلان بو الذى يقاسمه الكثير من المواصفات، ضحية موت فظيع. وإن كانت فرنسا قد فقدت واحدًا من عظماء عباقرتها؛ فإن أمريكا فقدت هى أيضًا روائيًا، وناقدًا، وشاعرًا، وفيلسوفًا لم تكن جديرة به»، وكتب منتقدًا الأوساط الأدبية الأمريكية يقول: «تثرثر أمريكا وتهذى بسخاء كبير.. مَن بإمكانه أن يحصى عدد شعرائها؟! إنهم كثيرون، يحتلون المجلات والصحف.. نقادها؟! يمكنكم أن تعتقدوا أن لديهم بلاغيين مجوفين بمستوى من هم عندنا، مهمتهم الوحيدة أن يذكروا الفنان بالجمال القديم، ويسائلوا الشاعر أو الروائى عن أخلاقية هدفه، وعن قيمة توجهاته ونواياه.. هناك كما هنا، أدباء لا يحسنون الكتابة من دون ارتكاب أخطاء فظيعة، ما يقومون به لا ينتمى إلى الأدب، بل هو نشاط عبثى، لا فائدة ترجى منه، هم منتحلون بغزارة، وفى وسط هذا الغليان من الرداءة، وهذا العالم المفتون بالمهارة المادية، فضيحة من صنف جديد لفهم عظمة الشعوب الكسولة، فى هذا المجتمع النهم للمفاجآت، العاشق للحياة، خصوصًا تلك الحياة الموسومة بالإثارة المستمرة، ظهر رجل، وكان عظيمًا، ليس فقط بسبب دقته المتجاوزة للطبيعة، والجمال المرعب والمبهج لمفاهيمه، وعمق تحليله، وإنما هو عظيم أيضًا بسعة خياله، وبغزارة أحلامه. ومختنقًا بأجواء الحياة المادية فى بلاده، كتب فى مقدمة إحدى مجموعاته: أهدى هذا الكتاب للذين آمنوا أن الأحلام هى جوانب الواقع الوحيدة».

ستيفان مالارمي

عظيم فى عبقريته.. تعس فى حياته.. بائس فى موته

على أى حال، فهذا المقال ليس عن فتنة بودلير بما كتبه آلان بو، فهو لم يكن المفتون الوحيد بكتابات ذلك الأمريكى السيئ الحظ، لدينا أيضًا الفيلسوف والشاعر الفرنسى بول فاليرى الذى كتب عنه: «إن آلان بو استعار طريقًا ملكيًا نحو الفن، اكتشف الغريب داخل البديهى، والشىء الجديد فى القديم، والجمال فى القبح، إنه مبدع مثالى»، وكان يراه «عبقرى الأدب الحديث»، فيما قال الشاعر والناقد ستيفان مالارميه إن كتاباته بمثابة تعبير عن «الحالة الشعرية القصوى»، ولم يخف كثير من الكُتّاب حول العالم تأثرهم به وتقديرهم لفنه، من أوسكار وايلد، إلى تولستوى وروديارد كبلينج، وتشارلز ديكنز وأجاثا كريستى، وجول فيرن، وصولًا إلى ستيفن كينج، وآرثر كونان دويل.. حتى الولايات المتحدة الأمريكية التى طحنت عظامه حيًا، وضعت عام ١٨٨٥، أى بعد رحيله بخمسة وثلاثين سنة، لوحة تذكارية باسمه فى متحف الفن الحديث فى نيويورك، كُتب عليها «كان عظيمًا فى عبقريته، تعسًا فى حياته، بائسًا فى موته.. لكن شهرته سوف تبقى إلى الأبد»، ولمَ لا وهو أول كاتب أمريكى يحظى باستقبال واحترام دولى واسع لإنتاجه الإبداعى، وتمت ترجمة كتبه إلى عدد لا يحصى من اللغات، كما أنه المعروف حول العالم باعتباره الأب الروحى للقصة القصيرة الحديثة، ورائد أدب الخيال العلمى، والخبير فى قصص الرعب، هو مخترع القصة البوليسية أو رواية الجريمة، وأول من وضع قواعدها التى لم تخرج عنها حتى وقتنا الحالى، من حيث احتوائها على جريمة مستحيلة أو غير واضحة المعالم أو التفاصيل، يتولى حلها محقق غريب الأطوار، لكنه لامع وشديد الذكاء، وراوٍ هو فى الغالب شريك المحقق الذى يتولى شرح تعقيدات حله للجريمة.. غير أنه أيضًا أول كاتب أمريكى معروف يحاول كسب لقمة عيشه من خلال الكتابة وحدها، ما أدى به إلى حياة صعبة، ماليًا ومهنيًا.

يقول دونالد آل واسون، أستاذ التاريخ القديم والعصور الوسطى بجامعة إلينوى: «على الرغم من أن بو كان كاتبًا لامعًا، إلا أن حياته كانت حياة فقر وبؤس، وتعكس قصصه القصيرة وقصائده الشعور العميق بالخسارة التى عاشها طوال حياته، وصفته شارلوت مونتانى فى كتابها عنه بأنه عملاق الأدب الأمريكى الذى كانت حياته عبارة عن كارثة لا تحتمل، وقصة بؤس لا هوادة فيها، فقر مستمر، وإحباط وخيبة أمل دائمين.. وعلى الرغم من وفاته المأساوية فى سن الأربعين، إلا أنه هو من غيّر وجه الأدب الأمريكى إلى الأبد، وترك وراءه أكثر من ٧٠ قصة وقصيدة مروعة ورواية واحدة مليئة بالتشويق والحبكات الملتوية ببراعة».

ويذهب كثير من النقاد إلى أن أكثر موضوعات بو صعوبة تلك التى كان يحاول فيها البحث عن الحد الفاصل بين الأحياء وبين الأموات، واستكشاف الحدود بين الأشياء التى قد يرغب المرء فى بقائها منفصلة، كالحياة والموت، والإنسان والحيوان، والواقع والخيال، وأنه فى كل ما كتب من قصص وقصائد تبرز نقاط توتره وكآبته، كما يبرز قلقه ومواهبه التى شكلت شخصيته الإبداعية المغايرة، والتى لم يفلح فى تفكيك ألغازها ودخول سراديبها أحد أفضل منه هو شخصيًا، وذلك فى آخر محاضرة ألقاها فى مدينة ريتشموند قبل أشهر قليلة من وفاته حول مفهوم الشعر، أو المبادئ الشعرية، وهى المحاضرة التى تحدث فيها عن غاية القصيدة، وذهب فيها إلى أن غاية الشعر بصورة عامة هى السمو بروح الإنسان عن كل أثقالها المادية، داعيًا إلى التحرر من كل أشكال الرضا والبحث عن الفائدة العقلية التى يمكن أن تسيطر على الذهن، إذ الشعر هو ذلك السلوك المنفلت، وربما كان ذلك هو السبب فى اعتباره بين أبناء جيله كرمز للشاعر الملعون، المعاكس للتيار، المشاغب فى الكتابة الشعرية، والمخرب فى النثر، والمتمرد على كل المدارس الأدبية السابقة له، والذى تنقل قصائده ومقالاته اقتناعًا بالتجربة الملموسة، وتسليمًا بسلطة الذكاء الاستثنائى المغامر والمنفلت من كل القوانين، والثائر على التقليد.

شارل بودلير

يُتم مبكر وبؤس مقيم

ولد إدجار آلان بو فى بوسطن، ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية، فى ١٩ يناير ١٨٠٩، وكان الطفل الثانى لوالدين يعملان بالتمثيل هما ديفيد بو الابن وإليزابيث أرنولد هوبكنز «إليزا»، وبينما كان والده خيبة أمل كبيرة لوالديه اللذين أراداه أن يصبح محاميًا، ولم يحظ بأى احترام لقدراته التمثيلية، كانت والدته أرملة إنجليزية توفى زوجها تشارلز هوبكنز قبل ستة أشهر من لقائها به، وسرعان ما أنجبا طفلهما الأول ويليام هنرى بعد تسعة أشهر، وبعده بعامين جاء بو ثم الأخت الصغرى والوحيدة روزالى التى ولدت فى ١٨١٠، غير أنه لم تمض أشهر معدودة من ولادة روزالى حتى تخلى ديفيد عن عائلته بعد أن توقفت مسيرته العملية، وأدمن الكحول ثم توفى فى ديسمبر ١٨١١، وبعده بثلاثة أيام لحقت به الأم التى توفيت نتيجة لإصابتها بمرض السل قبل أن تكمل عامها الرابع والعشرين، وهو ذات المرض الذى رحل بسببه شقيقه ويليام هنرى وهو فى الرابعة والعشرين من عمره أيضًا.

هكذا بدأ الطفل بو حياته يتيمًا، حتى أجداده لم يتمكنوا من رعايته ماليًا فتوزع الأطفال الثلاثة، وكان بو من نصيب تاجر تبغ من ريتشموند يدعى جون آلان وزوجته فرانسيس، وهو الذى أخذ منه بو اسمه الأوسط، فأصبح إدجار آلان بو، ورغم أن العلاقة بينه وبين جون آلان لم تكن على ما يرام، ولم يقم بتبنيه بصورة رسمية، وقيل إن جون كان سريع الانفعال، لكن بو لم يكن بحاجة إلى أى شىء، إذ كان يتمتع بقدرة فريدة على حفظ وتلاوة مقاطع طويلة من الشعر.

فى عام ١٨١٥، غادر بو وعائلة آلان إلى أسكتلندا، حيث أقاموا فى البداية مع عائلة جون، قبل أن ينتقلوا إلى مدينة ليفربول البريطانية التى استقروا بها، وقتها كان بو فى السادسة من عمره فألحقه جون بمدرسة داخلية فى شارع سلون بلندن، وفى العشرين من يونيو ١٨٢٠، مرضت فرنسيس وتبددت آمال آلان فى إنشاء فرع لتجارته بإنجلترا، فأبحروا جميعًا مرة أخرى إلى ريتشموند، حيث بدأ توتر العلاقة بين بو وجون آلان بسبب ديون القمار التى غرق فيها، ورفض جون آلان دفعها، بل وعامله بقسوة، ورفض دعمه ماليًا، فاضطر إلى ترك جامعة فرجينيا التى كان قد التحق بها بعد ثمانية أشهر لعدم قدرته على دفع تكاليف الدراسة، رغم أنه خلال تلك الأشهر كان قد أظهر تفوقًا كبيرًا فى دراسة اللغات والآداب.

بدأ إدجار تعاطى الخمر، وانتقل إلى بوسطن عام ١٨٢٧، ولكنه كان معدمًا، وبدأ فى كتابة الشعر دون أن يحظى بفرصة كبيرة للنشر، وبمساعدة من بعض الأصدقاء نشر أولى مجموعاته الشعرية وهو فى الثامنة عشرة من عمره، ولكنه لم يطبع منها إلا خمسين نسخة، ولم ينشرها باسمه الشخصى وإنما باسم مجهول هو «شخص من بوسطن»، ولم يهتم بها أحد فى وقتها، لكنها بِيعت قبل سنوات قليلة مقابل ما يقرب من ٧٠٠ ألف دولار أمريكى.. فشل مجموعته الأولى وحالة الإفلاس المقيم اضطرته إلى الانضمام إلى الجيش كجندى تحت اسم مستعار «إدجار بيرى»، لكن الأمر لم يستمر طويلًا، فأخذ يحاول الخروج من الجيش مستعينًا بآلان، حتى بعد ترقيته إلى «رقيب أول»، وأخيرًا تمكن آلان من مساعدته فترك الجيش فى الأول من أبريل ١٨٢٩، ولكنه عاش عاطلًا عن العمل مرة أخرى فى بالتيمور مع ابن عمه، يقرأ ويكتب ولا شىء آخر.. فى هذه المرحلة استسلم بو لقدره، ولم يجد مخرجًا لحياته سوى فى الكتابة التى كان يحاربها فى داخله، ويؤجلها لإرضاء من حوله، وهو الذى بدأ بقراءة الشعر وكتابته فى الخامسة من عمره، وحين لاحظ أحد أساتذته تفوقه هتف لأهله ذات مرة: «هذا الولد خُلق شاعرًا».

ومرة أخرى، بمساعدة بسيطة من جون آلان، ودعم من الأصدقاء، التحق بو بالأكاديمية العسكرية الأمريكية فى «ويست بوينت» فى يونيو ١٨٣٠، رغم تجاوزه الحد الأقصى للسن، وبينما كان متفوقًا فى اللغة الفرنسية والرياضيات، طُرد فى مارس ١٨٣١ لفشله فى أداء واجباته، وبسبب تغيبه عن الدروس وحضور النداءات، ورغم أنه كان سعيدًا بآداب الرتبة والزى العسكرى، فإنه شعر بالقيود بسبب التدريبات واللوائح، وهكذا عاد مرة أخرى إلى بالتيمور ليعيش مع عمته ماريا وابنتها فيرجينيا البالغة من العمر ٩ سنوات، وليبدأ مرحلة من الانتعاش الأدبى والعملى، فبدأت الصحف والمجلات تنشر قصائده، وعمل محررًا مساعدًا لمجلة «ساوثرن ليترارى ماسنجر»، وكتب آلاف الأعمدة مقابل ١٥ دولارًا فقط فى الأسبوع، واضطر إلى الانتقال إلى ريتشموند للعمل، وانتقلت معه ماريا وفيرجينيا، وفى مايو ١٨٣٦، تزوج فيرجينيا بإذن والدتها، رغم أنها كانت تبلغ من العمر ١٣ عامًا فقط بينما كان هو فى عامه السابع والعشرين، فأصبحت نموذجًا لكثير من الشخصيات الجميلة فى قصصه، ولكنها مريضة وشاحبة وشديدة القرب من الموت.. هكذا لم تمض عشر سنوات من زواجهما حتى توفيت فى يناير ١٨٤٧، وكانت قد ظهرت عليها لأول مرة علامات مرض السل فى عام ١٨٤٣، وتدهورت صحتها ببطء، فيما كان بو يواصل الجولات، وتلاوة قصائده وإلقاء المحاضرات.

فقدانه فيرجينيا جعله يغرق مجددًا فى إدمان الخمر، ويقال إنه كتب لها أشهر قصائده «أنابيل لى»، كما قيل إنه تم القبض عليه أكثر من مرة وهو جالس إلى جانب قبرها بعد منتصف الليل، حيث لم يكن هناك شىء يعزيه عن رحيلها، وقيل أيضًا إنه رغم دخوله فى عدة علاقات غرامية بعدها، منها علاقة مع الشاعرة سارة هيلان ويتمان لم تستمر طويلًا، وأخرى مع سيدة أراد الزواج منها قبل شهور من رحيله تدعى ميس شيلتون، إلا أن كل من عرفهن من النساء، قلن إنه لم يحب إلا امرأة واحدة فى حياته.. هى زوجته وابنة عمته فيرجينيا.