الشلِل الأدبية.. من كتاب ومثقفين إلى عصابات لاقتسام المخلفات وتمجيد الفراغ
كلنا نحب ونكره، نبحث عن دفء الصحبة وونس الطريق.. وسواء أدركنا أم لم ندرك، تحركنا غريزة الانتماء إلى جماعة أو فئة، إلى جيل أو طبقة، أو حتى مجرد معارف وزملاء عمل أو مقهى.. نبحث عن الصاحب أو الرفيق، ونجتهد فى القرب منه والالتصاق به، فنسعد بوجوده، ونفرح به، ويؤرقنا غيابه.
ربما كان ذلك هو السبب فى أننى لا أرى فى «الشلة» أو المجموعة، وتجمع الأصدقاء ورفاق الجيل والعمل أى مشكلة أو عيب، بل أظنها مسألة طبيعية تمامًا، ومتسقة تمامًا مع الغريزة الإنسانية البسيطة، وطبائع الأمور.. لكنها فى عالمنا العربى، وفى مجتمع الثقافة والأدب والإبداع للأسف الشديد، اتخذت فى السنوات الأخيرة شكلًا، أو مسارًا لا يمكن التعامل معه كظاهرة طبيعية، أو يمكن القبول والترحيب به أو التسامح معه، خصوصًا مع تجاوزها لممارسات المجاملة الغريزية البسيطة، كالمحبة والكراهية والانتماء غير المؤذى للآخرين، وهو ما بدأ فى الظهور بقوة حين أصبحت الشلة أقرب إلى عصابات اقتسام الغنائم، والسطو على حقوق الآخرين، دون ذرة من مراجعة أو تأنيب أو شعور بالخطأ، وخصوصًا مع تدشين ذلك العدد الكبير من الجوائز الأدبية الخليجية، الكبيرة ماليًا، والتى لم يعد خافيًا على أحد اقتصار أسماء الفائزين بها، بل والمرشحين لها منذ البداية، على عدد شديد المحدودية من الكتاب والناشرين والنقاد، وجميعهم ممن تربطهم صلات وثيقة ببعضهم البعض، وبالوسط الصحفى فى عموم الدول العربية، سواء بالعمل المباشر، أو بالتعامل من الخارج، كمراسلين ومندوبين فى بلادهم، أو بالعزومات واللقاءات الدورية فى الندوات والمؤتمرات، فى المقاهى وحفلات النميمة، أو بالعمل فى مكاتب الحكومات ومؤسساتها أو هيئاتها الداعمة ماليًا للعمل الثقافى والأدبى، وهو ما أفقد الثقافة العربية حضورها الدولى، ولو مجرد ضيف عابر بلا قيمة، فجعلها بلا ثقل، ولا أهمية، ولا تأثير، وهو ما انعكس فى تراجع الترجمة عن الأدب العربى والعزوف عنها، ولو مولتها الحكومات ومراكز العرب فى دول العالم، وفى النظر إلينا كمجرد مستهلك لما ينتجه العالم من أفكار ومناهج وتيارات، لا كطرف فاعل وأصيل فى إنتاج الأدب والإبداع العالمى.. بل وفى نظرة رجال الأعمال الداعمين للثقافة والأدب فى بلادنا نفسها، وتعاملهم مع ما يتم تقديمه من قبلهم من جوائز تحولت إلى منح وهبات خيرية بلا قيمة أبعد من قيمتها المالية.. ولعل كثيرون يذكرون حديث رجل الأعمال المصرى نجيب ساويرس خلال حفل توزيع جائزة أحمد فؤاد نجم التى تقدمها العائلة لشعر العامية المصرية، وكلامه عن اصطحاب والدته له هو وشقيقه إلى «حى الزبالين»، وتأثرهما بما شاهداه، وتحفيزها لهما على مساعدة الفقراء، وهو حديث لا يخلو من دلالة، وإن ادعى أحدهم غير ذلك، سواء من حيث اختيار مناسبة الكلام، أو ما استخدمه من مفردات وعبارات واضحة ومباشرة، هى التصريحات التى مر عليها سماسرة الأدب مرور العابرين، ولم يلتفت إليها ويتوقف عندها سوى غير المنتفعين بها، ومن هم خارج شلل الصحافة والكتابة والنقد وعصابات اقتسام «المخلفات»، خصوصًا مع ارتباط جوائز العائلة بمؤسستها الخيرية، فهى باختصار شديد جوائز تمنحها مؤسسة خيرية لدعم ومساندة الفقراء والمحتاجين بعد رحلة لحى «الزبالين»، ولهذا لم يكن مستغربًا بالنسبة لى على الأقل، حديث الكاتب الراحل سعيد الكفراوى المتكرر عن احتياج فلان للجائزة لمرضه، أو لنفقات تزويج ابنته، أو غيرها من حكايات طالما رددها فى جلسات غير خاصة بمقاهى وبارات وسط القاهرة، ما يؤكد أنها من الأساس جائزة خيرية، يتقاسمها فقراء الصحف ورفاقهم ومعارفهم من معتادى التربيطات، وإدارة العلاقات.
لسنوات طويلة حاولت أن أكون قريبًا بصورة أو بأخرى من تفاصيل الحياة الأدبية والثقافية المصرية والعربية، كطرف مشارك أحيانًا، وأحيانًا كمراقب أو متابع بحكم الشغف الشخصى والعمل الصحفى، ولكن مع الاحتفاظ ببعض المسافة..
ولسنوات طويلة كان الحال ينتهى بى دائمًا إلى ما يشبه اليقين بأنه لا صلاح لما أصاب الثقافة والمثقفين العرب من أعطاب وعلل وصلت إلى المتن، وإلى الشرايين المغذية للقلب فاستوطنت الدماء، إلا بدماء جديدة نقية، لم يلوثها الفقر والحيلة والادعاء، لا تعرف المؤامرات، ولا التربيطات والميول العاطفية، ولا الشللية.. وهذه الأخيرة على وجه التحديد، هى تلك الغريزة التى يمكن اعتبارها آفة الآفات، فهى كفيلة بإفساد كل جميل، وتشويه كل موهبة، رغم أنه لا مفر منها، ولا مجال للقضاء عليها بصورة تامة ونهائية، لأسباب أظنها عديدة، لكن أقواها فى تصورى هو ارتباطها كما قلت بغرائز البشر، وبالرغبة فى تأمين الحماية عبر التلاحم القبلى فى صورته البسيطة والواضحة، ولو بتمجيد الخواء، بميلهم الطبيعى للأهل والأصدقاء والمعارف ورفاق الجيل وصحبة الأيام..
حتى ترشيحات الكتب في معرض الكتاب لم تخرج عن منتجات الشلة ورفاق المقهى والندوة، الورشة والمختبر والصحيفة، الجيل... ولا تخرج عن منتجات القطيع.
هنا يحضر الثناء على عمل من نحب ونعرف، سواء كان هذا العمل جميلًا ومبدعًا وفريدًا، أم مجرد شخبطات لا معنى لها ولا هدف ولا سمات. نسميها مجاملات لا تضر، وجبر للخواطر والنفوس، نسميها آراء شخصية أو عاطفية أو تشجيع ومؤازرة، وكلها أمور طيبة ومطلوبة فى بعض الأحيان، لكنها جميعًا تختفى حين يتصل الرأى بعمل من لا نعرف أو لا نحب وإن كان أفضل.. فلا مجال ساعتها لجبر الخواطر، لا مبرر للمؤازرة، أو المجاملة البسيطة، ولا مكان للثناء أو حتى الاستحسان، ولا لمجرد القراءة أو الاقتناء..
ولكى لا نذهب بعيدًا، فلك أن تتابع معى منشورات الكتاب والمثقفين طوال أيام معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته التى بدأت منذ أيام، والخاصة بما اقتنوه من كتب ومطبوعات، سواء بالشراء أو الهدايا، ولا أظن أننى بحاجة إلى أن أقول لك أنها لن تخرج جميعها عن كتب الأصدقاء والرفاق والمعارف، لن تخرج بحالٍ من الأحوال عن كتب الشلة القريبة، من رفاق المقهى والندوة أو الورشة والمختبر والصحيفة والجيل، من الآخر وبعبارة واحدة.. لن تخرج عن منتجات القطيع.
أزمة مزمنة لا سبيل للخروج منها أو التغلب عليها لارتباطها بغريزة أساسية هى غريزة البحث عن حماية والانتماء إلى قطيع
وليسمح لى صديقى الدكتور محمد الباز، رئيس تحرير «حرف» بالاستشهاد هنا بأحد الملفات التى ننشرها هنا تزامنًا مع فعاليات المعرض، وتحديدًا بالملف الذى يعده الأديب الشاب إيهاب مصطفى حول ترشيحات كبار الكتاب والنقاد والمثقفين للكتب التى ينصحون العامة من أمثالنا بشرائها من المعرض.
أعرف أن الفكرة من الملف هى تقديم خدمة ثقافية محترمة، فى ظل ظروف اقتصادية صعبة لا تسمح للجميع بالتجريب فى شراء كتب غير مضمونة القيمة أو المحتوى، ولكن ما باليد حيلة، فهؤلاء هم كبار كتابنا ونقادنا ومبدعينا، أو أشهرهم وأكثرهم حضورًا فى المشهد الإعلامى، وتلك هى ترشيحاتهم واختياراتهم، والتى لم تخرج عن ترشيحات لكتب ومنتجات الشلة أو ذوى القربى، لا أنكر أن من بينها بالفعل ترشيحات جيدة أو مقبولة، روايات ومجموعات قصصية وكتب نقدية، لكنها لا تزيد على ترشيح واحد أو اثنين، ولا تزيد فى مجملها على أصابع اليد الواحدة، فيما جاءت غالبيتها للأسف الشديد لأعمال متوسطة الجودة، لأنه لم تكن رديئة المستوى، لكن تميزها الوحيد فى العلاقات التى تجمع بين صاحب الترشيح وبين المرشحة كتبه، وهى العلاقات التى أعرفها جيدًا، بحكم عملى على الأقل، والحقيقة أننى لا أرى فى ترشيحها للقراء غير شكل من أشكال التضليل المتعمد من قبل هؤلاء الذين نظن أنهم كبار ونثق بهم وبذائقتهم.. هى تغرير بمن يثقون فيهم وفى حسن دواخلهم، وهى بعبارة قد تكون قاسية «خداع كامل» لا يليق بأحفاد كتاب ونقاد لم تثنهم قربى عن قول حقيقة ما يدور بأنفسهم، ولم يترددوا فى «تقطيع» ومعارضة كتابات أصدقاء خالفهم الصواب فى دراسة أو رأى أو مقال، فى قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة، أو أيًا كان نوع المنتج الإبداعى محل النقد والرد والتفنيد.
ولا تندهش إذا قلت لك إننى شخصيًا شاهدت بعينى، واستمعت بأذنى إلى عشرات الحكايات والمواقف التى توجع القلب، وتؤذى النفس، وتدفع كل مقبل على اقتراف فعل القراءة والكتابة إلى مراجعة النفس، والتوقف طويلًا قبل الدخول فى هذا الوسط الذى تملأ الأجواء حكاياته وقصصه وحروبه التافهة والصغيرة، والتى تصل فى جموحها فى كثير من الأحيان إلى إطلاق الشائعات والتشنيعات المنحطة ضد كل من هم خارج الشلة، فى محاولة لنفى أى صوت يعلو إلى جانب صوت القطيع، أو العصابة والجيل، وبما لا يليق بكتاب وفنانين ومثقفين وقادة أو مرشدين روحيين للمستقبل.. فكيف تحول مفهوم الشلة من معنى المؤازرة والونس والتآلف، إلى تشكيل عصابى مهمته الأولى هى تقاسم «فضلات» الحكومات ورجال الأعمال والمؤسسات الخيرية وغير الخيرية ومخلفاتهم؟! ومهمته الأولى أيضًا هى نفى الآخر المختلف والخارج عن الشلة، وتصويره فى أبشع صورة ممكنة؟!
أفقدت الثقافة العربية حضورها الدولى وجعلتها بلا قيمة ولا أهمية.. فتراجعت الترجمة عنها ولو مولتها الحكومات
الفقر يورث الحيلة، ويشحذ الرغبة فى البحث عن حلول للترقى، والقدرة على الخروج من أسر الاحتياج، والمعرفة تساعد على توسيع مسارات تلك القدرة، فتفتح لصاحبها طرقًا ربما لا ترد على بال أو خاطر، وتوهم النفس بالاستحقاق والجدارة، والرغبة فى التجاوز عما يعوق استقرار ذلك الوهم، خصوصًا مع ارتباط الأدب والإبداع بإغراءات الشهرة، ووهم التأثير، وكلما زادت حدة الفقر والحاجة، زادت الحيلة، وزادت مساحات التقارب بين أفراد الشلة، سواء كانت هذه الشلة من الطبقات المتقاربة أو الجيل الواحد أو حتى المهنة الواحدة، وكلما بدأت تربيطات الخروج من الفقر، واصطناع مبررات السطو على حقوق المخالفين، الخارجين عن الشلة، وإن كانوا هم الأكثر إبداعًا وتميزًا وقدرة على اجتراح المستقبل، على أن هذه الحالة ليست قاصرة على الفقر المالى كما قد يظن البعض، فللفقر صور وأشكال كثيرة لا حصر لها، وربما كان أهمها وأخطرها فى ظنى هو الفقر النفسى، كالفقر إلى الوجاهة الاجتماعية، وفقر الثقة بالنفس، والاحتياج إلى صورة لا يملك الشخص مقوماتها، وغيرها من صور قد تنتج أشكالًا موازية من الشلل، أو العصابات التى تؤازر بعضها بعضًا للفوز بما ليس لها، فتجد لدينا أطباء روائيين، يشيدون بكتابات بعضهم البعض ويمجدون ما يخطه الزميل من فراغ منزوع الجمال، قضاة أو ضباطًا متقاعدين لا يترددون فى اقتراف الشعر والقصة على مظنة أنها مجرد حكاية للموعظة الحسنة وتمضية الوقت، محامون ومهندسون وأساتذة جامعات يجربون حظهم فى أى شكل من أشكال الكتابة والإبداع لتعويض ما ينقصهم من حضور، أو لمجرد وضع «وردة فى عروة الجاكيت».. كل هؤلاء يلجأون إلى الدخول فى تكتلات وشلل وجماعات، لمجرد أنهم يشعرون بداخلهم أنهم لا يمتلكون مقومات الإبداع الحقيقى، وأغلب الظن أنهم لا يعرفون فى الأصل الفارق ما بين الإبداع الأدبى والفنى وبين «أى شغلانة لأكل العيش»، فتكون النتيجة هى إهدار دم الأدب والفن على مذابح تمجيد الفراغ، والاحتفال بما لا يليق به سوى الحزن، والأسف على ما وصلنا إليه من حال أصبحت معه جوائز الأدب مجرد إعانات لمحتاجين وفقراء، أو استئجار لأقلام تدافع عن سياسات حكومات غير صديقة، وتوجهات لا يقبل بها مبدع تحركة حريته، وطموحه لحياة يسودها العدل والحق والجمال، خصوصًا أن الأهداف من جوائز الأدب والفن والإبداع، كلها، دائمًا واضحة، وشبه معلنة، يراها كثيرون، ويعرفون بها، ويتحدثون عنها، لكن لا أحد يريد أن يعترف بأن هذه هى الحقيقة المؤلمة، وأن يسمو بحرفته بعيدًا عن الشبهات، أو السقوط فى فخاخ مانحيها.