بعد 55 عامًا من عرضه الأول
فخ ثلاثى.. كيف نجا عبدالناصر من مصيدة الأبنودى وأباظة ومحمود مرسى؟
- ناصر أفسد المؤامرة ونجا من الفخ بسماحه بعرض الفيلم على مسئوليته
فى العام 1969 عُرض «شىء من الخوف»، بما يعنى أن 55 عامًا مرت على عرض الفيلم، ورغم تلك السنوات الطويلة فإن الفيلم يزداد حضورًا وألقًا وبريقًا ورسوخًا فى الوجدان، بل يكاد يتحول إلى واحد من أهم أيقونات السينما المصرية وأساطيرها، فلا يوجد استفتاء سينمائى إلا ويحجز الفيلم مقعدًا فى المقدمة، مهما اختلف نوع الاستفتاء، فهو حاضر بقوة حاجزًا مكانه فى الصفوف الأولى، وسواء تعلق الأمر بالفيلم السياسى، أو الغنائى، أو الملحمى.. ومع اختلاف الأنواع والأذواق ستجد حتمًا فيلم «شىء من الخوف».
صحيح أن أغانى شادية وألحان بليغ حمدى وكلمات الأبنودى وعبقرية حسين كمال كانت أسبابًا فاعلة لنجاح الفيلم، إلا أن الجزء الأكبر والأهم من نجاحه يُحسب لبطله محمود مرسى، الذى وصل أداؤه فى الفيلم إلى درجة من الإبداع تجعله «بيضة الديك» من بين كل رصيده السينمائى.. ومثلما كانت «الأطلال» هى ذروة التجلى فى مشوار أم كلثوم الغنائى، فإن فيلم «شىء من الخوف» هو تلك الذروة فى مشوار مرسى السينمائى.
فى كل مرة أشاهد الفيلم يتجدد استمتاعى بأداء محمود مرسى المذهل، وهو يجسد شخصية «عتريس» بكل تحولاتها، من العاشق إلى السفاح، ومن فرط الرومانسية إلى فرط الدموية.. وبعد كل مرة من المتعة المتجددة أدعو بالرحمة لوزير الإعلام القدير د. عبدالقادر حاتم، الذى كان سببًا فى تفجّر موهبة محمود مرسى التمثيلية، ليس بتشجيعه عليها، بل لأنه أصدر قرارًا بـ«رفده» كمخرج إذاعى وتليفزيونى، فلم يجد المخرج الشاب أمامه إلا التمثيل!
وكثيرون ممن يقفون مبهورين أمام عبقرية محمود مرسى كممثل سيشعرون بصدمة حقيقية عندما يعرفون أن التمثيل لم يكن فى خططه ولا حسبانه ولا حساباته، وإنه دُفع إليه دفعًا، ومارسه مضطرًا، فقد كان الإخراج هو حلمه الذى سافر من أجله- وعلى نفقته الخاصة- لدراسته دراسة علمية وأكاديمية فى أرقى معاهده العالمية، وهو معهد «الإيديك» بباريس، وكان أول مصرى وعربى يلتحق به ويحصل على شهادته فى الإخراج عام ١٩٥٤، وأثناء دراسته عمل فى الإذاعة الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى لندن للعمل مخرجًا فى القسم العربى بهيئة الإذاعة البريطانية فى أول يوليو ١٩٥٦.
وما هى إلا أسابيع قليلة بعد استقراره فى BBC حتى أعلن الرئيس عبدالناصر تأميم قناة السويس، ليبدأ بعدها العدوان الثلاثى الذى شاركت فيه القوات البريطانية، وبلا تردد قرر المخرج الشاب تقديم استقالته احتجاجًا وعاد إلى القاهرة، مضحيًا بوظيفة مرموقة ومستقبل مضمون وراتب ضخم.
ومن حسن حظه أن وزير الإرشاد وقتها فتحى رضوان «وكان صديقًا لوالده» عرف بقصة استقالته لأسباب وطنية، فعرض عليه العمل مخرجًا فى الإذاعة المصرية، وكان ذلك يوم المنى بالنسبة للمخرج الشاب، حيث جاءته الفرصة التى يحلم بها، وفى إذاعة البرنامج الثانى «الثقافى» أبدع فى تقديم روائع درامية مستوحاة من كلاسيكيات الأدب العالمى والمصرى.
ومع افتتاح التليفزيون عام ١٩٦٠ سافر المخرج الشاب فى بعثة دراسية إلى إيطاليا ليدرس أحدث فنون الإخراج التليفزيونى، وكان فى ذلك الوقت قد تزوج من الفنانة الكبيرة سميحة أيوب، وأنجبا ابنهما الوحيد علاء فى روما خلال شهور البعثة، ويعود منها ليقدم إبداعات فى الدراما التليفزيونية الوليدة، لعل أبرزها «الحب الكبير» أطول سهرة درامية فى تاريخ التليفزيون حيث بلغت مدتها ثلاث ساعات كاملة، وكانت حدثًا فى تاريخ التليفزيون العربى حينها «١٩٦٢»، وحققت نجاحًا هائلًا، وأصبح معها محمود مرسى إحدى المواهب الواعدة فى الإخراج التليفزيونى.
هذا النجاح الكبير لتمثيلية «الحب الكبير» أصاب مخرجها بلعنة غريبة، لأنه لم يجد نصًا فى مستواها، وفى حين كان وزير الإعلام عبدالقادر حاتم يستعجله لتقديم المزيد استثمارًا للنجاح والصدى، كان هو مُصّرًا على ألا يقدم عملًا جديدًا إلا فى مستوى «الحب الكبير»، وطال بحثه وانتظاره ومكوثه بلا عمل حتى أوشك على الإفلاس، وبعين الجواهرجى رأى المنتج رمسيس نجيب فى محمود مرسى مشروع ممثل عبقرى، فعرض عليه التمثيل، وهو عرض رآه محمود غريبًا..«لأن أنا شخصيًا لم أكن مقتنعًا بنفسى كممثل، وكان تفكيرى كله فى الإخراج.. وكان أصدقائى من الممثلين يشيعون عنى أننى أملك موهبة التمثيل، وكنت دائمًا أحاول أن أكذب هذه الشائعة».
الظروف التى عاشها من بطالة وإفلاس جعلت مهمة رمسيس نجيب أكثر يسرًا فى إقناعه بخوض تجربة التمثيل، ومنحه دورًا فى فيلمه الجديد «أنا الهارب» مع ملك الترسو فريد شوقى، وشاهدته سيدة الشاشة فاتن حمامة ممثلًا؛ فرشحته لدور رئيسى فى فيلمها الجديد «الباب المفتوح» ثم بطلًا معها فى «الليلة الأخيرة»، الذى فتح على محمود مرسى باب نجومية التمثيل، وفى الوقت نفسه تسبب فى رفده من التليفزيون وضياع مستقبله كمخرج!
والذى حدث أن وزير الإرشاد «الثقافة والإعلام» د. عبدالقادر حاتم سلمه جائزة التمثيل عن دوره فى «الليلة الأخيرة»- إخراج كمال الشيخ- وبعد أيام فوجئ محمود مرسى بخطاب من الوزير يبلغه فيه بفصله من التليفزيون.. بعد أن أثبتت التقارير أنه «موظف مشاغب»، حيث كان دائم الحديث عن ضرورة تطوير لوائح العمل فى التليفزيون وفق ضوابط جديدة تتجاوز الروتين وتشجع على الإبداع.. وهكذا وجد محمود مرسى نفسه بلا وظيفة، وبلا دخل مادى ثابت، فلم يعد أمامه إلا التفرغ للتمثيل!
فى البداية لم يكن يملك رفاهية الاختيار، فكان يجد نفسه مجبرًا على قبول أدوار لمجرد أكل العيش، وغالبًا فى أفلام فريد شوقى، وفوجئ مرسى ذات يوم وهو يسير فى الشارع برجلين يسيران بالقرب منه وأشار أحدهما ناحيته، وهو يسأل صاحبة: مش ده الراجل اللى ضربه فريد شوقى فى الفيلم!
ثم جاء فيلم «السمان والخريف» أمام نادية لطفى، ليكون نقلة فى مشواره مع التمثيل، أثبت فيه حضورًا استثنائيًا وطريقة أداء خاصة ورسوخًا أمام الكاميرا.. وكما فعل بعد «الحب الكبير» مخرجًا ظل ينتظر عملًا على نفس المستوى والألق، تكرر معه الأمر ممثلًا سينمائيًا، ورفض بعد «السمان والخريف» العديد من الأعمال التى عرضت عليه، لأنه لم يجد فيها ما يبحث عنه ويشبع طموحه ويرضى موهبته، وظل عامين بلا عمل..حتى جاءه صديقه حسين كمال- زميله القديم فى التليفزيون- بـ«شىء من الخوف».
ربما انعكس هذا الانقطاع الطويل بشكل إيجابى على محمود مرسى، متمثلًا فى حالة من «الجوع»، بل النهم للتمثيل، فجعله يخرج كل طاقته فى تجسيد تلك الشخصية المركبة شديدة التعقيد بمرحلتيها: الجد والحفيد.
المؤكد أن ثروت أباظة بقصته متواضعة القيمة أدبيًا لم يكن يحلم بأن تحظى بكل تلك الشهرة والمجد، لولا تحويلها إلى سيناريو سينمائى فائق الروعة والقيمة، كتبه صبرى عزت، ومنحته تلك الأغانى الملحمية عمقًا وأضافت الكثير إلى القصة، بل كانت جزءًا منها تكمل وتشرح وتوضح وتفيض بالمتعة، بل يظل ما صاغه الأبنودى وما لحنه بليغ وما غنته شادية حالة فريدة وغير مسبوقة وكانت سببًا فى تميز الفيلم وخروجه بذلك الشكل الاستثنائى.. وفى جلساته الخاصة كان الأبنودى يؤكد أنه كاتب السيناريو والحوار الحقيقى للفيلم.
لكن يظل أداء محمود مرسى المُعجز فى شخصية عتريس هو مفتاح السر فى النجاح الأسطورى للفيلم، تقمص الدور بعبقرية ممثل راسخ ودارس وواع لكل لفتة وحركة وانفعال، حتى إنك فى كثير من مشاهد الفيلم لا بد أن تصدق أنك أمام شخصية طاغية كفر الدهاشنة غليظ القلب المنزوع الرحمة، وحدث أن الطفلة الصغيرة- عزة فؤاد- التى جاءوا بها لتمثل دور «فؤادة» الطفلة البريئة فى مشهد يجمعها مع عتريس الجد، عندما دارت الكاميرا ونظرت الطفلة لملامح محمود مرسى وعينيه المشعتين بالشر نسيت الكلام، وتكرر النسيان عندما أعادوا التصوير، واضطر حسين كمال إلى وضع موسيقى تصويرية مكان كلامها.
وعندما سئل محمود مرسى عن سر هذا الوهج، تلك العبقرية فى فن التمثيل وحرفيته، أجاب بثقة: «عندما أمثل أنسى كل النظريات والمناهج التمثيلية.. أميل إلى الواقعية.. إلى الصدق.. أتحاشى الاندماج الكامل.. لا أذوب تمامًا فى الشخصية؛ خشية أن تعصف بى انفعالاتى.. أكون يقظًا عقليًا.. أركز بقلب دافئ وعقل بارد.. أستبعد استلهام ممثل آخر وحتى شخص شبيه قابلته فى الحياة.. احترس من الوقوع فى الكليشيهات».
لكن كل تلك الروعة كتابة وتمثيلًا وغناء وإخراجًا لم تكن وحدها كافية بأن تمنح الفيلم كل هذه الشهرة والذيوع، لولا الضجة التى أثيرت حوله وكان الرئيس عبدالناصر طرفا فيها.
لم يكن سرًا أن كاتب القصة ثروت أباظة، بحكم انتمائه لطبقة إقطاعية تضررت مما حدث فى يوليو، يحمل عداء واضحًا للثورة وزعيمها، لكنه لم يكن من الجرأة لأن يعلنه ويسمى الأشياء بمسمياتها، فلجأ إلى الرمز وحاول بشكل مستتر أن يوجه سهامه إلى الثورة وزعيمها من خلال قصة رمزية تدور فى قرية «الدهاشنة» التى استولت عليها عصابة وأدارتها لمصلحتها وصار كبيرها «عتريس» الدموى الشرس هو الحاكم بأمره، يسفك الدماء ويجمع الإتاوات بالقوة ويستبيح كل شىء.. لا راد لكلمته ولا يجرؤ أحد على معارضته.
الغالب أن شاعرنا الكبير عبدالرحمن الأبنودى التقط ما بين سطور القصة، فلعب على شخصية عبدالناصر، وكان حينها خارجًا من تجربة السجن فى معتقلاته متهمًا بالانتماء إلى تنظيم شيوعى.. وليس بمستبعد أن الفيلم كان فرصة سانحة له للانتقام.
صحيح أن مكان الأحداث وزمانها يبدو غامضًا، مثلما حاولت كلمات الأبنودى فى المقدمة أن تأخذ العيون بعيدًا: البلد اسمها الدهاشنة والمكان محدش دلنا/ يمكن مكانش أبدا/ يمكن فى كل مكان/ إمتى محدش قال لنا/ يمكن محصلش أبدًا.. لكن مع توالى الأحداث يتضح الهدف والمقصد.
لكن الرمز كان يطل برأسه.. وهو الأمر الذى اكتشفه الرقيب، فقرر عدم التصريح بعرض الفيلم إلا بعد عرضه على الرئيس عبدالناصر شخصيًا، بعد أن ارتفعت الهمسات وراجت التفسيرات بأنه المقصود بشخصية عتريس، وأعضاء مجلس قيادة ثورته هم أعوانه.
والثابت أن الرئيس عبدالناصر شاهد الفيلم مرتين، وكان الجميع ينتظر قراره وكلمته، وصناع الفيلم يضعون أيديهم على قلوبهم، فقد كانت الأفيشات فى الشوارع، ودور العرض تنتظر.
وفى المرة الثانية شاهد عبدالناصر الفيلم وبجواره رئيس مجلس الأمة أنور السادات، ورغم التحريض الواضح على الفيلم، ورغم أن قريبين من الرئيس أكدوا له أنه المقصود بشخصية عتريس، إلا أن عبدالناصر كان من الذكاء والدهاء عندما قرر التصريح بعرض الفيلم، فقد أدرك أن المنع يثبت الشائعة، ثم أن الظروف السياسية بعد النكسة كانت تقتضى فتح النوافذ ليخرج البخار والغضب المكتوم، والشواهد كثيرة على توجيهات عبدالناصر فى جلسات رسمية بأن يتركوا الناس يعبرون عن رأيهم.. وكان ذلك من حسن حظ الفيلم، فقد وافق عبدالناصر على عرضه دون حذف أى مشهد أو كلمة، وعندما راجعوه فى المشهد الأخير الذى يحمل فيه أهل القرية المشاعل ليحرقوا بيت عتريس، رد عبدالناصر بذكاء: لو كنا زى المجرمين دول يبقى نستاهل الحرق!
ولكن يظل السؤال: كيف قبل محمود مرسى بطولة فيلم يحمل هجائية عنيفة للبطل الذى عشقه وانتمى لتجربته وثورته، بل ارتضى أن يستقيل من عمله فى هيئة الإذاعة البريطانية ويضحى بمستقبله تضامنًا مع قرار ناصر بتأميم القنال ورفضًا للعدوان الثلاثى؟!
الإجابة: فتش عن «النكسة»، فقد كانت حدثًا فارقًا فى موقف محمود مرسى من الثورة وعبدالناصر، وهناك من القريبين من الفنان الكبير من وصل إلى القول بأنه «كفر» بالتجربة الناصرية، وأخذ منها موقفًا نقديًا حادًا، إلا أن الراجح أنه كأغلب الذين صدمتهم النكسة وزلزلزت قناعاتهم وأصابتهم بشرخ عميق لم يندمل، لم يعودوا بنفس حماسهم القديم وإيمانهم الراسخ بالحلم والتجربة.. لذلك لم يجد محمود مرسى ما يمنع فى بطولة الفيلم، حتى لو فاحت منه رائحة النقد والهجوم.
يمكننا إذن أن نقول إن تحالفا ثلاثيًا غير مقدس جمع محمود مرسى والأبنودى وثروت أباظة، كل واحد منهم يحمل غصة من عبدالناصر، فقرروا دون اتفاق أن ينتقموا من ناصر.. لكن الأخير كان من الدهاء أن نجا من الفخ بسماحه بعرض الفيلم كاملًا وعلى مسئوليته.
على أى حال يبقى «شىء من الخوف» «بعد ٥٥ سنة على عرضه.. وبعيدًا عن تفسيراته السياسية» هو «أيقونة» مسيرة محمود مرسى السينمائية.. وشىء من عبقريته.