الانكسار الثانى لصلاح جاهين.. اغتيال «عصفور النيل»
- قصة عرض مسرحى وافق عليه وزيرا ثقافة والمسئول الأول عن المسرح ورفضته موظفة!
- عبدالناصر حلم بمصر كبيرة عظيمة عفية.. مصر ما فيهاش لا استعمار ولا إقطاع
فى العام 2018، وفى ذكرى مرور 25 عامًا على رحيل عبقرى الموسيقى بليغ حمدى، تحمس المخرج د. عادل عبده رئيس قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية وقتها لإنتاج عمل مسرحى غنائى استعراضى عن سيرة ملك المزيكا، وذللت لنا وزيرة الثقافة حينها د. إيناس عبدالدايم كل المعوقات الإدارية حتى يخرج العمل فى توقيت الذكرى، وقد كان، وظهر «سيرة حب» وحصل على لقب أفضل عرض مسرحى فى استفتاءات معتبرة، وظل معروضًا ثلاثة مواسم متتالية.
وعندما جاءت د. إيناس لمشاهدة العرض- من فرط سعادتها بنجاحه وأصدائه- اقترحت أن نعيد إحياء المسرح الغنائى المصرى بسلسلة من العروض عن رموز الإبداع الغنائى والموسيقى، لكن جاء شبح الكورونا ليوقف الحياة ويعطل الأحلام.
ولما عادت عجلة الحياة لدورانها، وفى العام ٢٠٢٢ اختارت وزارة الثقافة المبدع العظيم صلاح جاهين ليكون شخصية العام الثقافية، وزينت صوره وسيرته ندوات ومطبوعات معرض القاهرة الدولى للكتاب، ورأيت أنها مناسبة لا تعوض لتقديم عمل مسرحى عن حياته، نستأنف بها مشروع المسرح الغنائى، وهل هناك أجمل من غناء صلاح جاهين وأغنى من سيرة وشخصية وموهبة طفل السماء؟
وبالفعل كتبت عملًا مسرحيًا فيه حالة الجنون الجاهينية، سميته «عصفور النيل.. الليلة الأخيرة لصلاح جاهين»، وهو ليس سردًا لسيرته بقدر ما هو تعبير عن تلك الشخصية الفذة، إنسانيًا وابداعيًا، تدور أحداثه كلها فى ليلة رحيله، وتختلط فيها الوقائع بالخيال، وتصورت هذا العبقرى وهو يودع الدنيا، وداعًا يليق بجنونه الفنى والإنسانى، وفلسفته المبهرة للحياة، وتخيلت ليلة يطوف فيها على أقرب الناس إلى قلبه وشركاء تجربته وعلامات الطريق فى مشواره.
وكان بينها مشاهد «مجنونة» تخيلتها، بينها مثلًا أن يجمعه لقاء بالرئيس عبدالناصر، الزعيم الذى آمن به وبثورته حد العشق، وكتب فيه وفيها أجمل أغانيه، وكان صوته وصوتها، إلى أن وقعت نكسة ١٩٦٧ فأفاق من أحلامه على كوابيس ظلت تطارده وتؤرقه وتسلمه إلى حالات من الاكتئاب، وظل جرح النكسة هو وجعه المزمن وألمه المبرح وانكساره المزلزل.
تخيلت مشهدًا يجتمع فيه صلاح جاهين بعبدالناصر بعد ما يقرب من عشرين عامًا على النكسة، وبعد ما يقرب من ١٦ عامًا على رحيل عبدالناصر، كيف يكون شكل اللقاء والعتاب بين الشاعر والزعيم، وهكذا صارت مشاهد المسرحية، مزيجًا ساحرًا من الوقائع والخيال، تتسرب من خلالها السيرة والحالة والمعلومات، ممزوجة ومغزولة بأرق أغانى جاهين ورباعياته.
وكنت حريصًا على أن يكون بهاء جاهين أول من يقرأ النص، وبعد أيام جاءنى رده فى ثلاث كلمات بليغة كانت كافية وشافية ومُغنية: أنا شفت أبويا.
وأستطيع أن أعدد وأورد أسماء عديد من المبدعين المسرحيين الذين قرأوا النص وقالوا فيه ما يثلج الصدر، وبالفعل تم إدراج العرض ضمن خطة عروض البيت الفنى للفنون الشعبية والاستعراضية فى العام ٢٠٢٢، وبدأ المخرج الموهوب هانى عبدالهادى فى التجهيز والتحضير للعرض واختيار «الكاست».
وبعد هذا الجهد الجهيد، فوجئنا بأن «الميزانية خلصت» وعلينا أن ننتظر ميزانية العام الجديد، وكتبت حينها «بوست» بهذا المعنى على صفحتى على فيسبوك، التقطه أعزاء من أصحاب الأقلام والضمائر، منهم عبداللطيف المناوى وخالد منتصر- مع حفظ الألقاب- فوجهوا نداءات إلى وزيرة الثقافة السابقة د. نيفين الكيلانى بأن تتدخل لإنقاذ صلاح جاهين من أنياب الموظفين والروتين.
وحدث أن جمعنى لقاء وقتها بالسيدة الوزيرة، وأخبرتنى بأنها أعطت توجيهاتها للمخرج القدير خالد جلال؛ بوصفه المسئول الأول عن المسرح فى مصر لحل المعوقات، وبدوره أصدر خالد جلال توجيهاته، لكن لا شىء تغير، وبقى صلاح جاهين فى الثلاجة!
وذهبت الوزيرة، وجاء وزير الثقافة الجديد د. أحمد هنو، وتشرفت بلقاء معه فى بداية توليه المسئولية، وطلبت تدخله للإفراج عن زميله صلاح جاهين «باعتباره أنهما يحملان لقب الفنان التشكيلى»، وأحالنى الوزير إلى المسئول الأول عن المسرح فى مصر، ومن جديد أصدر توجيهاته، لكن لا شىء تغير، وما زال صلاح جاهين فى ثلاجة قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية!
شغلنى سر المماطلة والتسويف والتأخير اللا منطقى خلال وزارتين للثقافة، فالوزير لا يمانع ويعطى توجيهاته بالموافقة، والمسئول الأول عن المسرح «رغم انشغالاته الدائمة بين مواسم القاهرة والرياض» لا يمانع ويعطى توجيهاته بالموافقة، لكن بدا لى أن الموافقة فى دولاب المسرح المصرى تأتى من أسفل وليس من أعلى، وأصغر موظف يمكنه أن يعطل قرار الوزير والكبير، والمشكلة أن السادة الموظفين لا يعترفون بصلاح جاهين!
هذا ما اكتشفته مؤخرًا، وبعد عامين من التسويف والمماطلة والتعطيل المتعمد والعبثى، وهو ما تجلى فى رأى الموظفة المسئولة وهى تتساءل باستغراب: هو مين صلاح جاهين اللى خوتونا بيه ده؟!
مربط الفرس فى عقلية هؤلاء الموظفين الذين يديرون المسرح المصرى ويسيطرون عليه ويتحكمون فيه، وأغلبهم يتمتع بغباء يغنيه عن أى علم بتعبير الأبنودى شاعرنا المبدع.
وأحكى هنا واقعة كنت طرفًا فيها، ففى العام الماضى الذى حلت فيه ذكرى مئوية الموسيقار العظيم محمد الموجى، وشرفتنى أسرته الكريمة باختيارى كتابة عمل مسرحى غنائى عن سيرته، ولأننى من عشاق الموجى والعارفين بقدره ومقداره فى دنيا النغم، فقد بدأت بالفعل، ثم تنبهت إلى أن المشكلة ليست فى الكتابة بل فى الإنتاج، وطرقنا أبواب مسئول ظننا أنه بمكانته الموسيقية سيكون أكبر المتحمسين لسيرة الموجى، لكنه صدمنا بالواقع المر: للأسف مفيش ميزانية، وكانت الصدمة الأمر عندما جرى تكريم الموجى بعدها بأسابيع فى حفل أسطورى فى بلد عربى، جعل الغيورين يتساءلون: ألم يكن الموجى أولى بهذا التكريم فى بلده؟!
أين ميزانيات المسرح المصرى إذن؟.. أستطيع أن أقول لك بثقة- كمعلومات وليست تخمينات- إن ٩٠٪ من تلك الميزانيات تذهب كأجور ومكافآت وبدلات للسادة الموظفين، والباقى- أى الفتات- هو الذى يتم توجيهه للإنتاج، فلا تستغرب إذن من حالة البؤس المزرى التى بات عليها المسرح المصرى، الذى لا أعرف لماذا لا يعلنون وفاته؟
لا أملك إذن سوى أن أعتذر لصلاح جاهين عما تعرض له من مهانة فى أروقة قطاع الفنون الشعبية، وكأن جرح النكسة وتوابعه لا يكفيه، فقرر المسئولون عن المسرح المصرى أن يعاقبوه بانتكاسة جديدة.. إحنا آسفين يا عم صلاح!
مشهد من مسرحية «عصفور النيل.. الليلة الأخيرة لصلاح جاهين»
مكان غامض..
لا يوجد به سوى ستارة تخفى تمثالًا بالحجم الطبيعى.
نسمع ميدلى من أغانى صلاح جاهين الوطنية: صورة، بالأحضان، إحنا الشعب، ولا زمان يا سلاحى، يا أهلًا بالمعارك، الله معك «وهى الأغانى التى كتبها صلاح عن الثورة وزعيمها جمال عبدالناصر».
يدخل صلاح بكامل أناقته متهيبًا وكأنه على موعد مع شخصية عظيمة.
يفتح الستارة بتوتر مكتوم، فينكشف تمثال جمال عبدالناصر.
يقف صلاح أمام التمثال متهيبًا ويدور حوله فى تقدير، ويواجهه ويخاطبه وكأن الزعيم أمامه حيًا يسمعه.
صلاح: مساء الخير يا زعيم.. أنا آسف إنى جاى من غير معاد.. ومتأسف إنى جاى متأخر ١٩ سنة.. كان نفسى أجيلك من ساعتها.. من بعد الكارثة.. قصدى النكسة.. لكنى ما أقدرتش أواجهك وأصارحك وأعاتبك وأسألك.. ليه يا جمال؟.. إيه اللى حصل؟.. وليه حلمنا قلب لكابوس؟.. وقتها ما قدرتش أحط عينى فى عينيك.. لأنك أكتر واحد فى الدنيا حبيته لحد العشق.. وأكتر واحد آمنت بيه لحد الانبهار.. أنت بالنسبة لى مش مجرد رئيس.. ده أنت كنت الحلم اللى ورثته عن جدى.. جدى الصحفى الوطنى اللى دخل السجن لأنه بيحب مصر.. جدى صديق ورفيق مصطفى كامل ومحمد فريد.. جدى اللى فضل لحد آخر لحظة فى حياته يحلم إن مصر تتحرر من المحتل والدخيل.. أنا فاكر نظرته ليا وهو بيحتضر، وكأنه بيوصينى وبيحملنى حلمه من بعده.. حلمه فى الحرية والاستقلال.. حلمه بمصر كبيرة عظيمة عفية.. مصر ما فيهاش لا استعمار ولا إقطاع ولا ناس بتمص فى دمها.. كنت أنت تفسير الحلم يا جمال.. كنت بالنسبة لى أبويا وجدى ومصطفى كامل ومحمد فريد وعرابى وسعد زغلول.. كنت البطل اللى جابه القدر.. ورفعنا راسنا لفوق لما ظهر.. وبوسنا السما وياه ودوسنا الخطر.
«من وراء الستار يخرج جمال عبدالناصر وكأن تمثاله تجسد وعاد إلى الحياة».
جمال: والحلم مش جريمة يا صلاح.. وحلمنا عمره ما كان ذنب نعتذر عنه ونتبرى منه.
صلاح: كنت حلمنا الأخضر.. بيك آمنت وليك هتفت وعنك كتبت ومعك حلمت.. حلمت بصناعة كبرى وملاعب خضرا/ وتماثيل ع الترعة وأوبرا/ حلم كنت شايفه حقيقة مش أمانى ولا كلام أغانى.. كنت شايفه لما ناجيته: يا حلم يا أبوالليل يا متزوق/ ليلك سهرناه ونورناه بالمبدأ/ فيه ناس تقول فى الصباح حلمنا والله خير/ وإحنا الصباح بييجى يلقى حلمنا متحقق.
جمال: وأنت كنت صوت الثورة وحلمها يا صلاح.. عشان كده كلامك وصل للناس وصدقوه.
صلاح: وخدعتهم.. لما صحيوا على الكابوس اتهمونى إنى بعت لهم الوهم.
جمال: مكانش وهم يا صلاح.. آه حصل أخطاء.. وأنا حملت نفسى المسئولية كاملة.. وبعدها بدأنا نصلح ووقفنا على رجلينا وبنينا جيشنا ورفضنا الهزيمة وحاربنا.. وانتصرنا.
صلاح: بس النكسة فضلت شرخ فى القلب.. كابوس مش عايز يغور.. تعرف إنى يوم العبور لما عرفت إن جيشنا عبر وانتصر قعدت طول اليوم قلقان وبطنى مكركبة ورايح جاى على الحمام.. كنت خايف ليكون الخبر مش حقيقى والقلب مكانش يتحمل صدمة جديدة.. لكن ربنا كان معانا ورجالتنا خدوا بتارنا وأدوهم العلقة المتينة.
جمال: كبوة وعدت.
صلاح: بس تمنها كان غالى قوى.
جمال: وجاى بعد كل السنين دى تعاتبنى؟
صلاح: يبقى ما تعرفش غلاوتك عندى.. تعرف كانت إيه أسعد لحظة فى حياتى؟
«يدخل والد صلاح جاهين- بدون العباءة- ومعه ورقة صغيرة ويقف أمام الرئيس وكأنه يحلف اليمين كرئيس لمحكمة الاستئناف.. ثم يقترب من عبدالناصر ويصافحه فى إعادة تمثيل للمشهد».
جمال: مبروك يا سيادة المستشار.. بالتوفيق.. قالوا لى إنك والد الشاعر صلاح جاهين.. ده صحيح؟
والد صلاح: صحيح يا فندم.
جمال: ابنك شاعر وطنى وموهوب.. ابقى سلم لى عليه.
والد صلاح: يوصل يا فندم.
صلاح: ورجع سيادة المستشار يومها البيت بعد ما حلف اليمين قدام الرئيس، وبقى رئيس محكمة الاستئناف.. وأول ما شافنى قال لى وهو بيكتم فرحته.
«والد صلاح يتجه إلى صلاح»
والد صلاح: بقى على آخر الزمن أتعِرف بيك أنت يا ولد.. وابقى والد صلاح جاهين ليس إلا.. دى أخرتها؟
صلاح: عشان تعرف بس يا سيادة المستشار إن ابنك حاجة مهمة برضه فى البلد.. حتى لو كان خاب من وجهة نظرك وبقى شاعر ورسام.
والد صلاح: ده عبدالناصر نفسه معجب بيك وبيسلم عليك.
صلاح: علشان تعرف قيمة ابنك يا أبوصلاح.
والد صلاح: صحيح إنك ولد تلفان وما سمعتش كلامى وكملت فى دراسة الحقوق.. بس تعرف إنى من هنا ورايح ح ابدأ أفتخر بيك.. بس مش لدرجة إنى أبقى مجرد والد صلاح جاهين.
صلاح: أنا اللى فخور إنى ابن رئيس محكمة الاستئناف اللى حلف اليمين قدام الزعيم الملهم.. بس معلش مضطر أستأذن.. عندى معاد مع حليم وكمال عشان غنوتنا الجديدة لجمال.
والد صلاح: أنا اللى لازم أستأذن لأنى اتأخرت ع المحكمة.
«يخرج والد صلاح»
جمال: ليه بطلت يا صلاح تكتب أغانى وطنية بعد النكسة؟
صلاح: الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة.
جمال: وضّح؟
صلاح: بعد الحلم اللى اتكسر عشت فترة من الضياع.. إحباط على اكتئاب على تخبط على فقدان ثقة على إحساس بإنى خدعت الناس.. وجت الصدمة التانية لما سبتنا ومشيت.. يومها بكيتك بالدموع.. كنت بودع فيك واحد من أهلى.. حتة من عمرى.
جمال: ياه.. بعد كل السنين دى ولسه قلبك مليان؟
صلاح: الجرح كان كبير.. بس أحلف لك إنى عمرى ما كرهتك.. أنا بكيت من الفرحة لما كنت راجع من رحلة علاج ولقيت بوكيه ورد من الست تحية.. حسيت إنه منك.. وإنك باعتهولى من الجنة.
جمال: الجنة.. الجنة اللى حلمنا بيها على الأرض.
صلاح: وحلمنا اتكسر.. على فكرة أنا جاى لك قريب.
جمال: جاى لى فين؟
صلاح: خلاص.. الرحلة انتهت.. قلت قبل ما أسيب الدنيا آجى أقول لك إنى كنت غلطان.
جمال: غلطان إنك غنيت للوطن.. للناس.. للحلم الكبير؟
صلاح: أبدًا.. غلطان إنى ما دافعتش عن حلمى.. عن كلمتى.. عن فكرتى.. عن الغناوى اللى كتبتها بدم قلبى.. عن التجربة اللى كنت صوتها وضميرها.. عن الأمل اللى عطيته للناس وعيشتهم فيه.. عن حلمنا النبيل فى وطن حر وجميل.. تسألنى إيه خلاك تغير رأيك، أقولك الولاد الصغيرين.. الشباب اللى لقيته حافظ كلامى وبيغنيه وبيدور عليه ومصدقه.. ما تتصورش سعادتى لما لقيت غناوينا لسه عايشة وبيغنيها جيل ورا جيل.
جمال: اللى بيطلع من القلب عمره ما يموت يا صلاح.
صلاح: ياه.. ده الوقت سرقنا وورايا ميت مشوار وميت حلم.. بس أوعدك إنى أجيلك بسرعة نكمل كلامنا وأحلامنا وذكرياتنا.. الوداع يا جمال.. الوداع يا حلمنا المكسور.