حقائق تكشفها وثائق.. كيف أضاع رئيس الرقابة 20 مليون جنيه على خزينة الدولة يوميًا؟
- لماذا لم يرد على «مناقضة» وزارة المالية بإهدار 23 مليون جنيه؟
- تعديلات بلائحة التراخيص لتخفيض رسوم الراقصات دعمًا للفن!
لو اتصلت بأى متعهد حفلات وأفراح وسألته عن أجور الراقصات، فسيجيبك بلا تردد ومن الذاكرة بأن أجر راقصة الدرجة الأولى- وهن كُثر- يبلغ فى المتوسط 60 ألف جنيه فى «النِمرة» التى لا تزيد غالبًا على 45 دقيقة، وبما أن أغلبهن يعملن فى المتوسط خمسة «نِمر» فى الليلة، فيكون دخلها اليومى فى حدود الـ300 ألف جنيه.. ورغم ذلك فإن هناك من يستكثر على صاحبات هذا الدخل أن تدفع الواحدة 10 آلاف جنيه كل سنة مقابل ترخيص العمل، وقرر أن يتم تخفيضه إلى النصف تشجيعًا للفن!
ولو سألت أى شركة إنتاج عن تكاليف إنتاج المسلسلات التليفزيونية، ستسمع أرقامًا بالملايين، تصل فى المتوسط إلى 70 مليون جنيه، ولو سألت منتجًا: هل لديك مانع لزيادة رسوم ترخيص المسلسل إلى 35 ألف جنيه؟، فلن يمانع، إذ إن ما يدفعه كتكلفة يومية للبوفيه يزيد على هذا المبلغ، ولكن هناك من استكثر هذا المبلغ وطلب تخفيضه إلى 25 ألفًا.. رأفة بشركات الإنتاج وتشجيعًا للفن!
لا نقول نكتة، إذ لا يجوز الهزل فى مقام يتعلق بتوجيهات سيادية وقرارات وزارية منشورة فى الجريدة الرسمية، وكلها يتصل بالمال العام وبتعظيم موارد الدولة فى وقت تحتاج فيه الخزانة العامة إلى كل مليم، فما بالك بملايين كان يفترض أن تدخل يوميًا إلى تلك الخزانة.. لكنها ضاعت بفعل فاعل!
لسنا فى مقام اتهام أو إدانة لأى طرف، ولكننا نتكلم هنا بوقائع وحقائق مستندة إلى وثائق، وتقول الوثائق إنه بناء على التوجيهات العليا التى تلقتها وزيرة الثقافة حينها د. إيناس عبدالدايم «٢٠١٩» بالعمل على تعظيم وتنمية موارد وزارة الثقافة فى إطار سياسة عامة للدولة جرى تعميمها على الوزارات والمصالح الحكومية، كانت الرقابة على المصنفات الفنية من بين أهم القطاعات التى حظيت بالاهتمام فى الوزارة، بعدما تبين أن كثيرًا من رسوم الرقابة ثابتة منذ القانون رقم ٤٣٠ لسنة ١٩٥٥ بشأن «تنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحرى والأغانى والمسرحيات والمونولوج»، وكان آخر تعديل طرأ عليه فى العام ١٩٩٣ بالقرار رقم ١٣٦، وزادت فيه رسوم الترخيص السنوى للراقصة- سواء المصرية أو الأجنبية- إلى ١٠ جنيهات!
وبعد اجتماعات ضمت المسئولين عن وزارتى المالية والثقافة، أصدرت وزيرة الثقافة قرارها رقم ٩٠٠ لسنة ٢٠١٩، والمنشور بالجريدة الرسمية فى ٢ يناير ٢٠٢٠، وتحدد فيه الرسوم الجديدة للمصنفات بما يتناسب مع الزمن والظروف والواقع، فزادت فيه رسوم ترخيص الفيلم المصرى إلى ٣ آلاف جنيه والأجنبى إلى ألفى دولار، وزادت تراخيص المسلسل المصرى إلى ٢٥ ألف جنيه والأجنبى ٣ آلاف دولار.. وبلغت رسوم الترخيص السنوى الدائم للرقص الشرقى «للفنانة عضو نقابة فنية» إلى ٥ آلاف جنيه للمصرية و١٠ آلاف للأجنبية، أما ترخيص الحفل الفنى فوصل إلى ٥ آلاف جنيه بعد أن كان ٥٠ جنيهًا فقط لا غير منذ العام ١٩٩٣.
وفى حال المخالفة «ممارسة مهنة أو إقامة حفل دون ترخيص الرقابة» يدفع المخالف غرامة تبلغ ٣ أضعاف قيمة رسوم الترخيص.
وكان المستهدف أن يدخل خزينة الدولة من تلك الرسوم والتراخيص ما يقارب ٢٠ مليون جنيه يوميًا.
وبعد صدور القرار الوزارى ونشره بالجريدة الرسمية، أصدر رئيس الرقابة ما سماه القواعد التنظيمية للقرار، قام فيها بتعديل الرسوم أو قل تخفيضها، وهو أمر بدا غريبًا وغير قانونى، لأن القرار الوزارى لا يجوز تعديله إلا بقرار وزارى أو ما هو أعلى.
ثم إن تخفيض الرسوم نفسه بدا غريبًا وغير منطقى حتى لو كانت الحُجة «نبيلة» كدعم النشاط الفنى، والتيسير على الفنانين، فأى تيسير هذا الذى يُخفض رسوم ترخيص بعض الحفلات إلى ٥٠٠ جنيه فقط، أى بما لا يتجاوز قيمة تذكرة فى الصف الأخير.. ويُخفض رسوم ترخيص التصوير للفيلم إلى ١٠٠ دولار فى اليوم، وللمسلسل المصرى إلى ١٠ آلاف جنيه!
ويمتنع عن إصدار تراخيص للفنانين الأجانب العاملين فى الفنادق والبواخر النيلية والديسكوهات، وحتى فى العدد الضئيل من التراخيص يجرى التحصيل بالجنيه المصرى وليس بالدولار كما طلبت وزارة المالية!
وهى قرارات أضاعت على خزينة الدولة الملايين وتتضاعف الخسائر إذا ما وضعنا فى الاعتبار ما يلى:
- إلغاء الـ١٨ فرعًا التى كان مقررًا أن تكون فروعًا للرقابة فى جميع محافظات مصر، لتسهيل الإجراءات وتيسيرها فيما يتصل بعمل الرقابة وتراخيصها فى تلك المحافظات البعيدة.. وتزامن معه تصفية وتسريح مفتشى الرقابة، فلم يعد هناك من له سلطة قانونية شرعية للتفتيش وضبط المخالفات وتحرير المحاضر وتحصيل الغرامات، وآل الأمر إلى مجموعة من موظفى الأمن لا يحملون صفة قانونية وغير مخولين بالضبطية القضائية.. ويبقى السؤال الأهم: هل تذهب الحصيلة إلى خزينة الدولة؟!
- التراخيص السنوية الرسمية للراقصات- المصريات والأجنبيات- لا تزيد على نسبة ١٠ بالمائة من العدد الإجمالى للمشتغلات بالمهنة.. حسب سجلات الرقابة نفسها.. وكذلك الأمر للمشتغلين بمهنة الدى جى، وهم بالآلاف، فالمقيدون منهم والحاصلون على التراخيص السنوية نسبة لا تُذكر من العدد الإجمالى.. رغم أن أغلبهم لديه استعداد جدى وفورى للحصول على هذا الترخيص، خاصة أن رسومه لا تتجاوز ١٥٠٠ جنيه سنويًا.. فما الذى يحول ويمنع؟
- إلغاء الشرط الذى كان يُلزم المبدع «خاصة فيما يتصل بنصوص الأغانى والمسرحيات والأفلام» بعدم قبول ترخيصها إلا بعد توثيق التنازل عنها لصالح المتنازل له بالشهر العقارى المختص، وذلك إعمالًا بالمادة الخامسة من اللائحة التنفيذية لقانون الرقابة المعدل رقم ١٦٢ لسنة ١٩٩٣، والتى تنص على: «إذا كان طالب الترخيص متنازلًا له عن الحق فى استغلال المصنف ماليًا فلا يعتبر التنازل حجة قِبل الإدارة المختصة بمنح التراخيص إلا إذا كان التنازل ثابتًا بالكتابة من صاحب حق الاستغلال المالى للمصنف الأصلى أو من خلفائه، ومبينًا به طريقة ونوع ومدة استغلال المصنف، وكان مصدقًا على التوقيعات الواردة بالتنازل من مكتب الشهر العقارى المختص».. ولسنوات طويلة كان الشرط معمولًا به وساريًا فى أروقة الرقابة، إلى أن أصدر رئيس الرقابة قرارًا شفويًا باستلام وتقديم تراخيص المصنفات دون تصديق الشهر العقارى.. وفضلًا عن المشاكل القانونية المترتبة عليه فإنه كذلك أضاع على خزينة الدولة مبالغ معتبرة متمثلة فى الرسوم التى تدفع لمكاتب الشهر العقارى لتوثيق تنازلات المصنفات الفنية..ولذلك فهو قرار يستحق المراجعة والمساءلة.. خاصة أن ما تمنحه الرقابة من تراخيص يمكن الطعن عليها قانونًا، ويمكن الحكم ببطلانها لمخالفتها صريح القانون.
- اشتراط الحصول على موافقات من جمعية المؤلفين والملحنين ونقابة المهن الموسيقية قبل إصدار التراخيص الرقابية للحفلات الغنائية والموسيقية، وهى اشتراطات غير قانونية ومستحدثة ولم يكن معمولًا بها فى عهد وزراء الثقافة السابقين.. ورغم صدور فتاوى قانونية باتة بأن ذلك «يعد مخالفة لأحكام القانون ٤٣٠ لسنة ١٩٥٥ والمعدل بالقانون ٣٨ لسنة ١٩٩٢ الذى لم يذكر الحصول على موافقات من جهات أخرى لاستصدار التراخيص، بل إن استطلاع رأى جهة أخرى يعتبر سلبًا وتنازلًا عن اختصاص وزارة الثقافة المنصوص عليها قانونًا».. وأنه «لا يجوز لأى جهة من جهات الوزارة طلب أى شهادات أو بيانات صادرة من أى جهة بخلاف تلك المنصوص عليها فى القانون رقم ٨٢ لسنة ١٩٩٢ وقرار السيد رئيس مجلس الوزراء رقم ٤٩٧ لسنة ٢٠٠٥».
ورغم ذلك استمر هذا الوضع المخالف للقانون، ولن أتوقف عند حقيقة النسب التى تتحصل عليها الرقابة من الرسوم التى تحصلها الجمعية والنقابة من تراخيص الحفلات الغنائية، ولكنى أتوقف عند ما هو أهم، وما لا يمكن إنكاره، وهو الاعتراضات التى قوبلت بها قرارات وإجراءت السيد رئيس الرقابة، وكان على رأس المعترضين مدير مكتبه، الذى فوجئ بنقله من عمله بالرقابة، التى قضى بها ثلاثين عامًا، إلى عمل إدارى بمقر الوزارة القديم بشارع المساحة بالدقى.
أما اعتراضات وزارة المالية، والتى تمثلت فى مناقضات لقرارات وإجراءات السيد رئيس الرقابة، خاصة فيما يتعلق بتخفيضه غير المنطقى للرسوم التى تم إقرارها بقرار وزارى رسمى، فإنها لم تتلق عليها ردًا مقنعًا.. ويبدو أن السيد رئيس الرقابة ما زال يبحث عن رد على ما جاء فى مذكرة وزارة المالية بشأن إهدار ٢٣ مليون جنيه من المال العام.
ملف «الرسوم» هو واحد من الألغاز المحيرة فى ملف الرقابة على المصنفات الفنية.. لكن ما زال فى الملف ما هو أخطر ويدير الرءوس ويستحق أن نغامر بفتحه وكشفه.. وتفجيره!