معركة الـ20 عامًا قصة إعادة بناء مركز التجارة العالمى
- مطور عقارى أمريكى يروى مذكراته عن إعادة بناء مركز التجارة العالمى بعد 11 سبتمبر
- تكلفة إعادة بناء المركز ارتفعت 7 أضعاف بسبب البيروقراطية الحكومية
قصة ملحمية عن الأعمال والسياسة والهندسة لم تروَ من قبل، كتبها رجل قضى عقدين من الزمن فى إعادة بناء مركز التجارة العالمى، فبعد الدمار الذى سببته الهجمات الإرهابية التى وقعت فى الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، كان لدى الأمريكيين مجموعة من الأسئلة الحاسمة.
وكان لسان حال سكان مدينة نيويورك يقول ما الذى ينبغى فعله بالموقع؟ هل يمكن استبدال البرجين؟ وما هى أفضل السُبل لإحياء ذكرى أولئك الذين فقدوا أرواحهم فى ذلك اليوم؟
لكن بالنسبة للمطور العقارى ورجل الأعمال لارى سيلفرشتاين، مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة سيلفرشتاين بروبرتيز، والذى وقّع عقد إيجار للعقارين قبل أشهر قليلة فقط من الهجمات لمدة 99 عامًا، مقابل 3.25 مليار دولار، كانت الإجابة واضحة: كان على أمريكا أن تعيد البناء فى أسرع وقت ممكن.
فى كتابه «النهضة: معركة العشرين عامًا لإعادة بناء مركز التجارة العالمى»، يروى سيلفرشتاين، البالغ من العمر 93 عامًا، بتفاصيل حية، معركته الطويلة فى صراع المصالح السياسية، والبيروقراطية، وشركات التأمين المقاومة، لبناء مجمع جديد لمركز التجارة العالمى، وإحياء الحى المحيط به، مع تخليد ذكرى ضحايا الهجمات.
وفى حوار له لصحيفة «نيويورك بوست» وقتها وكان يتنافس مع ثلاث شركات أكبر بكثير ومدرجة فى البورصة، قال: «نحن نتوق إلى مركز التجارة العالمى، الجائزة الكبرى من بين كل الجوائز».
الكتاب من نوعية المذكرات الشخصية، ويأتى فى 368 صفحة، وصدر فى شهر سبتمبر الماضى عن دار نشر «كنوبف» الأمريكية، قبل يوم واحد من الذكرى الثالثة والعشرين لهجمات 11 سبتمبر.
وتعتمد الفكرة الأساسية للكتاب على نقل صورة للإنجاز الرائع من الرؤية والتصميم فى عملية إعادة بناء المركز، مع منح درس رئيسى فى كيفية تحقيق النجاح فى مجال الأعمال، على الرغم من كل الصعاب.
قوى متحالفة
يبدأ المشهد الأول من المذكرات بوصف حالة المؤلف يوم أحداث الحادى عشر من سبتمبر، فبعد الساعة التاسعة صباحًا بقليل، كانت نشرات الأخبار تتخللها تقارير عن اصطدام طائرة خاصة صغيرة بأحد أبراج مركز التجارة العالمى المكونة من ١١٠ طوابق عند سفح «مانهاتن» الأمريكية.
وفى صباح هذا اليوم، كان من المفترض أن يتناول الكاتب وجبة إفطاره المعتادة فى مطعم واقع فى الطابقين ١٠٦ و١٠٧ من البرج الشمالى لمركز التجارة العالمى، ولكن قبل أن يغادر، ذكّرته زوجته كلارا بأنه كان من المقرر أن يتوجه إلى المدينة، لحضور موعد مع طبيب الأمراض الجلدية.
وهو ما أنقذ حياته، ومثل بقية العالم، شاهد فى رعب وعدم تصديق سقوط برجى التجارة العالمى، والذى خلّف ما يقرب من ٣ آلاف ضحية، وكان له تأثير نفسى عميق ودائم على مدينة نيويورك والولايات المتحدة.
ويقول سيلفرشتاين عن هذا الموقف: «بعد أحداث ١١ سبتمبر، وجدت نفسى فى موقف صعب للغاية».
فبعد الصدمة والرعب الذى أحدثته الهجمات والوعود اللاحقة بإعادة بناء موقع مركز التجارة العالمى، لم يبق أمام المؤلف سوى الالتزام بإيجار ١٠ ملايين دولار شهريًا أو ما يعادل ١٢٠ مليون دولار سنويًا لهيئة ميناء نيويورك ونيوجيرسى على منشآت لم تعد موجودة.
فمركز التجارة العالمى كان أكثر من مجرد برجين توأم مميزين: فقد كان مجمعًا من أبراج على مساحة ١٦ فدانًا، تم بناؤها وتشغيلها بواسطة هيئة ميناء نيويورك ونيوجيرسى.
ويصف الكاتب تجربته فى محاولة إعادة البناء قائلًا: «كانت هناك قوى قوية عديدة متحالفة ضدى. ووجدت نفسى فى صراع مع حكام طموحين، ورؤساء بلديات مخطئين، وبيروقراطيين غير أكفاء، وشركات تأمين جشعة، وصحافة انتقامية فى كثير من الأحيان».
وقد أدى هذا إلى المزيد من التخطيط، والمحامين، والدعاوى القضائية باهظة الثمن ضد ٢٤ شركة تأمين رفضت دفع مستحقات مقابل الهجمات، واستغرق الأمر خمس سنوات من التقاضى، حيث أرادت أن تدفع نصف ما كان مستحقًا له فقط من إجمالى ٥ مليارات دولار.
ويقول سيلفرشتاين: «وجدت نفسى فى مواجهة قدر هائل من السلبية. أتذكر أن شركات التأمين أخبرتنى بيقين مطلق أن لا أحد سيشغل هذا الموقع مرة أخرى»- لقد عرضوا عليه الملايين للانسحاب، بدلًا من المليارات التى سيتم إنفاقها على إعادة البناء- «قلت، أنا من سكان نيويورك. لدينا التزام بإعادة البناء. إذا لم نفعل ذلك، فسوف يتسبب ذلك فى أضرار جسيمة فى المستقبل ويعطى الإرهابيين بالضبط ما يريدون. هل تريد منى أن آخذ بعض المال؟ ليس لدى أى مصلحة فى ذلك». قالوا: «لكل شخص ثمنه». قلت: «ليس لدى ثمن. لدى التزام».
وبدت قضية سيلفرشتاين ميئوسًا منها حتى تدخل الحاكم آنذاك «إليوت سبيتزر» وحصل له على المقابل، وبالإضافة إلى ذلك كانت فواتير الهندسة المعمارية فلكية.
تحديات هندسية
وواجه المؤلف تحديات أخرى فى التعامل مع تصميم وهندسة وبناء الأبراج الجديدة، حيث كان من المقرر تشييد العديد من المبانى الجديدة فى موقع «جراوند زيرو»، وهو الاسم الذى يطلق على المكان الذى كان به مركز التجارة العالمى، وكان كل مبنى يتطلب مصممين ومهندسين وصلبًا خاصًا ومواد أخرى تجعله مقاومًا للانفجارات.
وأيضًا كل مبنى يتطلب اتفاقيات وعقودًا مع العديد من الكيانات، ومعظمها لا يثق فى أى شخص آخر. استغرقت المفاوضات التى كانت متوترة فى كثير من الأحيان أشهرًا، وتضمنت الترهيب والشتائم والمزيد من الوعود المكسورة.
وأقام الساسة مراسم قص الشريط للإعلان عن إعادة البناء. ضمنت البنوك التمويل، ثم انسحبت. وافق المستأجرون المحتملون على صفقات متعددة السنوات والملايين من الدولارات ثم ألغوها، مما ترك شركة الكاتب بدون دعم مالى لقروضه. كما قدم المحافظون تعهدات ثم تراجعوا.
برج الحرية
فى مرحلة ما، كان من المقرر أن يطلق على المبنى الرئيسى والبرج رقم ١، وجوهرة التاج الجديدة لمركز التجارة العالمى، وهو البرج الأطول بارتفاع ١٧٧٦ قدمًا أى حوالى ٥٤١ مترًا، اسم «برج الحرية»، والذى تم البدء فى إعادة بنائه فى عام ٢٠٠٦، ردًا على الهجمات.
ورغم أن الاسم بدا جيدًا وهو يخرج من أفواه كبار الشخصيات فى المؤتمرات الصحفية، إلا أن المستأجرين المحتملين كانوا قلقين من أن يشكل هذا الاسم هدفًا للإرهابيين.
وفى النهاية، أطلق على المبنى اسم «مركز التجارة العالمى». وبعد مساومات طويلة ومريرة، تم الاتفاق على أن تقوم هيئة الموانئ ببنائه، بينما تتولى شركة سيلفرشتاين بناء المبانى الأخرى فى الموقع.
وفى البداية عرضت هيئة الموانئ مئات الملايين من الدولارات، لشراء عقد الإيجار الأصلى الخاص به، لكنه رفض، موضحًا: «لم أفكر فى العروض ولو للحظة واحدة... لم يفهم أحد أن مشاركتى فى مركز التجارة العالمى بعد أحداث ١١ سبتمبر لم تكن فى المقام الأول تتعلق بالمال أو الربح. كان هناك شىء أكبر وأكثر عاطفية وأكثر أهمية يحفزنى. لقد كنت مصممًا على إظهار للأشخاص الذين هاجموا أمريكا أننا لا نستسلم».
وكانت هناك دعاوى مختلفة لاستبدال الاستخدامات التجارية للموقع، وأن تكون المنطقة بأكملها متنزهًا.
صمود نيويورك
يفتخر سيلفرشتاين بتحويل موقع التجارة العالمى إلى مركز رئيسى للتجارة والفنون والثقافة، ويقول: «فى الحقيقة، لم أتوقع حقًا أن يستغرق الأمر ٢٣ عامًا».
ويضيف: «كنت أتوقع حقًا أن أنهى هذا العمل فى خلال عشر سنوات. ولكن المشروع عبارة عن شراكة بين القطاعين العام والخاص. والجوانب العامة تستغرق وقتًا أطول. إنها مجرد حقيقة من حقائق الحياة».
وطورت شركة المؤلف ثلاث ناطحات سحاب جديدة فى موقع مركز التجارة العالمى وهى أبراج ٧ و٤ و٣، كما تقوم الشركة بتطوير البرج ٥ مع شركاء، بما فى ذلك شركة «بروكفيلد» العقارية كتطوير متعدد الاستخدامات، يضم حوالى ١٢٠٠ شقة.
ويقول الكاتب: «لا تراهن أبدًا ضد نيويورك»، فهو يعتقد أن المدينة قادرة على التغلب على أى أزمة، حيث تمت الآن إعادة بناء حرم مركز التجارة العالمى. ويتم البحث عن مستأجرين رئيسيين للمبنى الأخير، برج ٢، وبذلك تم العمل فى خمسة من الأبراج المخطط لها، وتأجير ٩٧٪ منها.
ويتوافد الزوار من مختلف أنحاء العالم على النصب التذكارى للضحايا ومتحف الحادى عشر من سبتمبر، ومركز «أوكولوس» الذى يضم مئات المتاجر ويعتبرونه واحدة من أحدث الجواهر المعمارية فى نيويورك، ومركز «بيرلمان» للفنون المسرحية الجديد.
بينما تشكل أبراج المكاتب التى أنشأها سيلفرشتاين، القوة الاقتصادية وراء كل هذه الأبراج.
أسوأ الاعداء
وفى مذكراته يفتخر المؤلف بأنه بعد أكثر من عقدين من الزمن، كان مصدر إزعاج لمجموعة من أصحاب النفوذ فى نيويورك، ومنهم ٥ حكام، و٤ رؤساء بلديات مثل رودى جوليانى، ومايكل بلومبرج، وبيل دى بلاسيو، وجورج باتاكى، وأندرو كومو.
بجانب ٧ مديرين تنفيذيين لهيئة الموانئ، والتى يعتبرها أسوأ أعدائه فى المعركة، فهذه الهيئة تمول نفسها من خلال الرسوم وخزانتها الخاصة. وتجسد السلطة التكنوقراطية المركزية التى تتحرك عبر حدود الولايات.
وكان المطورون يجدون صعوبة فى التعامل معها، ومن هنا جاءت ميزة سيلفرشتاين، عندما انسحبت شركة أكبر من المزايدة على مركز التجارة العالمى، فى حالة من الغضب.
ويقول الكاتب عن معاناته مع الهيئة: «منذ اللحظة التى بدأت فيها عملية إزالة الأنقاض.. بدا الميناء حريصًا على إبعادى عن عملية إعادة الإعمار». وفى عام ٢٠٠٥، «قررت هيئة الموانئ أن الوقت قد حان لإبعادى عن الصورة مرة واحدة وإلى الأبد».
وأمضى سيلفرشتاين سنوات فى القتال مع هيئة الموانئ حول من ينبغى له إعادة بناء الموقع وبأى أموال وفى أى جدول زمنى، وكان عليه باستمرار أن يعمل مع أشخاص لا يلتزمون بالخطط أو الجدول الزمنى.
وظل يحاول أن يتوصل إلى ما ينبغى له أن يفعله بشأن مئات من عمال البناء الذين استأجرهم وأطنان الفولاذ التى طلبها. وعندما واجه قادة الهيئة بشأن التأخيرات، يعلق الكاتب ضاحكًا: «قالوا إن الإطار الزمنى كان (طموحًا). فكيف تتعامل مع هذا؟».
ويقول المؤلف: «فى الشركات الخاصة، تقوم بتخصيص ميزانية وبمجرد تحديد تكلفة المبنى، تقوم بتحديد إطار زمنى للبناء وتعمل بكل جهد لإنجازه بحلول ذلك التاريخ».
ويضيف: «إذا لم تفعل ذلك، فسوف تتجاوز الميزانية. لكننى وجدت أنه فى الحكومة، لم يكن هذا أمرًا بالغ الأهمية على الإطلاق. لم تكن أموالهم، لذا فقد استغرقوا وقتًا لم يكن ينبغى أن يستغرقوه».
ويعلق الكاتب على الطريقة التى يتعامل بها موظفو هيئة الموانئ مع اجتماعات التصميم الأسبوعية فى نهاية كل يوم ويغادرون. «كنت أقول، إلى أين أنتم ذاهبون؟ لدينا الكثير من العمل للقيام به؟». ويقولون: «الساعة الخامسة». «لقد كانت تجربة مذهلة أن أشاهد هذا».
ويشير سيلفرشتاين إلى أن التعقيد الشديد للعمل على مشروع بهذا الحجم، والصعوبات التى فرضتها البيروقراطية الحكومية، أدت إلى تضخم ميزانية إعادة البناء التى قدرت فى الأصل بنحو ٣.٢ مليار دولار، إلى أكثر من ٢٠ مليار دولار.
ويقول المؤلف إن عدم الكفاءة الفادح من هيئة الموانئ لم يكن وحده هو المشكلة، بل إن الهيئة اتهمته بمحاولة تحويل المأساة إلى ثروة شخصية، وتم تصويره على أنه مطور انتهازى جشع، فيقول: «قال الناس إننى سآخذ المال وأهرب. كان هذا هو الشىء الأكثر سخافة الذى سمعته على الإطلاق».
أرض مقدسة
ويتحدث المؤلف بصراحة عن الأثر العاطفى الذى خلفه المشروع، وخاصة عند لقائه بعائلات الضحايا.
ويحكى: «كانت العائلات تأتى إلىّ وتقول: لا يمكنك البناء هنا؛ فهذه أرض مقدسة»، وواجه صعوبات فى التعامل مع هذه المحادثات، ولكنه فى النهاية شعر بالمسئولية تجاه ملايين سكان نيويورك الذين اعتمدوا على المحرك الاقتصادى الذى كان مركز التجارة العالمى يمثله قبل الهجمات.
ويقول الكاتب: «كان علينا أن نعيده إلى نيويورك والبلاد. كان النشاط التجارى هنا بالغ الأهمية، ولولا إعادة البناء، لتحول هذا المكان إلى حقل فارغ».