أصلية أم مستنسخة؟.. لُغز لوحة راغب عياد فى «رامتان»
- الفنان أهداها إلى طه حسين ضمن مجموعة مميزة للوحاته
- الروائى شريف عبدالمجيد شكك فى أصليتها بعد فحصها
- رئيس قطاع الفنون التشكيلية: 99% سليمة.. وشكّلنا لجنة لفحصها
- مديرة المتحف: عدم توقيع الرسام عليها ربما تم بطلب من طه حسين
- مزادان فى أوروجواى وفرنسا لبيع لوحات الفنان الراحل
يُذكر لهذا الفنان نضاله فى العشرينيات من أجل دعم وتحويل اهتمام الدولة إلى الفنون الجميلة، عندما اتبع مع زميله يوسف كامل فكرة «البعثة التبادلية»، فسافر الأخير للدراسة فى روما سنة دراسية، بينما تولى هو أداء عمله نيابة عنه وإرسال راتبه إليه، ثم تبادلا المواقع فى السنة التالية؛ وكان أثر هذه المبادرة عميقًا من الناحيتين السياسية والثقافية، فاعتمد أول برلمان مصرى عام 1924 مبلغ 12 ألف جنيه سنويًا للإنفاق على بعثات الفنون الجميلة.. هذا على المستوى السياسى.
أما إسهاماته على المستوى الفنى؛ فيذكر له تكليفه بتنظيم المتحف القبطى بحى مصر القديمة عام 1941 تحت رعاية سميكة باشا، وتوليه منصب مدير متحف الفن الحديث بالقاهرة عام 1950، ومساهمته فى إنشاء جناح خاص لأعمال المثال المصرى محمود مختار داخل المتحف نفسه فى العام ذاته، ومشاركته فى تأسيس جماعة أتيليه القاهرة، وإطلاق الدعوة لإنشاء الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة بروما.
إنه الفنان الكبير راغب عياد، المولود فى ١٠ فبراير ١٨٩٢، والمتوفى فى ١٦ ديسمبر ١٩٨٢، والذى يعتبر آخر الرواد الستة للفن المصرى الحديث مع محمود مختار، ومحمود سعيد، ومحمد ناجى، وأحمد صبرى، ويوسف كامل.
راغب عياد، الذى يعد رائدًا لـ«التعبيرية المصرية» المختلفة عن الأوروبية بأنواعها، تميز بالخطوط القوية المحددة، والبعيدة عن النعومة المرفهة، والتفاصيل غير الضرورية فى تصوير الحشود والتكوينات المعقدة التى اعتمد فيها على موسيقية الخطوط، وإيقاعها، وتشابكها، وهى تقاليد جمالية تتصل بالفن الإسلامى.
ويعد «عياد» أحد أكثر الفنانين الرواد جرأة وتحررًا فنيًا، فبينما قنعوا جميعًا باتباع الأساليب التقليدية فى الرسم والنحت ولم يتجاوزوا الاتجاه التأثرى، اندفع هو إلى شكل من التعبيرية تقترب أحيانًا من الكاريكاتير.
وبدافع من الرغبة فى تحقيق الأصالة، اختار الأفراح الشعبية الريفية وحياة الفلاحين ومباهجهم التقليدية موضوعًا للوحاته، بالإضافة إلى حياة الرهبان فى الأديرة وتسجيل الموضوعات الدينية القبطية بأسلوبه التعبيرى الريفى، وتخصصه لفترة طويلة فى رسم الأيقونات الدينية.
ورغم تاريخه ومنجزه الضخم وما قدمه لوطنه من أعمال جليلة، تعرضت أعمال «عياد» إلى النهب والتخريب والإخفاء العمدى وغير العمدى، وكانت آخر تلك الحوادث ما أثير مؤخرًا عن أن لوحته المعلقة على جدار الطابق الثانى بمتحف طه حسين «رامتان»، مستنسخة وليست أصلية، وهى الواقعة التى سعت «حرف» لاستجلاء حقيقتها خلال هذا التحقيق.
فنان الأيقونات
بداية الواقعة كانت عندما قال القاص والروائى والمصور الفوتوغرافى، شريف عبدالمجيد، إن لوحة «عياد» فى منزل طه حسين، ربما تكون مستنسخة، وليست أصلية، مطلقًا تساؤلًا للمتخصصين للتحرى عن هذا الأمر.
وكتب «عبدالمجيد»، فى منشور على حسابه بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، قائلًا: «زرت متحف رامتان، منزل عميد الأدب العربى طه حسين، وساورنى شك هل لوحة راغب عياد المهداة للعميد هى اللوحة الأصلية أم نسخة مقلدة منها؟ لذا أتمنى من الزملاء فى الصحافة الثقافية التأكد من ذلك».
وتبين أن لوحة راغب عياد توجد فى غرفة المعيشة بالطابق الثانى بالمتحف، حسب الموقع الرسمى له، وهى الغرفة التى كان يجلس فيها الدكتور طه حسين فى حالة عدم تمكنه من النزول للطابق الأول.
وبعد التدقيق فى ملاحظة شريف عبدالمجيد حول لوحة راغب عياد فى متحف طه حسين «رامتان»، كان من الضرورى تسليط الضوء على العلاقة المميزة التى جمعت بين الدكتور طه حسين والفن التشكيلى، حيث كان الأول شغوفًا بحضور معارضه، وكثيرًا ما اصطحب زوجته الفرنسية سوزان فى تلك الجولات الفنية.
وتبرز هذه العلاقة من خلال إهداءاته الرومانسية لزوجته، ومنها لوحة تصور العذراء أهداها لها فى عيد ميلادها، والتى اقتناها عندما التقى بها فى مونبلييه بفرنسا عام ١٩١٥، قبل زواجهما فى ٩ أغسطس ١٩١٧.
وإلى جانب ذلك، كانت غرفة سوزان، المجاورة لغرفة الموسيقى فى الطابق الثانى من متحف طه حسين، مزينة بلوحات لفنانين بارزين مثل بيير بيبى مارتن وعبدالقادر رزق، فضلًا عن أعمال أخرى فنية رائعة، مما يعكس ذوقًا فنيًا راقيًا وروحًا مُحبة للجمال.
تلك العلاقة التى بدأت باكرًا عقب عودة العميد من بعثته الثانية فى إيطاليا عام ١٩٣٠، وهى البعثة التى سافر عبرها على نفقة الدولة، واستمرت لخمس سنوات وحصل خلالها على ٣ دبلومات.
وحين عُين طه حسين عميدًا لكلية الآداب جامعة القاهرة، رفض منح الدكتوراه الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية المرموقة، مثل عبدالعزيز فهمى، وتوفيق رفعت، وعلى ماهر باشا، فصدر قرار بنقله إلى وزارة المعارف، لكن العميد رفض تنفيذه.
الرسام والعميد
فى ذلك الوقت كان راغب عياد فى إيطاليا، وكان يتابع عن كثب أزمة كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» التى أثيرت عام ١٩٢٦، بعد عام واحد فقط من سفره فى بعثة إلى هناك. ورغم التباعد الجغرافى، تطورت العلاقة بينهما بشكل ملحوظ بعد عودة «عياد» إلى القاهرة، واستمرت لسنوات عديدة.
وفى عام ١٩٤٥، عندما كان «عياد» يشغل منصب رئيس قسم الدراسات الحرة، أرسل خطابًا رسميًا إلى طه حسين، يعلن فيه منحه الميدالية التذكارية للمثال المصرى الكبير محمود مختار بمناسبة مرور ٢٠ عامًا على وفاته، تكريمًا لدعم ورعاية العميد لمتحف «مختار».
ولاحقًا، تولى «عياد» إدارة متحف الفن الحديث عام ١٩٥٠، وحرص على إهداء طه حسين لوحات فنية مميزة، وُضعت فيما بعد ضمن مقتنيات متحف «رامتان»، ما يعكس تقديرًا متبادلًا بين عميد الأدب العربى والفنان الكبير.
وبعد استعراض طبيعة العلاقة بين راغب عياد وطه حسين، ننتقل إلى الدكتورة مروة محيى الدين حسن، مديرة متحف طه حسين «رامتان الثقافى»، حيث سألناها عن ما ورد فى منشور الروائى شريف عبدالمجيد، وتحديدًا حول الغموض الذى يحيط باللوحة غير الموقّعة لـراغب عياد الموجودة فى المتحف.
وأشارت الدكتورة مروة إلى أن هذا السؤال يحمل أهمية كبيرة، خاصة أن توقيع الفنان على لوحاته يُعتبر عنصرًا أساسيًا فى توثيق العمل الفنى، ومن هنا، تُطرح تساؤلات حول السبب وراء غياب التوقيع؛ هل كان ذلك بناءً على طلب خاص من طه حسين؟ أم أن اللوحة كانت ضمن أعمال عياد الشخصية التى لم تُطرح للجمهور؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى تتعلق بظروف إنجاز العمل؟
ويبقى غياب التوقيع أحد الألغاز الفنية المرتبطة بهذا العمل، ما يفتح الباب أمام مزيد من البحث والتمعن فى تفاصيل العلاقة الفنية بين راغب عياد وطه حسين، والدور الذى لعبته هذه العلاقة فى توجيه مسار الفن المصرى الحديث.
وأكدت أن متحف طه حسين يضم نوعين من اللوحات أصلية ومستنسخة، مشيرة إلى أنه قد تكون اللوحة المشار إليها لراغب عياد من اللوحات المستنسخة، مؤكدة أنها ستتحقق غدًا من صحة هذا الأمر عند ذهابها للمتحف.
وأشارت مديرة المتحف إلى أنها لم تتسلم مهام عملها بالمتحف سوى من ٣ أشهر مضت؛ ومع ذلك ستتحقق من هذا الأمر.
وتوجهنا إلى الناقد التشكيلى صلاح بيصار للاستفسار عن السيناريوهات المحتملة لتلك الواقعة، حيث قال: «لو اللوحة مستنسخة تبقى موقعة إلا إذا كان أحيانًا يكون هناك تفصيل فى اللوحة بمعنى (تم قصها)، وإنه جايز جدًا تكون لوحة مستنسخة وتم قص التوقيع، أو أن التوقيع اختفى فى البرواز نفسه».
وأرسل «بيصار» إلينا لوحتين من أعمال راغب عياد للمقارنة بينهما وبين اللوحة التى صورها شريف عبدالمجيد بالمتحف، مشيرًا إلى أن اللوحة إما قد يكون تصويرها ليس واضحًا أو ليست لراغب عياد بالأساس.
وقال: «التصوير مش واضح أو هى كدا ممكن أساسًا ماتكونش لراغب عياد، شوف لمسة راغب عياد وهو بيحدد الشكل، خطوطه واضحة وأسلوبه، اللوحة الأخرى مختلفة عن طريقته بس فيها عناصر زى عناصره».
كما أرسلنا إلى الدكتور وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية، للتحقق من الواقعة، فما كان منه إلا أن أرسل رسالة قال لنا فيها: «سأبحث فى هذا الأمر غدًا مع مديرة المتحف».
وبعد دقائق من رسالته؛ أرسل رسالة أخرى قال فيها: «مديرة المتحف هتجيبلى تمام اللوحة بُكرة إن شاء الله من سجلات وأوراق المتحف، كما بلغت مدير عام الترميم يروح المتحف بكرة بدرى يفحصها كويس، وكلمت حسن الزيات حفيد طه حسين، وهيرد علىّ بشأنها».
وأضاف: «طبعًا أول ما أوصل لمعلومة أكيدة هبلغكم، بكرة هجيب لكم أصل الموضوع، بس ٩٩٪ اللوحة سليمة، وده يخلينى أعتب على المشككين من غير المتخصصين».
وعاد الدكتور وليد قانوش بعد يومين من رده، وأرسل إلينا قائلًا إنه بناء على تحقيقنا الصحفى، تم تشكيل لجنة من المتخصصين لفحص العمل وتأكيد أصليته من عدمه، ومراجعة كل مستندات دخوله للعرض المتحفى وإعلان نتيجة عمل اللجنة فور الانتهاء منه خلال أيام.
مكانة عالمية
خلال تحقيقنا فى القضية، توصلنا إلى اكتشاف جديد أثناء تتبعنا لكل ما يتعلق بأعمال الفنان راغب عياد، حيث تبين أن بعض لوحاته الأصلية والموقعة قد ظهرت فى أحد المزادات الدولية مؤخرًا.
وفى ٢٩ نوفمبر ٢٠٢٤، أعلن الموقع الإلكترونى لمزاد دولى يُدعى «زوريلا»، ومقره فى مدينة مونتيفيديو عاصمة أوروجواى، عن عرض لوحة موقّعة ومؤرخة لراغب عياد تعود إلى عام ١٩٧٧ بعنوان «قافلة فى الصحراء»، وهى منفذة بتقنية الألوان المائية على ورق مقوى، بمقاس٥٠ × ٧٠ سم، وتم تقدير سعرها فى المزاد ما بين ٤٠٠٠ دولار و٧٠٠٠ دولار.
وعقب إعلان بيع لوحة «قافلة فى الصحراء»، أعلن نفس الموقع الإلكترونى عن مزاد آخر يحمل اسم «ميلون آند أسوشييز»، مقره باريس، فرنسا، عرض خلاله لوحة ثانية للفنان راغب عياد، تحمل اسم «ممر العائلة المقدسة فى مصر»، وجرى عرضها للبيع فى ١٩ ديسمبر ٢٠٢٤.
وتم تحديد السعر التقديرى للوحة بين ٨٠٠٠ و١٠٠٠٠ يورو، وبالفعل نجح المزاد فى بيعها، ما يعكس الإقبال الكبير على أعمال «عياد» التى تجمع بين الأصالة والرمزية التاريخية.
وتعد اللوحة المنفذة بروح شرقية عميقة واحدة من أبرز الأعمال التى سلطت الضوء على رحلة العائلة المقدسة فى مصر، وهو موضوع نادر تناوله «عياد» بأسلوبه المميز الذى يجمع بين الواقعية والتعبيرية.
هذا الاكتشاف يفتح نافذة جديدة على وقائع نقل أعمال «عياد» إلى الخارج، كما يعكس القيمة الفنية الكبيرة التى تحظى بها لوحاته، سواء الموقعة أو غير الموقعة، فى الأوساط الفنية الدولية.
وتعد هذه المزادات تأكيدًا على مكانة راغب عياد كأحد رموز الفن المصرى، الذى يحظى بتقدير واسع ليس فقط فى الأوساط المحلية بل على الساحة الفنية العالمية أيضًا، وهى مزادات شملت بيع أعمال لفنانين آخرين من مصر والشرق الأوسط؛ أبرزهم زينب السجينى، وعلاء بشير، وآخرون.